من الذاكــرة .. أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 19 / فائز الحيدر

الفصل التاسع عشر

نجاح المساعي للقاء الأقارب
مرت اربعة أيام على ارسال رسالتي، الوقت ما قبل ظهر يوم 21 / 12 / 1986، الحرارة لا تطاق، أسندت ظهري لجدار غرفتنا المتواضعة أطالع أحـد الكتب الدينية التي استعرتها من مكتبة حسينية المخيـم بينما كانت أم سوزان مشغولــة بتهيئة طعام غداءنا البسيط واذا بنداء يوجه عبر سـماعات المخيم يدعوني التوجه الى أستعلامات المخيـم فالأقارب بالأنتظار، لم أعطي أهمية للنـداء في بادئ الأمر وأعتقدت ان هناك خطأ في الأسم، تكرر النداء عدة مرات .. طلبت من أم سوزان الأصغاء له وهل ان هذا النداء موجه لي؟

ـــ أسمعي النداء جيدا"، ومن هم الأقارب بأنتظاري في هذا الوقت ؟ هل هناك تشابه بالأسماء؟

أخذتني الحيرة لعـدة دقائق، وانا أتسائل هل في المخيم أقارب لنا قـد وصلوا كلاجئين دون علمنا ولم نلتقي بهم بعد ؟ وهل هناك بعض الأقارب يسكنون في جهرم وصلهم خبر وجودنا وجائـوا لنجدتنـا ؟ لم أضع في  ان رسالتي قد وصلت الى الأقارب في مدينة الأهواز البعيدة بهذه السرعة وجائوا لنجدتنا على عجل!!! استمرت ادارة الأستعلامات توجيه النداء لمرات عديدة، أسرعت بالتوجه الى هناك كما يوصي النداء، ألتقى بي في الطريق عدة أصدقاء وهم يؤكدون ما سمعته ويطلبون مني الأسراع، أسرعت الخطى قليلا" ووصلت الأستعلامات لاهثـا" وكانت المفاجأة !!!

 عن بعد شاهدت شخصين يقفان في الغرفة وهما يبتسمان من، لم أتعرف عليهم في البداية، عدت خلال ثوان لسنوات طويلة خلت لأتفحص الوجوه وأحياء وتنشيط ذاكرتي القديمة من جديد عندها تعرفت عليهم، انهـم الأقارب من مدينة الأهواز فقـد أستلموا رسالتي وجائـوا مسرعين وفي الوقت المناسب لنجدتنـا وهما الأخ (جميل طارش) وكان آخر لقاء لي معه منذ 16 عاما" عندما زار بغداد وعمل معنا في احدى التنظيمات الحزبية والأخ ( هرمز طارش) ابو سمير الذي لم أراه منذ 28 عاما" عندما كان يعمل في بغداد في فترة الستينات وانا شاب صغير، تبادلنا العناق والتحيات بسرعة ثم بادر ابو سمير بالسؤال :

ـــ منذ متى انتم هنا ؟ وكيف تعيشون ؟ وأين كنتم سابقا" ؟ ولماذا لم تتصلوا بنا منذ البداية ؟ .... الخ .

 ـــ انها قصة طويلة يا أبا سمير سنتحدث لكم عن تفاصيلها لاحقا"، المهم نحن سعداء بلقائكم غير المتوقع اليوم وكنت اعتقد انه بعيد المنال .

ـــ في اليوم الثاني لأستلام رسالتكم قررنا التوجه أليكم وكما تعرف ان الطريق من الأهواز الى هنا طويل، ومتعب وعلى كل حال دعنا من هذا الكلام الآن... أين تسكن ؟ دعنا نرى بيتكم وكيف تعيشون ؟ هل تضيفونا بقدح من الشاي .
ـــ الحمدلله نعيش في بيت كبير وسنأخذكم اليه لشرب الشاي .

اخذنا موافقة الأدارة وتوجهنا الى داخل المخيم نحو غرفتنا وعند وصولهم صعقوا لما شاهدوه ....
ـــ أهذه غرفتكم ؟ أهذا فراشكم ؟ وهذه حاجاتكم ؟ وهذا أكلكم ؟ أسرعوا وأتركو كل شئ هنا أو أعطوه لجيرانكم ودعونا نذهب سوية لا نريد حتى شرب الشاي الآن سنشربه في مكان آخر .
ـــ الى أين نذهب ؟
ـــ الى بيتنا في الأهواز !!!!!
ـــ ولكن يا عزيزي أبو سمير هذا يحتاج الى أجراءات عديدة مع الأدارة وليس الأمر بهذه البساطة كما تتصورون فنحن في معتقل كما ترى .

