مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وتعذر محاولات أحلال السلام، صار هذا السؤال يتردد كثيرا، على لسان العديد من المراقبين والمتابعين لعلاقات حلف الناتو مع روسيا، وخططه، في اتباع حرب استنزاف طويلة الأمد تؤدي الى هزيمتها وتحجيم دورها الاقتصادي والسياسي وبالتالي تقسيمها.
أبرز من كرر طرح هذا الفرضية والسؤال هو الدكتور توماس مالينين، الأكاديمي الفنلندي، ومن ابرز خبراء الاقتصاد وتحليل المخاطر، لاحظ بعض المراقبين مؤخرا، تهميش ظهوره في الاعلام الفنلندي، فتلقفه الاعلام الروسي لينشر مقالاته واقواله هناك، موجها نقدا لاذعا لسياسة الحكومتين الفنلندية والأوكرانية ولحلف الناتو، بل وينسب إليه اعتبار أوكرانيا المسبب الحقيقي للهجوم الكبير الذي شنته روسيا في عام 2022 ، وان حلف الناتو أنشأ لاستمرار حرب النازيين ضد روسيا، وهناك من يعتقد ان اراءه هذه قادت "جماعة مجهولة"!!، حزيران الماضي، للاعتداء عليه في ملهى ليلي في هلسنكي، نقل على أثرها للمستشفى، فغرد على موقعه في منصة "X" بإن ظهوره الاعلامي واراءه الناقدة وراء الهجوم الغادر!
من المعروف ان العقيدة العسكرية والسياسية في فنلندا، تغيرت مع دخول دبابات بوتين الى الأراضي الأوكرانية، فمن دون اللجوء الى استفتاء شعبي، كما هو منتظر، قرر البرلمان الفنلندي، بأغلبية ساحقة الدخول في عضوية حلف الناتو، التي أعلنت في نيسان/ أبريل 2023، منهية عقود طويلة من الحياد تميزت به سياسة فنلندا، الجار الأهم لروسيا الاتحادية، بحدود طولها 1340 كيلومترا تمتد عبر غابات وبحيرات متشابكة، لتتحول الى حدود حلف الناتو مع روسيا.
ومع توقيع الحكومة الفنلندية أتفاقية التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة الامريكية ودخولها حيز التنفيذ في 1 أيلول/ سبتمبر 2024، التي وفرت إمكانية استخدام 15 قاعدة عسكرية في فنلندا، إضافة لتواجد القوات الأميركية وتدريبها وتخزين معدات دفاعية في الأراضي الفنلندية، صار الحديث يدور أكثر حول الدور المنتظر من فنلندا ان تلعبه في ظل التصعيدات المستمرة بين روسيا وفنلندا، ومع الغرب عموما؟
لم تكتف فنلندا بالمعاهدة الامريكية، فصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية سلطت الضوء على الاستعدادات الكبيرة التي تجريها فنلندا تحسبا لتوسّع رقعة الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فبعيدا عن وسائل الأعلام، ودون إستفزاز مباشر، راحت تعزز دفاعاتها بعقلانية، من خلال جعل أغلب المباني بمواصفات محددة لتخصص كملاجئ للمدنيين، وتوجيهات لبقية السكان لإستخدام مواقف السيارات الأرضية للاحتماء بها، كما أن حلبات التزلج على الجليد وحمامات السباحة تكون جاهزة لتصبح مراكز إجلاء، وعلى حد تعبير قائد قوات الدفاع الفنلندية السابق، يارمو ليندبرغ، فالعاصمة الفنلندية، هلسنكي، أصبحت أشبه بـ"الجبنة السويسرية" وذلك لحفرها عشرات الكيلومترات من الأنفاق. ووفقا للصحيفة ذاتها فأنه مع بدء الحرب في أوكرانيا، عززت فنلندا، من مخزوناتها الاستراتيجية من الإمدادات لتلبي احتياجات فترة لا تقل عن 6 أشهر من جميع أنواع الوقود والحبوب الرئيسة، وعملت شركات الأدوية على تأمين مخزون يكفي حوالي عشرة أشهر من جميع الأدوية المستوردة. إضافة الى زيادة الإنفاق العسكري في فنلندا، فوصل إلى مستويات غير مشهودة سابقا، اقتربت من نسبة 3 ,3 من الناتج المحلي، ويبلغ حوالي 7 مليارات دولار سنويا. ويمكن للقوات المسلحة الفنلندية، التي تعتمد التجنيد الاجباري، تعبئة قوة قتالية زمن الحرب تبلغ 280,000 جندي بسرعة، يدعمها احتياطي ضخم يضم حوالي 900,000 مواطن مدرب، إضافة الى إمكانية دمج حرس الحدود مع القوات المسلحة أثناء الحرب. وما يعني أن فنلندا لديها أحد أكبر الجيوش في أوروبا مقارنة بحجمها. إضافة الى أن صفقات التسليح الضخمة مع الولايات المتحدة الامريكية، شملت 64 مقاتلة F 35 بقيمة تجاوزت 9 مليارات دولار، إلى جانب نشر أنظمة دفاع جوي إسرائيلية متطورة مثل نظام "مقلاع داوود" بصفقة بقيمة تبلغ قيمتها 346 مليون دولار، وربما هذا يفسر تردد فنلندا في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أسوة بشركائها من الدول الاوربية.
من جانب اخر، فالاستعدادات العسكرية الروسية عند الحدود الفنلندية لم تتوقف، حيث رصدت الأقمار الاصطناعية، نقل روسيا لجزء من القوات التي شاركت في حرب أوكرانيا قريبا من فنلندا، وبنت جسورا لوجستية ومواقع وتحصينات وانشأت مستودعات للمدرعات في عدة مواقع، وأهلت للعمل مطارات عسكرية قديمة تقع قريبا من الحدود.
وبالعودة الى الدكتور توماس مالينين، وتحديدا حواره المتلفز مع الدكتور باسكال لوتاز، الأستاذ المساعد لدراسات الحياد في معهد واسيدا للدراسات المتقدمة في طوكيو، يرى ان هناك قوى مظلمة في اوربا تتحرك مثل ثلاثينات واربعينات القرن الماضي، ملمحا للقوى الفاشية، ويسميها ( التحالف الأوربي للحرب)، يعتقد انها تهيأ فنلندا وتدفع بها لتكون الجبهة القادمة للحرب ضد روسيا، بل يذهب اكثر من ذلك معتقداً ان الرئيس الفنلندي الحالي "الكسندر ستوب"، يتم تحضيره ليكون فولوديمير زيلينسكي القادم، من خلال تلميع صورته في واشنطن ودول الناتو والاشادة بخطابه العدواني ضد روسيا. ويبدو ان "فاينانشال تايمز" البريطانية توافق على هذه التوقعات فتقاريرها تشير الى ان الاستعدادات الكبيرة التي تجريها فنلندا ما هي الا تحسبا لتوسّع رقعة الصراع بين روسيا وأوكرانيا. من جانب اخر يحدد بعض المراقبين أهم الاحتمالات القادمة للمواجهة مع روسيا: فأما تركيز فنلندا على تعزيز القدرات الدفاعية دون الدخول في مواجهة مباشرة، أو تكون هناك مواجهة محدودة مع السعي لتسوية الخلافات، وقد تكن حربا شاملة مع حلف الناتو فيما إذا شنت روسيا هجوما على فنلندا، وستكون لذلك تبعات مدمرة وكارثية عديدة على نطاق عالمي.