صفحة من الذاكرة الانصارية
- التفاصيل
- المجموعة: كتابات انصارية
- انشأ بتاريخ: الثلاثاء، 14 حزيران/يونيو 2022 19:40
- كتب بواسطة: فاضل محمد/ ابو تغريد
- الزيارات: 460

حتى لا ننسى تاريخنا، ومن أجل أن تعرف الأجيال جرائم النظام المقبور وبطولات ومآثر الانصار الشيوعيين، اكتب عن الجريمة المروعة التي ارتكبتها السلطة الفاشية في مثل هذا اليوم الخامس من حزيران من عام 1987.
حدث ذات يوم... التاريخ: 5 حزيران من عام 1987، والمكان : (كَلي زيوه)، الوادي الذي يقع في ظهر مدينة العمادية وتفصله عنها سلسلة من الجبال متوسطة ألأرتفاع ويمتد نزولآ الى نهر الزاب.
كان ذلك اليوم من الايام الجميلة، فالشمس تنشر أشعتها الذهبية على منحدرات الوادي، وكل شيء كان يجري طبيعيا، بل استطيع القول بأنه يوما متميزا من حيث التجمع الانصاري الكبير والاستثنائي. لقد كان المقر يضج بالرفاق الذين جاءوا من جميع المواقع والقواطع. كما كانت تجري في نفس الوقت مباراة لكرة القدم بين فريقين انصاريين وجمهور كبير من المشجعين يملأ المكان، وكان الجميع في حالة من الفرح بهذا اللقاء الذي جمع عدد كبير من الانصار في مكان واحد. وعلى الرغم من أننا نتوقع الغارات الجوية او القصف المدفعي في اية لحظة كانت، الاّ اننا لم نرصد اية علامة تدل على ان النظام المقبور سوف يشن علينا هجوما بالاسلحة الكيمياوية، مع علمنا بأن الدكتاتور لا يتردد في قتل من يعارضه فما بالك بالانصار الشيوعيين (العصاة والمتمردين في جبال ووديان كردستان) كما كان يطلق عليهم.
في ذلك التاريخ والمكان والساعة، صرخ أحد ألأنصار: رفاق طيران، ثم كررها لعدة مرات، وما أن سمع الرفاق بالنداء حتى لجأ الجميع الى مواقع تحميهم من القصف الجنوني الذي كان يستهدف مقراتنا بشكل خاص، ويوحي بأن السلطة لديها معلومات عن مكان وتاريخ اجتماع لقيادات الحركة الانصارية وعلى أعلى المستويات، فأغتنموها فرصة لضرب الحزب الذي صمد في وجههم رغم كل حملات التنكيل والسجون والتصفيات التي مارسها النظام ضد حزبنا طيلة فترة حكمه.
بعد أن أفرغت الطائرات حمولتها من الصواريخ وقفلت راجعة، توزعنا على شكل مجاميع صغيرة، وكنت ضمن مجموعة من الرفاق للأسف الشديد لا تسعفني الذاكرة بمعرفة اسمائهم ما عدا الرفيق آيار عازف العود الجميل فأرجو المعذرة. ذهبت مجموعتنا الى المقبرة القريبة من المقر من أجل اخماد النيران التي اشتعلت بأشجارها الكثيفة. كان حماسنا واندفاعنا على انقاذ ما يمكن انقاذه لا يضاهيهما حماس واندفاع آخر. لقد عمل الرفاق بتفاني ونكران ذات وتفجرت لديهم طاقات كامنة لم يتوقعوها، وهذه هي غيرة الشيوعيين العراقيين على رفاقهم ووطنهم وشعبهم وقضيتهم التي ضحوا بكل شيء من أجلها وتركوا كل ملذات الحياة في سبيلها، واختاروا مكانهم الحقيقي مع أبناء شعبهم وعلى أرض وطنهم.
لقد كان قلق مجموعتنا كبيرا على رفاقنا الذين تعرضوا للقصف مباشرة أو أُصيبوا بالشظايا، وكانت مشاعرنا خليط من الغضب والحزن ورغبة في الانتقام، بالاضافة الى أملنا في أن تكون خسائرنا طفيفة. واصلنا اطفاء النيران حتى منتصف الليل تقريبا، وما أن انتهينا وعدنا الى المقر ونحن في حالة انهاك تام، استقبلنا الرفاق واخبرونا بأن الضربة كانت بالسلاح الكيمياوي، وعلينا الذهاب فورا الى الحمام لغسل ملابسنا واستبدالها بأخرى وغسل اجسادنا وخاصة المناطق الحساسة من الجسم التي تتاثر كثيرا بهذه الغازات. بعد أن استحممنا بشكل سريع وبسبب التعب الشديد ذهبنا الى النوم على سطوح الغرف.
