من الذاكــرة.. أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 20 / فائز الحيدر         

قصف مدينة الأهواز ومغادرة إيران

 الفصل الأخير 20

في زيارتنا الثانية لمدينة الأهواز والتي كانت في بداية شهر آذار من عام 1987 عشنا عدة أحداث صعبة مؤلمة كادت تـؤدي بحياتنـا، هـذه الأحـداث جعلتنا نسرع الخطى لحسم مسألة خـروجنا من ايـران، بعد أيام أقترح عليّ أحد الأقارب وهو الأخ شجر سالم الخميسي (أبو فريد) مرافقته بالسفر الى طهران للقـاء قريبه الجندي أسـير الحرب ( رغيـد) الموجود في معسكر اللاجئين في مدينة (كـرج) والذي سـبق وبعـث برسالة الى قريبه أبـو فريد يطلب منه المساعدة بعـد سقوطه بالأسر في أحدى المعارك وإحتجازة في معسكر كرج.

 وجدتهـا فرصة مناسـبة لرؤيـة مدينـة كرج التي سمعت عنهـا الكثير، كرج مدينـة تقع أسـفل جبال (البرز) وعلى بعد 20 كيلومتراً غرب طهران وتتبعها أداريا" وذات مناخ أكثر برودة من طهران، يقدر عدد سكانها المائة ألف نسمة وتتميز بحسن جمال نسائها المميزعن المدن الأيرانية الأخرى، وللمدينة تأريخ كبيــر حيث يوجد فيها معبد حجري يتبع الديانة الزرادشتية يعود إلى العصر الأشكاني .

بعــد عناء السفر الطويل الذي استمر طيلـة الليل وصلنا الى العاصمة طهران في ساعة مبكرة من صباح اليوم الثاني وبعد تناول الفطورفي احدى المطاعم الشعبية توجهنا الى مدينة كـرج مباشرة التي وصلنا لها في التاسعة وتوجهنا مباشرة الى معسكر الأسرى لمقابلة رغيد ولكن سلطات المعسكر لم تسمح لي بالدخول بينما دخل الأخ ابو فريد وألتقى معه لأكثر من ساعتين ومع الأسف لم يستطع الحصول على اجازة له كونه عسكري ولا زال التحقيق معه لم ينتهي بعـد، بعد مضي عدة اشـهر من هـذه الزيارة استطاع رغيـد ان يكمل كـل التحقيقـات ويحصل على اجازة ويزور أقاربه في الأهـواز، وبعد سنوات في معسكر كـرج مع الأخـرين غادر رغيـد المعسكر ضمن حملة تبادل الأسرى بين العراق وايران ووصل الى دمشق ليبدأ حياته من جديد ولكن القدر لم يمهله طويلا" حيث توفي بعد فترة قصيرة من وصوله في حادث سيارة مؤسف غامض تحاك حوله الشكوك والشبهات .

لقد كانت السلطات الأيرانية تعامل اللاجئين معاملة سيئة جدا"، اللاجئون يُحتجزون في معسكرات تحيطها الأسلاك الشائكة، ولا يُسمح للاجئ بمغادرتها ليوم أو يومين في الأسبوع إلا بإذن من المسؤولين ولم تكن هذه السلطات تسمح لللاجئين بالسفر إلى خارج إيران إلا بعد إجراءات طويلة وقاسية وذلك كمحاولة لبقاء على اكبرعدد من اللاجئين العراقيين داخل أراضيها ومن ثم تحاول تجنيدهم في فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الاسلامية بعد غسل أدمغتهم. ففي ربيع عام 1983 حاولت مجموعة من اللاجئين في معسكر كرج المطالبة بحقوقها في معاملة إنسانية عن طريق اعتصامها لبضعة دقائق في ساحة المعسكر فما كان من حرس الثورة إلا اعتقالهم وسوقهم إلى سجن (ايفين) بتهمة جاهزة، وهي التجسس لصالح النظام العراقي، ليمضوا هناك فترة تقارب الستة أشهر.

في طريق عودتنا مررنا على دائرة الأقامة التابعة لوزارة الداخلية الأيرانية في طهران لغرض الحصول على جوازات سفرنا وفعلا" تم الحصول عليها وهي مختومة ( خروج بدون عودة ) وكان هذا الخبر مفرح بالنسبة لنا لأنه سيسرع من خروجنا من ايران ويمكن القول اننا أصبحنا طلقاء ويمكننا ان نغادر ايران في اي وقت نشاء.