ـــ سنقوم بكل الأجراءات بسرعة ونعمل لكم كفالة لنأخذكم معنا، هيا بنا لا تأخرونا .

تمت مفاتحة ادارة المخيم لعمل كفالة ضامنة لأجازة لمدة شهر نقضيها في الأهواز وتطلب ذلك تقديم ما يملكونه من مبالغ نقدية وساعات وسلاسل رقبة ذهبية أيضا" لتسديد قيمة الكفالة ولغاية عودتنا من الزيارة .

عدنا ثانية الى غرفتنا لنأخذ حقيبتنا اليدوية الصغيرة ولنوزع ما تبقى من المواد التموينية على الجيران وتوجهنا الى السيارة التي كانت تنتظرنا أمام باب المخيم .

تحركنا باتجاه محافظة شيراز في الساعة الثانية والنصف ظهرا" تقريبا" وهي محطتنا الأولى باتجاه الأهواز ، المسافة بين جهرم وشيراز تقدر بحدود 195 كم وتحتاج الى حوالي الثلاث ساعات لقطعها في طريق لا يخلوا من المطبات والحفر التي احدثتها السيول الجارفة في الأسابيع الماضية ودمرت أجزاء منه أضافة الى الجسور المدمرة بين المدينتين، كنا طيلة الطريق نتحث عن معاناتنا في المخيم للأشهر الماضية ومحاولاتنا للبحث عنهم .

وصلنا شـيراز قبل غروب الشمس، تقع مدينة شيراز وهي عاصمة محافظة فارس في جنوب غرب إيران، وسـط جبال زاجروس المطلة على الخليج، وعلى ارتفاع 1800 متر عن سطح البحر. وتعتبر المدينة مهـد تاريخي مشهـود للشعراء الفارسيين وهي مهـد لكبـار العلماء مثل سيبوية وابن المقفع وغيرهـم الى جانب الطقس الجميل على مدار السنة وهي مشـهورة بمناطـق الصيـد والأبنيـة الأثرية والأسـواق القديمة، كما ان القاعدة الأساسية لاقتصاد المدينة هي إنتاج العنب والثمار والحمضيات والقطن والرز بالإضافة إلى إنتـاج الإسمنت، والسك، والمنسوجات، المنتجات الخشبية وأنتاج السجاد وكل هذا فهي لم تعفى من الخراب الذي أصابها بسبب الحرب فقد تم تدمير الكثير من مرافقها الأقتصادية والزراعية والسياحية .

قرر الأخوة قضاء ليلتنا في هذه المدينة، الأخ جميل سبق وعاش وعمل سنين طويلة في مدينة شيراز ويعرف كل زاوية فيها واقترح المبيت في أضخم فندق فيها وهو (قصر الشاه) السابق والذي حولته الحكومة الأيرانية الى فندق خمسة نجوم، كان الشاه يقضي أجازته الشتوية مع عائلته فيه بسبب مناخها اللطيف، يعجز المرأ عن وصف هذا الفندق بغرفه الواسعة الجميلة وآثاثه وتصاميمه، لا نتصور ما يجري أمامنا في هذه الأنتقالة من النوم بين جبال وصخور وأحراش كردستان العراق وما تبعها في مخيم جهرم ... عفوا معتقل جهرم ، تم حجزغرفة واسعة من سريرين من الصنع الفرنسي نحلم نحن الأنصار النوم فوقها. أول ما قمنا به هو تحضير الحمّام الساخن الذي افتقدناه لسنوات طويلة وقضينا الساعات داخله نستمتع ببخاره الساخن غير مصدقين ما نشاهده ثم ألقينا أنفسنا على السرير لنأخذ غفوة قصيرة وهنا علق الأخ ابو سمير .