في ساعة متأخرة من الليل، جائني الرفيق فهد محمود/ أبو مازن الذي كان حارسا وقال: ((رفيق اكعد تره انضربنا كيمياوي والرفاق كلهم بفصيل الاسناد وراح تصعدون فوك للدوشكة)). نهضت من الفراش، كنت في حالة من التعب الشديد وجسمي لا يساعدني على الحركة، شعرت بآلام في المناطق الحساسة وخاصة المحظورة!، وبمشقة كبيرة استطعت الوصول الى مكان تجمع الرفاق الذي لا يبعد سوى بضعة دقائق، فرأيت الرفاق الأصحاء القليلين يجبرون المصابين الذين يتحلقون حول النيران في منظر رهيب على شرب الحليب لتنظيف المعدة من السموم.
بدأنا في صباح اليوم الثاني بالصعود الى موقع الدوشكا الذي يبعد عن المقر بحدود 30 دقيقة، لكنها في ذلك اليوم كانت أكثر من ست ساعات، كما أن عدد كبير من الرفاق غير قادرين على قطع المسافة سيرا على الاقدام ولا بد من حملهم على ظهور الحيوانات، وكنت واحد من الذين ركبوا البغل الى موقع الدوشكا بسبب الآلام الشديدة التي اشعر بها بالاضافة الى فقداني للبصر تماما. كانت عيوننا تشتعل فيها النيران أثناء النهار بسبب اشعة الشمس، وكنا مثل الخفافيش التي ترى في الظلام ولا ترى في النهار، وهذا ما جعل اذاعة بغداد تبث جميع الأغاني العربية والعراقية التي تتغزل بالعيون!.
حال وصولنا الى مقر الدوشكة والذي هو عبارة عن كهف وقاعة صغيرة وشجرة توت ضخمة نحتمي بظلالها من أشعة الشمس (سقطت في اليوم الثاني ولم نعرف أسباب سقوطها، ومن حسن حظ الرفاق لم يُصب أحد منهم بأذى في تلك الساعة)!، بادر النصير دكتور الأسنان أبو الياس بحث الرفاق على غسل عيونهم في الماء البارد بل طلب من الجميع أن يغطسوا عيونهم في عين الماء ومجراها والابقاء عليها مفتوحة لكي تتنظف من الغازات، وكان البعض منا يغسل عينيه بواسطة الشاي.
بقيت مع عدد قليل من الرفاق لأكثر من شهرين لا نرى الأشياء الاّ اشباحا، وكان للرفاق الأطباء دورا كبيرا في متابعة المصابين وتقديم المساعدة لهم، كما كان للرفيقات دورهن المشهود والاستثنائي في مساعدة الرفاق وشد أزرهم وتقديم كل ما يمكن تقديمه من أكل وشرب وغيرذلك مما هو ضروري.
لا يمكن أن ننسى تلك الجريمة البشعة وأيامها الصعبة، وخاصة اننا فقدنا رفيقين عزيزين هما الشهيد جوقي سعدون/ ابو فؤاد الذي استشهد في الساعات الاولى من الضربة والذي كان عائدا للتو من ايران بعد فترة علاج من مادة الثاليوم، حيث حاول عملاء النظام تصفيته بهذه الطريقة، والشهيد الآخر هو الرفيق والقائد الأنصاري الذي أخافت شجاعته أزلام السلطة من الجحوش والعملاء ريبر محمود عجيل/ أبو رزكَار الذي استشهد لاحقا بعد أن تشبع جسمه بالسموم وخاصة عندما حمل رفيقه أبو فؤاد من موقع سقوط الصاروخ وحتى موقع الطبابة في محاولة لانقاذ حياته.
ملآحظة: أقدم خالص شكري وتقديري للرفاق ناظم ختاري والرفيق فهد محمود (أبو مازن) والرفيق عزيز محسن (أبو نضيلة) على بعض التصحيحات.