قصف مدينة الأهــواز

بعد عودتنا الى مدينة الأهواز من طهران قررنا العودة في اليوم التالي الى معسكر جهرم لتصفية امورنا والأستعداد لمغادرة ايران، الأخبار في المدينة تأتي من جبهة تحرير الأهواز تؤكد ان النظام العراقي سوف يقصف محطة القطار المجاورة لمحطة الباصات بعد ورود معلومات استخبارية للجيش العراقي تؤكد بان الجيش الأيراني سوف يرسل تعزيزات عسكرية الى خطوط الجبهة بالقطارات لذا تقرر قصف المحطة قبل انطلاق هذه التعزيزات، لم يأخذ الأهوازيين هذا الخبر محمل الجد ولم يأخذوا الأحتياطات اللازمة لأنهم سمعوا مثل هذه التهديــدات سـابقا". توجهنا في الساعة الرابعة عصرا" الى محطة الباصات في المدينة يرافقنا الأخوان (نوفي وجميل طارش ) لغرض توديعـنا حاملين معنـا وجبـة عشائنا التي جهزتهـا لنـا الأخت ( ام سـمير)، الشمس ساطعة، دقائق قليلة وبدأنا نسمع صافرات الأنذار في المدينة تعلن عن وجود غارة جوية عراقيـة، فهذا الوقت هو افضل وقت للقيام بالغارات الجوية حيث تأتي الطائرات العراقية من جهة الشمس وهي تحلق عاليا" لصعـوبة رؤيتهـا من قبل الأسلحة المضـادة، لقد تعـود المواطنون على هـذه الصافرات وأعتقـدوا ان الغـارة ربما ستكون على موقـع عسكري خارج المدينـة أو أنها غـارة وهمية، وبمرور الدقائق تبين العكس وبدأت المدفعية المضادة للطائرات وأنطلاق الصواريخ تسمع في ضواحي المدينة، ودعنـا الأخوة بعد ان طلبنا منهم العودة الى بيوتهم بسرعة وركبنا الباص مسرعين فلم يبقى غير دقيقتين لحـركة الباص حسب الموعـد المحدد له نحو جهـرم، المدفعية المضـادة للطائرات داخـل المدينـة بدأت تطلق حممهـا على الطائرات المغيـرة وأخذنـا نسمع اصـوات الأنفجـارات وأنطلاق صواريخ الطائرات في داخل المدينة وفجـأة أرتفع الباص في الهواء وأرتطـم في الأرض نتيجـة عصف الصواريـخ المنطلقة من الطائرات، تطايـر الزجـاج من كل مكان، الدماء أنتشرت على وجــوه الركـاب، دب الرعب على الجميـع واسرعنا بمغادرة الباص رمينا انفسنا على الأرض ووضعنا أيدينا على رؤوسنا تفاديا" للشضايا المتطايرة من الزجاج والقنابل فالغارة مستمرة، الدماء تغطي وجوهنا وأيدينا انا وام سوزان وكل واحد يتلمس جسمه ويسأل الآخـر هل هـو بخير ام لا ؟ هل يشعر بألم في مكان ما ؟ الغارة مستمرة بشكل عشوائي على المناطق المحيطـة بمحـطة القطـار، العشرات من جثث المدنيين بجانبنـا في شوارع المدينة، سحب التراب تغطي المدينة، ثوان وجاءت مجموعة اخرى من الطائرات لتلقي صواريخها وقنابلها ثانية تبعها زيادة في عدد القتلى والجرحى، فرق الدفاع المدني ترشد المواطنين للملاجئ وجـاء من يرافقنـا الى احد الملاجئ القريبة بعد ان رأى الدماء على وجوهنا، انه ملجأ صغير تحت سلالم أحدى العمارات، هناك حشر العشرات من المواطنين وعلى وجوهـهم علامات الخـوف، فقدت ام سوزان اعصابهـا وبدأت تشـتم النظام العراقي وما يسببه من مآسي للشعبين، لم نهتم بجروحنا المؤلمة في حينهـا، مرت اكثـر من نصف ساعة قبل ان نسمع صفارات الأنـذار التي تعلن انتهـاء الغارة، خرجنا الى الشارع ثانية لنرى المأساة امامنا فالقتل والتدمير في كل مكان، هناك المئات من القتلى بين صفوف الجيش الأيراني في محطة القطار والعشرات من المدنيين الأبرياء في شوارع المدينة تقوم سيارات الأسعاف بنقلهم الى المستشفيات.