ـــ الوقت الآن ليس وقت النوم علينا تناول طعام العشاء .... ثم علق :
ـــ ماذا تأكلون ؟ دجاج مشوي، كباب أيراني مع الرز ( جلو كباب ) ؟ مروقات ؟ سمك مشوي او مقلي ؟ أي فواكه تعجبكم ؟ وأجبته ضاحكا" ....
ـــ رجاء أحبتنا عليكم الرفق بنا فمعدنا قد تكيفت طيلة السنوات الماضية على نوع آخر من الأكل ...
ـــ ما هو هذا الأكل فسنطلبه لكم أنتم ضيوفنا الأن أطلبوا ما تشتهون .
ـــ اتمنى ان تطلبوا لنا مرقة فاصوليا يابسة أو شوربة عدس أو شوربة طماطة هذا ما تعودت عليه معدنا طيلة سنوات خلت ، ثم علق الأخ جميل ....
ـــ سنوصي ما نراه مناسبا" لنا ولكم وهو الدجاج المقلي والكباب مع الرز وشوربة دجاج وهذا سيكون مناسبا" للجميع ولكن لم تقولوا لي ما تشربون ؟
ـــ بيبسي كولا لو سمحت فلم نذقه منذ سنوات !!!
ـــ لا أقصد المشروبات الغازية وانما المشروبات الكحولية !! ويسكي ؟ عرق أيراني أو عراقي ؟ بيرة مستوردة، أو بيرة أسلامية ؟ كونياك ؟ جن أو أي شئ آخر .
ـــ وهل توجد في جمهورية أيران الأسلامية ا مثل هذه المشروبات الآن ؟
ـــ نعم وكل ما تريد !!! فالقادة في الحكومة هم التجار طالما تأتيهم بالربح، أنه مثل النفط يدر عليهم الدولارات.
ـــ تعلمون اننا لا نشرب المشروبات الكحولية فلا تكلف نفسك رجاء .
خرج الأخ جميل وعاد بعد حوالي نصف ساعة حاملا" بيده كيس من الورق وبداخله بطل ويسكي ( بلاك لبيبل ) وقال لنشرب اليوم نخب لقائنا معكم بعد كل هذه السنوات الطويلة .

تناولنا القليل من الويسكي وتبعه طعام العشاء وتبادلنا الحديث في أمور عدة وحتى ساعة متأخرة من الليل حيث دخلنا في نوم عميق غير مصدقين واقع حالنا الجديد من النوم بين الأفاعي والعقارب الى النوم على أسرة ذات دواشك عالية ووسادات من ريش البط .

جلسنا في اليوم التالي مبكرين وتناولنـا فطورنا بسرعة وأتصل الأخ ابو سمير بعائلته في الأهواز تلفونيا" ليبلغهم بمغادرتنا الفندق والتوجه الى الأهـواز وعلى الأمل بوصولنـا أليهم مساء، أمامنا طريق طويل قـد يستغرق طيلة النهار ويمر وسط بيئة جغرافية مختلفة منها السهول والصحاري والجبال المغطـاة بالثلوج، على طول الطريق نشاهد مآسي الحرب، محطات كهرباء، خزانات الوقود، محطات المياه، دوائر حكومية، مصانع مختلفة دمرتها الحرب وحولتهـا الى ركام وما تبقى منها فقـد أحيط بالأسلحة المضادة للجــو، انها حرب قذرة قد دمرت كل ما بناه الأنسان طيلة عقود طويلة وبالتأكيد ما نشاهده على جانبي الطريق هناك ما يماثله في العراق فالحرب لا تعرف الحدود ولا ينتج عنها سوى الدمار والموت .

ساعات من السياقة المتواصلة مررنا خلالهـا بعـدة مدن صغيرة وكانت أكبرها مدينة (بهبهان) التي تقرر قضـاء الأستراحة بهـا وتناول طعـام الغـداء فالساعة قـد جاوزت الواحدة ظهـرا"، جلسنا تحت ظلال أحدى الأشجار الكبيرة بجانب النهر الصغير الذي يتوسط المدينه حيث نسيم الهواء البارد نسبيا" والتمتع بمشاهدة الطيور البريـة المنتشرة على جانب النهر، أسرع (جميـل) الى مركـز المدينة لشـراء دجاجتين منظفة وخـبز والخضروات وكيس من الفحم، اشعلنا النار بسرعة كما تعلمناها في كردستان وبعد دقائق كانت قطع الدجاج موزعة على النار وهي تعطي رائحتها المميزة التي أفتقدناها منذ سنوات طويلة، تناولنا طعام الغداء وتهيئنا للمرحلة الثالثة من سفرتنا باتجـاه مدينـة الأهـواز، فالطريق أليهـا ضيق ذو ممرين ويبدأ بمرتفعات بسـيطة ترتفع تدريجيا" حتى تصبح جبال عالية هي سلسلة جبال( زاكروس ) التي تغطي قممها الثلـوج حتى في موسم الصيف وأضطر الأخ ابـو سمير احاطة أطارات سيارته بسلسلة حديدة ولمسافة تقدر 10 كم منعا" للتزحلق والسقوط في الوادي عندها بدأ الطريق بالأنحدار تدريجيا" نحو مدينة الأهواز.

