الأرمني الجميل
- التفاصيل
- المجموعة: الرابطة والفروع
- انشأ بتاريخ: الأحد، 14 شباط/فبراير 2021 13:13
- كتب بواسطة: بديع الالوسي
- الزيارات: 96
الأرمني الجميل
اليوم وانا الملم نفسي للكتابة عنك .. لم اجد ما اود قوله إلا هواجس متناثرة اثارتها هذه الصورة التي عفى عليها الزمن ...
على يسار الصورة ( ابو غايب ) جالسا ًوسط ثلاث رفاق .
مصائرنا لا تتشابه يا ابو غايب ، اشتاق لرؤيتك او سماع صوتك من بعيد ، اتمنى ان يعود الزمن بنا لنتمشى معا ً حتى ولو كنا صامتين ...
هل تسمح لي بعد كل هذا الزمن ان احدثهم عنك ، ان ابوح بسر غيابك . كنا لا نريد سماع تلك الطلقة ، التي خسفت ارواحنا ، وخنقت حكاياتنا . حتى الكلام اصبح دون معنى ، حتى النضال صار سرابا ً .عن اي شيء تهامست الطيور لتريح روحك .
حين كنا معا ً، كنت تحدثني عن جمال روسيا وارمينيا ، وكنت احدثك عن المعاناة داخل الوطن وعن حبي لشقائق النعمان ، لكنك وبصوت محموم كنت تقول لي : طفلي وزوجتي ينتظران عودتي .
في اليوم الأخير لم تذرف دمعة ، لكن من يدري ما كان يعصف بقلبك المأزوم من قلق .. لم يصغِ لك من أحد ، لم ينصحك الطبيب بتجاوز الحزن بالأمل .. هكذا وبلمح البصر اختفيت في باطن ( وادي الأحصنة ) ، هكذا كانت رقدتك الاخيرة بين مروج وسحر جبل متين .
بعد عام كلنا هجرنا المكان مرغمين ، وفي ذلك المساء الحزين ظل قبرك علامة دالة على الخسارة والوجع وكأن صوتك المبحوح صار يتبعنا : لا تتركوني وحيدا ً ايها الرفاق !!
كنا تمنينا لو بمقدورنا ان ننبش قبرك المتواضع ونحمل رفاتك ، ولكن كيف لنا ان نفعل ذلك ونحن نواجه مصير مجهول وانسحاب معقد ؟ هكذا غادرنا مقر الفوج الثالث تحت شعور بألم والحيرة ، لكن ظلت ذكراك تصدح في قلوب الشرفاء الطيبين ، يتذكرونك في الجبل والسهل ، في اليأس والأمل ، في الشتات وكلما ابكانا الحنين للوطن …
*************************************
في الجبل ، الرفيق اخو الرفيق ، القوي يسند الضعيف ، إلا ابو غائب فقد كان مذياعه العتيق له خير انيس وصديق ، كان يحل ضيفا ً علينا ، هاربا ً من مناكدات الآخرين ، في كهف الدوشكة عرفته عن قرب .
في المساءات الشتوية الطويلة وطردا ً للكآبة ، كان يلاعبنا الشطرنج ، ويحكي لنا عن تجاربه واسفاره وما مر به في هذه الدنيا الحلوة ، واحيانا يتحدث عن الحرب الملعونة ، وفي لحظة من لحظات صفاءه النفسي .. يهمس لي : الفرج قريب ، ستنتهي الحرب وسيلتقي الحبيب بالحبيب .
ويخبرني عن اجمل ايام شبابه في بغداد ، واحلى سنين عمره التي قضاها في مدن روسيا ، وكيف كان هنالك يضحك من قلب ، ويمجد الحياة لأنها وهبته زوجة طيبة وطفل وديع . ومرت السنين الحلوة كما نسيم الربيع ، وكانت الدنيا ملونة باخير و معطرة بالحب والهناء .
وفي لحظة من الزمن تغير شيء في حياة ابو غايب ، حيث لبى نداء الحزب والتحق بجبال كردستان مع رفاق اخرين ، هكذا تشكلت حركة الانصار المسلحة والتي من مهامها مقارعة نظام دكتاتوري ، بعد سنوات عدة ومع كل ما حدث لم نتخيل قط ان تكون نهايته على هذا النحو الدراماتيكي ، ولم يخطر بباله هو ايضا ً انّ تكون له الجرئة الكافية كي يقرر لحظة موته بهذه السرعة الخاطفة والمحددة .