 عدنا الى محطة الباصات عسى ان نلحق بالباص المتوجه الى جهرم ولكن قيل لنا انه غادر المحطة وليس هناك باص آخر وعلينا الأنتظار ليوم غد لذا قررنا العودة الى بيت الأخ ابو سمير ولكن كيف نصلهم والمدينة بهذا الحال وكأنها مدينة اشباح، اخـذنا نبحث عن سـيارة تكسي دون جـدوى، دقائق ونحن ننتظر حتى شاهدنا احـد المعارف بسيارته وهـو يبحث عن ابنته التي جائت الى طبيب الأسنان لتعالج أسنانها ولم يعرف مصيرها، بحثنا معه دون جدوى، عدنا الى الأخوة في محلاتهم لنرى انهـم بخير رغم ان أضرارا" كبيرة قد أصابت محلاتهـم أضافة الى سياراتهم التي دمرتها شضايا القنابل والصواريخ الكبيرة وهي تبعد أكثر من ثلاثة كيلومتـرات عن محطة القطار وسمعنا ان الأضرار قد اصابت بيوت الكثير من الأقارب في مناطق مختلفة من المدينة. وبعد الأطمئنان على الجميع ذهبنا الى عيادة أحد الأطباء القريبين لأخراج الزجاج الذي سبب في جروح عديدة في وجوهنا وايدينا وأضطر الطبيب الى خياطة بعض الجروح في رقبة ام سوزان.

 في اليوم التالي غادرنا مدينة الأهواز الى معسكر جهرم ونحن في وضع نفسي متعب بسبب ما شاهدناه من ضخايا سقطوا يوم امس وبنفس الوقت تنفسنا الصعداء لحصولنا على بارقة أمل بمغادرة ايران حسب رغبتنا وقت ما نشاء، بلغت ادارة المخيم بذلك وتم تسليم كل ما تم استلامه منهم من ادوات طبخ وافرشة وعدنا الى الأهواز بعد عدة أيام بعد ان ألقينا نظرة سريعة على جهرم وتوديع بعض الأصدقاء في المخيم.

في الأهواز توجهنا الى بيت الأخ ابو سمير مباشرة لنسمع انهم بوضع نفسي غير طبيعي، فأبنته (حنا) شابة جميلة لا يتجاوز عمرهـا الخامسة عشرة من العمر وطالبة في المرحـلة الثانوية، ذات وجـه ابيض محمر لدرجة ان من يشاهدها يعتقد انها تستعمل مساحيق التجميل بكثرة ولكنها لم تستعمله يوما" في حياتها، في اليوم التالي لعودتنا الى المعسكر قامت (حنا) بمساعدة والدتها بغسل باحة الدار الداخلية وكراج السيارة الذي يفصله عن الشارع جدار يعلوا اكثر من ثلاثة امتار، كانت حنا في تلك الساعة قد خلعت الحجاب باعتبارها داخل بيتها وفتحت باب الدار قليلا"، ولسوء حظ حنا شاهدها بطريق الصدفة احد افراد الحرس الثوري الأيراني وهي بدون حجاب فأسرع الى المركز ليحرر رسالة الى والدها يطلب منه الحظور الى مركز الحرس الثوري مع ابنته لسببين أولها انها تضع مساحيق التجميل على وجهها والثانية عدم لبسها الحجاب الأسلامي وهذا مخالف للتعاليم والقوانين الأسلامية في ايران.

ذهب ابو سمير في اليوم الثاني مرغما" مصطحبا" ابنته حنا الى مركز الحرس الثوري.

 ـــ أنظر ... لقد شاهدت احدى دورياتنا الراجلة ظهور ابنتك خارج الدار بدون حجاب، وايضا" قد وضعت مساحيق التجميل على وجهها كما تراها الآن وهذه جرائم يعاقب عليها القانون!!!

ـــ أغا ... يا محترم .. ان ابنتي لم تخرج خارج الدار بدون حجاب وانما كانت تقوم بمساعدة والدتها في غسل باحة الدار ومن حقها خلع الحجاب بين أهلها وهذا ليس حرام، اما استعمال مساحيق التجميل فأنها لم تستعمله يوما" وان وجهها هو بهذا الشكل وسوف اثبت لكم ذلك.

 تناول ابو سمير منديله الأبيض ومسح وجه ابنته كله ولم تظهر على المنديل أية أصباغ لمساحيق تجميل
ـــ أنظر سيدي ليس هنا مساحيق تجميل وهذا هو حظها ان لها وجه بهذا الشكل.

ـــ اسكت ان رجالنا لا يكذبون وقد اخبرونا بحقيقة ما قامت به أبنتك، عليك الآن ان تدفع الغرامة نيابة عن ابنتك لمخالفتها القانون وهذا تحذير لكم في المرة الأولى اما في المرة الثانية سوف نأخذها الى السجن فاهم يا رجل !!!
ـــ نعم فاهم ..... أغـا

ـــ الشئ الثاني عليك الآن ان تصفع ابنتك وتبصق في وجهها أمامنا كعقوبة لها بعدم تكرار ما قامت به .
ـــ ولكن يا أغا ان ابنتي لم تفعل شئ غير قانوني والتهمة باطلة كما رأيت فكيف أبصق في وجهها وأصفعها وهي شابة و بهذا العمر.