في بداية دخولنا أحد الطرق الحديثة وأوقفتنا اول سيطرة عسكرية حكومية من قبل حرس الثورة الأيرانية، كنا خلال تلك اللحظات نتـناول بعض قطع البرتقال ولاحظ أحد الحرس بأن شـفاهي تحمل قليل من اللـون الأصفر ظنا" منه اني اتناول المخدرات ولم يقتنع بما قيل له حتى شاهد قشور البرتقال وأطلع على الأجازة الصادرة من أدارة المخيم ثم واصلنا السير نحو الأهواز .

وصلنا مدينة الأهواز مساء حيث كان بأنتظارنا الكثير من الأقارب والمعارف تجاوز عددهم العشرين شخصا" والذين تمت دعوتهم مسبقا" على شرف وصولنا وهي عادة عربية قديمة لأستقبال الضيوف وليتناولوا طعام العشاء مع ضيفهم القادم من العراق وبعد فراق سنوات طويلة .

تقع (الأهواز) أو (الأحواز) التي تسمى أحيانا" (بالناصرية) أقصى الجنوب الغربي لإيران وتطل على نهر (الكارون) والى الشمال الشرقي من مدينه المحمرة وهي عاصمه أقليم خوزستان معظم سكانها من العرب بناها (الشيخ حميد) وتقع بالقرب منها مدن عديدة منهـا عبادان، شوش، ديزفول، مسجـد سليمان  بهبهان، الحويزة، محمرة و غيرها، وتقع بهـا أكبر حقول النفط الإيرانية، اكثر الأهوازيون ينحدرون من أصـول عربية و تعود اصولهم إلى قبائل بني كعب وبني طرف ( طي ) و الزرقان و الباوية و بني تميم وبني اسد و بني لام وآل خميس و آل كثير.

تجري في الاهواز انهار كثيره . واشهرها نهر ( كارون ) وقد سماه العرب نهر( دجيل) أو نهر الاهــواز وهواكبر انهارعربستان واشهرها، واهم روافده نهر ( ديز كارون الاسفل ) وهناك نهر ( الكرخه ) ويسمي نهرالسوس، ويطلق عليه العرب ( نهرالسويب ) ويصب في هور الحويزة، اما نهر (الجراحي ) فينبع من مقاطعة بهبهان ويصب في هور الفلاحيه وهو نهر كبير كنهر كارون . وهناك نهر( الميناو ) ويسمي نهر (دبيس) حفر في عهدالخليفه عثمان بن عفان بناء علي اقتراح من والي البصره عبدالله بن عامر وقام بحفره شخص يدعي دبيس وهو احد الفروع المهمه لنهر كارون شرق مدينه الاهواز ويسكن علي ضفافه فخد من عشيرة كعب يسمي ( كعب الميناو ) او ( كعب دبيس ) .

قضينا ليلة لا تنسى مع الأقارب والمعارف، الكثير منهم يسأل عن أقاربه في العراق وما هو مصيرهم في هذا الوقت من الحرب لكونهم يعتقدون اننا جئنا من العراق مباشرة وليس لهم علم بتواجدنا السابق في كردستان وألتحاقنا بالأنصار حيث بقي الأمر هذا سرا" فقد زرعت المخابرات الأيرانية جواسيسها في كل مكان وعلى النمط العراقي وحتى داخل العائلة الواحدة وكنا حذرين بالأجابة على الأسئلة الموجهة لنا .
في اليوم الثاني من وصولنا خرجنا الى السوق وتم شراء ما نحتاجه من الملابس الصيفية فليس لدينا شئ ما نلبسه امام الأخرين .

