في موقع (الدوشكا)، حيث يتمترس النصير الفقيد ابو لينا (ولد سالك)، تجمع العشرات من الانصار العميان!!. توافدوا على المكان راجلين او على ظهور البغال، وكانت مفرزتنا التي ترافق الرفيق الفقيد (ابو عامل) قد اصيب اغلب افرادها اصابات تراوحت بين خفيفة وصعبة.

 لم تعد (زيوة) الفرح والسمر مقرا مناسبا بعد قصفها بغاز الخردل، ففي رمشة عين فقد المكان جماله وحيويته وبات على الجميع مغادرته. ولذلك، وفي صباح يوم 9/6 على الارجح، تحركت المفرزة باتجاه (كلي خوى كورك)، وكان بصري حينذاك (نص ونص)، امّا بصيرتي وبسبب التعب والاحباط فكانت ايضا (نص ونص)!!، وعيون اغلب الرفاق مازالت ملتهبة وتذرف الدموع، امّا الذين مازالوا فاقدين للبصر، فتركناهم في (زيوة) وعلى رأسهم الرفيق العزيز (ابو الزوز)، الذي لي معه اثناء القصف حكاية كوميدية سأرويها بمناسبة اخرى!.

المسافة: في الظروف الطبيعية لمفرزة غير ثقيلة هي (ثلاثة ليالٍ واربعة نهارات)، فما بالكم بمفرزة مازال افرادها يشكون من آلام الحروق والغثيانات التي سببتها السموم الكيمياوية!؟، هذا اضافة الى سوء التغذية الذي تعاني منه اجسادنا، وخاصة بعد ان اتلف الخردل جميع المواد التموينية التي كانت بحوزة المقر!!.  

لم يكن المشي مع الرفيق الفقيد (ابو عامل) اعتياديا، فهو يختلف عنه مع ايّ رفيق آخر، اي انّ عليك ان تتحلى بالصبر وتكون بأعلى درجات الانضباط، وتحسب حساب كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك ضبط مسافات المشي واوقات الاستراحات واختيار القرى والاماكن وعيون الماء المناسبة وغير ذلك من مستحقات طريق الجبل!.

 امّا المخاطر الجدية التي يمكن ان تواجهنا في هذه المفرزة، فكانت اما طيران الهليكوبتر، او كمائن الجندرمة الاتراك، او عبور الانهار (الروبارات) اثناء الظلام، حيث يكون تيار الماء جارفا خاصة في شهر حزيران، لكن اكثرها خطورة هي المسافة التي نقطعها باقل من ثلاث ساعات ونمرُّ خلالها بالاراضي التركية المحرمة!.

بتنا ليلتنا الاولى في جامع قرية (كاروكة)، والثانية في قرية (سيريا) بضيافة (مهدي الجحش)!، امّا الثالثة، فكان القرار ان ننام في (زيتا)، وهي قرية مهجورة ومنسية ومتروكة وسط البرد والصخور!. عندما وصلنا الى (زيتا) قبل الغروب، وجدنا وقد سبقنا اليها بعض مجاميع من البيشمركة و(القجقجية)، فأخذنا لنا مكانا بين اشجار البلوط، واشعلنا النار ورتبنا الحراسات.

كنت جالسا على حجر، عندما لمحت من بعيد، رجلا يهبط السفح!، فوقفت في مكاني ورحت اتابع نزوله حتى اقترب كثيرا، كان متوسط الطول، صحيح الجسد، في وجهه عينان صغيرتان حادتان وانف طويل مدبب ومعقوف الى اليمين!، منظره لا يدل على انه من ابناء الريف، فملامحه خالية من التعب والهموم، وثيابه نظيفة وكان يتوكأ على عصا من خشب مصقول.

راح الرجل يتنقل بين المجموعات، ويتحدث معهم بصوت منخفض، كما لو انه يستفسر عن شيء ما، وكانت نظراته المتلصصة تزوغ باتجاهنا بين الحين والاخر من دون ان يقترب منّا، وكأنّ سيماءنا في وجوهنا!.

اقلقتني حركات هذا الرجل جدا، وتوقعت انّ (مصيبة) ستتعرض لها مفرزتنا عندما تتحرك في صباح  اليوم الثاني!، هكذا فكرت في تلك الساعة، وقبل ان اخطط للتخلص منه، اخبرت آمر المفرزة بشكوكي، وسرعان ما صار القرار ان نتحرك في الظلام.

كان قرار التحرك قرارا صعبا، فلم تتاح لنا فرصة الاستراحة بعد مشي نهار كامل، كما كان علينا ان نسلك طريقا اخرا لم يسبق لاحد من الانصار قد مرّ به، هذا الطريق الجديد يقع تحت معسكرات الجيش مباشرة، ولا يخطر حتى على بال ابليس!.

خمس ساعات، كأني مشيت خمسين عام!، كثافة مخيفة من الظلام، وصخور مدببة تغطيها الاحرش، وعيوننا تعبت من الخردل والتركيز، واجسادنا مازالت بحاجة الى مزيد من الغذاء.

عندما وصلنا الى النهر، لم نعد نرَ من اين وكيف نعبره، فقررنا ان ننام تحت رحمة الذي لا نراه!. وحين ظهرت خيوط الفجر الاولى، تبيّن اننا في اخطر مكان، وتيار الماء يجعلك تفكر الف مرة قبل ان تغامر في عبوره، لكن لا وقت للتردد، ومشكلتنا كانت مع الرفيق (ابو عامل)، فما كان من اطولنا النصير (ابو دنيا) الاّ وحمله على ظهره، وعبر به الى الجهة الاخرى!. وحالما عبرنا، اطلقوا باتجاهنا الرصاص.. كل هذا الضيم بسبب ((ابو خشم))!!.