ـــ يبدو انك تتكلم كثيرا" وتوافق على تصرفها هذا، اذا واصلت الكلام فسنضاعف الغرامة، هيا نفذ ما قلته لك.

لم يجد ابو سمير مخرجا" من هذه الورطة غير تنفيذ الطلب مرغما" بعد السماح من ابنته حنا ودفع الغرامة وخرج مسرعا" وهو يلعن ايران وحكومتها الأسلامية.

بعد ان سمعت هذه القصة الحزينة توجه ابو سمير للحديث معي.....

ـــ انظر ياعزيزي أبوسوزان سبق وطلبت منك ان تبقى معنا وتشاركنا الحياة في ايران طالما ليس لديك هدف محدد في المستقبل وارجو منك الآن ان لا تهتم لما طرحته فقد غيرت الرأي فأنت وزوجتك الأن طيور طائرة نحو الحرية أرجو ان تسرع بالسفر للتخلص من هذا النظام القاسي ونوعدك بأننا سوف نترك أيران قريبا" فالحياة هنا أصبحت لا تطاق.

 ومرت السنين لم يسترح ابو سمير واخوته من محاولاته للسفر الى خارج ايران وفي نهاية المطاف نجح وكافة اخوته وعوائلهم بالوصول الى الولايات المتحدة ليستقروا في ولاية تكساس الأمريكية وليبنوا حياتهم من جديد ولا زالت الأتصالات بيننا مستمرة.

في الأهواز بدأنا نهيئ أنفسنا للخروج من ايران، وكان الأخوة يعرضون علينا البقاء ومشاركتهم حياتهــم بشكل مؤقت على الأقل طالما ليس لدينا هدف معين ومستقبل نسعى له، رفضنا كل العروض المقدمة بسبب الحرب والأوضاع السيئة التي يعيشونها، في اليوم التالي توجهنا الى فرع الخطوط الجوية السورية لحجز التذاكر الى دمشق ولكن النتيجة كانت سلبية بسبب عدم وجود دعوة من أحد المعارف في دمشق ليكفلنا هناك ، طلب موظف الخطوط ان نأخـذ موافقة السفارة السورية، سافرت الى طهران وانا محبـط وبوضع نفس متعب وتوجهت الى السفارة السورية الواقعة في شمال طهـران، المئلت من الأيرانين يقفـون في طوابيــر للحصول على الفيزة السورية لزيارة مرقد السيدة زينب في دمشق، تحدثت عبر الميكرفون مع الأستعلامات ومن لهجتي العراقية سمح لي بالدخول الى داخل السـفارة وقدمت طلب السفر الى دمشق عبـر الخطوط السورية وبعد انتظار طويل كان الرد سلبيا" أيضا" بدون ذكر السبب مما زاد في احباطي وهذا يعني اننا سنبقى مدة أطول في أيران التي نود مغادرتها بأسرع وقت.

 لم يبقى امامنا غير خيار واحد هـو الأتصال بالأخـوة في دمشق لغرض التحـرك للحصول على موافقة الجهات الرسمية لغرض الدخول الى سورية وفعلا" تمت الموافقة في أقل من أسبوع ووصلت نسخة منها الى المطار وكان هذا الخبر مفرحا" لنا جميعا" وعلى ضوء ذلك راجعنا الخطوط الجوية الأيرانية لغرض حجز التذاكر وكان الجواب بالموافقة وبسرعة دون أي أستفسارات أخرى، رافقنا الأخوة من الأهواز الى طهران بسيارتهم وذللوا كل المعوقات في المطار وبعدها تم توديع الجميع.

 المطار المدني في العاصمة طهران قد حول الى مطار عسكري أيضـا" بعد قصف المطارات الأيرانيـة العسكرية في بداية الحرب وسبق ان قصف هـذا المطار بصواريخ سكود أيضا" ولذلك كان بأمكاننــا ان نشاهد تحركات للقطعات العسكرية نحو الجبهة والعديد من الطائرات المقاتلة تعود الى أرض المطار بعد اداء مهامها القتالية، كنا نسمع خلال أنتظارنا وبين فترة واخرى صفارات الأنذار تشير الى غارات جوية معادية، الوقت يمر بشكل حرج خوفا" من قصف جوي مرتقب، القلق ينتابنا طيــلة الوقت وحتى أقـلاع الطائرة بأتجاه تركيا في الشمال تم أخذت المنعطف الجنوبي نحو دمشق نزولا" حيث كان في أستقبالنا هناك اولاد العم ومن هناك بدأنا مرحلة أخرى من الحياة نحو المستقبل المجهول. .