بعد اليوم الثالث وعلى العادة العربية انتهت ضيافتنا وبدأت الدعوات تصلنا من كل الأقارب الذين لم ألتقي بهم يوما" سوى ما كنا نسمع عنهم من الأهل، الجميع مغرم بأكل الدجـاج والسمك والبط الكنــدي الأبيض وكعادة العرب فأن الأكلة الدسمة من حصة الضيوف، الغالبية يستعملون الأيـدي في الأكل وهـذه مصيبتي التي لم اتقنها جيدا" ولا زلت، حاولت عدة مرات أستعمال اليد ولكني كنت الخاسر الأول وكنت اترك طاولة الطعام دائما" وأنا جائع ولكن بمر الأيام تحسنت صحتنا وزاد وزننا لدرجة أخذنا نعطي الأعذار المختلفة للتهرب من الدعوات الكثيرة الموجهة لنا .

خلال تواجدنا في الأهواز غادرنا المدينة صباحا" الى ضواحيها عدة مرات مع عائلة ابو سمير حاملين ما خف حمله وغلا ثمنه بعد وصول أخبار من جبهة تحرير الأهواز والتي يتناقلها سـكان الأهواز العرب بأن الطاغية صدام سـوف يقصف المدينة بصواريخ سكود وعلى العرب مغادرتها لخطورة الوضع والحفاظ على سلامتهم، كنا نقضي الساعات الطويلة في العراء وحتى حلول المساء دون ان يحدث شئ يذكر ولكننا كنا نرى الطائرات العراقية وهي تحلق كنجمة في السماء متوجهة نحو أهدافها وفي المساء كنا نعود الى المدينة لقضاء ليلة قلقة أخرى بأنتظار سماع أخبار أخرى .

سمحت الأيام التالية بالذهاب الى مدينة المحمرة وهي منطقـة عسكرية قريبة من خط الجبهـة مع العراق لزيارة قبور الأجداد ومشاهدة بيوتهم وبساتينهم القديمة التي بنوها وزرعوها بأنفسهم وزرعوا نخيلها العامر وكنا نشاهد في الأفق حدود مدينة البصرة وعلى جانبي الطريق الكثيـر من الدبابات والسيارات العسكرية العراقية والأسلحة المحروقة والمدمرة من قبل القوات الأيرانية حيث شهدت مدينة المحمرة أكبر المعارك وأشرسها مع القوات العراقية في الأيام الأولى للحرب وأدت الى أنسحاب الجيش العراقي منها أنها الحرب فليس هناك من يربحها .. بعد عودتنا الى الأهواز تيبن لنا من المعارف ان مدينة المحمرة منطقة عسكرية ولا يحق للأجانب زيارتها وكان من حسن حظنا أننا لم نقع في مشكلة مع السلطات الأيرانية رغم عبورنا العديد من نقاط السيطرة لكان أتهامنا الأول هو التجسس لصالح العدو في وقت الحرب .

أنتهت أجازتنا التي دامت شهرا" كاملا" ونحن وسط الأهل كأنه يوم واحد عدنا بعده الى مخيم جهرم التعيس مرتاحين وقد تحسنت ظروفنا النفسية وتم الأتفاق مع الأخوة على محاولة تقديم طلب على أجازة أخرى لمدة شهر بعد مرور عدة أيام على عودتنا للمخيم، سلمني الأخ ابو سمير قطعة ذهبية صغيرة عبارة عن حرف (F ) اللاتيني وهو الحرف الأول لأسم زوجة مدير المخيم لأقناعه وكرشوة للحصول على الأجازة الثانية في حالة عدم موافقته على الطلب بسهولة .

كانت اجازتنا الثانية سهلة الحصول بعد تقديم الهدية الى مدير المخيم وكانت بنفس الوقت روتينية للأطلاع على الحياة العامة في الأهــواز حيث زرنا خلالهــا الكثير من الأقارب وعايشنا الوضع المزري للشعب الأيراني ومعاناته في وقت الحرب وحضرنا العديد من مواكب العزاء والفاتحة على ارواح شهداء الحرب من المندائيين .

بعد انتهاء الأجازة وفي يوم مغادرتنا الأهواز عصرا" للعودة الى المخيم ونحن داخل الباص قامت الطائرات العراقية بالهجوم على محطة قطار الأهواز في المدينة والمجاورة لمحطة الباصات ( الترمينال ) مما أدى الى قتل وجرح العشرات من المدنين وتوزعت أشلائهم في شوارع المدينة وحالفنا الحظ هذه المرة ونجونا بأعجوبة من موت محقق ولكن تعرضنا نتيجة هذا القصف بجروح مختلفة وهذا ما سنتحدث عنه في الحلقة القادمة. .


يتبع في الفصل القادم والأخير