ولطالما حدَثني عن شغفه بلعبة الشطرنج ، وكان يبتسم في سره كلما غلبني شاعرا بلذة النصر ، وذات مرة كنا معا ً وسرني بشيء حيث قال : كنت طائشا ً ، الى ان اصطدمت بثلاث خسارات على التوالي ، وبما ان روحي لا تقبل الهزيمة ، اخذني الغضب وانهارت ثقتي بنفسي وكأن القدر لطمني على وجهي فسودت الدنيا بعيني ، فخرجت ابحث عن ذاتي في ليل وشتاء بغداد البارد ، تسكعت في الحانات والنوادي ، راجعت آمالي وذكرياتي ، عرفت ان النار تحرق حشاشة قلبي وروحي ينتابها الكدر .. كان درسا ً هائلا ً في معنى الخسارة والندم .
قلت له : الحياة كلعبة الشطرنج تحتاج إلى قلب مبصر يمتلك وجهة نظر .
حدق بي ّ مطولا ً ثم ابتسم ، ونفخ دخان سجارته كمن أعتاد على تجاوز المحن . فمن يعرفه جيدا ً لا يخالطه شك انه يحمل في صدره قلب طفل مشاكس ، لكنه في احدى المرات عبر عن ما يدور في نفسه من ألم ، ضرب جبهته براحة يده ، مطلقا ً عبارته الغامضة :
ــ يا إلهي كم نحن اغبياء حد النخاع ؟ .
********************************************
رأيته في آخر يوم مهموما ً ، وكأن ( وادي الأحصنة ) على سعته ما عاد ليتسع لوجان روحه المضطربة ، أي ريح سوداء كانت تدفعه لذلك المصير ؟ هل كان مرغما ً على فعل ما فعل !؟ .. اجل ، هكذا كان صاحبي مرهف الحس ، رقيق الروح ، استبد به الحزن والحنين لعائلته ، دون ان يجد من منقذ يتفهم معاناته او يحس ما في داخله من الم . وظل في اخطر لحظاته المصيريه وحيدا ً ، متأرجحا ً بين الصواب و الخطأ ، ربما في البدء جرب التصويب على قلبه ، لكنه خاف ان يخطئ الهدف .. من يدري ربما سمع شحروا يغني لحظة دس فوهة البندقية في فمه ، لكنه اغمض عينيه ، فما عادت تشغله الدنيا ، وقبل ان تخونه الشجاعة او يطاله الندم ، ضغط على الزناد ، احتجاجا ضد كل الظروف الغبية التي كانت تسد عليه سبل النجاة ، لينفد من ذلك الحصار الخانق والمؤلم الذي ما عاد يحتمل ، وتناثر الدم . بعدها اظلمت الدنيا ، وفاز بخلاصه المنتظر .
يا رب ايوب ، أغفر لأبى غايب فعلته البريئة ، كونه ما استعجل الرحيل والمغادرة إلا بسبب تلك الظروف العصيبة التي المت به ، وأغفر لنا نزق عقولنا كوننا لم ننتبه لتبدل احواله في تلك اللحظة المأساوية ، وتهاونا بمد يد المساعدة و تركه يسافر في الوقت المناسب ويلتحق بعائلته .
ويبقى السؤال المعلق : اذا ما غفر لنا الحياة حقا ، هل سنسامح من كان سببا ً في نهايته المفجعة ؟ واذا ما كانت الجرائم لا تنطفئ بتقادم الزمن ، فهل يحق لنا في يوم ذكراه الاليمة ان نشير باصابع الإتهام الى المسؤولين الحقيقين الذين رفضوا سفره وتركوه نهبا ً وقربانا ً للموت .
يا رب المسرات ، أعط ِ الأرمني الجميل رقعة شطرنج اينما يكون ، ليلعب ويتسلى ، عله ينسى ، ولكن كيف لنا ان ننسى !؟ ، كان كل ما مر بنا درسا ً موجعا ً .
في نهاية المطاف ، وبعد كل هذه السنين من حق ابو غائب الإدلاء بسؤال جارح : هل انتصرتم ، ام ما يزال الدم العراقي ينزف بالوجع والنسيان ... ؟ …