في يوم خريفي من عام 1980، تحركت مفرزتنا المكونة من السرية الثانية بقيادة الرفيق العزيز الشهيد ابو فؤاد وفصيل الحماية مع الراحل الكبير توما توماس، ودليل المفرزة الرفيق العزيز صباح كونجي، من مقرنا الأول في (كلي كوماته) وفي مسيرة استغرقت نهارا كاملا حتى وصلنا ليلاً إلى نقطة عبور الشارع الممتد من ضواحي مدينة  زاخو عبر نواحي ديركار عجم وبيكوفة وباطوفة حتى ينتهي بناحية كاني ماسي او قرية ابو نضال الشايب كما يسميها الشهيد ابو كريم.

ذهب الرفيق صباح كنجي مع رفيق آخر او رفيقين لاستطلاع مكان العبور، وذلك للتأكد من انه خالٍ من كمائن السلطة، والرفيق صباح معروف بحرصة وخاصة انّ مع المفرزة الرفيق القيادي توما توماس، لذلك تأخر في الاستطلاع، علما انه لم يعبر من هذا المكان سوى مرة او اثنتين لا اكثر، لكن الرفيق الراحل ابو جميل لم يصبر، فصاح على صباح وينك؟، وكفّ ردني قميصه واخذ بندقية الشهيد ابو فؤاد وسحب اقسام البندقية ونزل الى ضفة الشارع.

وصل الرفيق صباح والرفاق الذين معه، فالتفت الرفيق ابو جميل الى الخلف وقال للرفيق الشهيد البطل ابو هديل وانا اللذين نقف خلفه مع الشهيد ابو فؤاد: ((يله بسرعة يله رفاق خبروا الذين خلفكم ان يتقدموا بسرعة للعبور)). المهم اصبحنا في الجانب الآخر واتممنا المسير الى قرى برواري باله. وصلنا منتصف الليل تقريباً الى احدى القرى ونمنا فيها، وقبل طلوع الشمس خرجنا الى سفح جبل متين وهناك إلتقينا الرفيق ابو ماجد آمر السرية الاولى واصبحنا مفرزة كبيرة جاوز عددها المائة مقاتل.

وقت العصر مرّت علينا مجموعة من (الكرونجية) ومعهم حيوانات محملة بمواد غذائية وسكر وشاي. قال لهم الرفيق ابو ماجد، ستبقون هنا حتى تتحرك مفرزتنا الى مكان آخر، وهكذا فعلوا. وقبل ان تتحرك المفرزة بدقائق قال لهم تفضلوا اذهبوا بالسلامة. كان ذلك الأجراء خوفا من ان يبلغلوا الحكومة وعملائها في المنطقة عن حركتنا، مع العلم أن احدهم قال للرفيق ابو ماجد، اننا سمعنا ان توما توماس ومعاه 200 مقاتل نزلوا للمنطقة، مما جعل الرفيق يضحك بقوة حتى اتته نوبة سعال.

تقدم الرفيق ابو ماجد المفرزة باتجاه المنحدر بين جبلين نزولاً الى القرية التي تقع بجانب الشارع  المقابل لمدينة العمادية، ألا اننا حين بدأنا بالنزول، بدأ القصف ينهمر علينا، مما اضطرنا الى الانسحاب، حيث ذهب قسم من الرفاق الى القرية وقسم اخر بقي مع الرفيق ابو جميل فوق جبل متين البارد. بيد اننا تمكنا من الرجوع الى ذات المكان والعبور منه الى قرى منطقة العمادية، ثم اندفعنا الى العمق نتجول ونبيت في القرى حيث ندخلها ليلاً ونخرج منها ليلاً، خوفاً من وصول المعلومات عن مكان حركتنا الى السلطة عن طريق عملائها.

وفي المناطق القريبة من وادي الرمان، اشتكى الناس القرويون معبرين عن استيائهم من سرية مغاوير خاصة ينتمي اغلب منتسبيها الى تكريت، كانت تقوم بالاعتداء على الاهالي والتنكيل بهم حتى بدون سبب. وفي صباح اليوم الثاني اخذ الرفيق ابو فؤاد مجموعة منا اذكر منهم (ابو هديل وابو حسنة وانا ورفيقان آخران لا اتذكر اسميهما فعذراً لهما)، اخذنا واجلسنا في مثلث يأتي من شارع ويلتف الى الجهة الأخرى، وهناك قال: ((سوف تأتي سرية المغاوير من هنا))، انا انتبهت الى قرب مكان تواجدنا من الشارع، قلت مع نفسي (سعيد من ينجو بنفسه من هذا الكمين الذي نصبناه لسرية المغاوير).

كانت معنا قاذفة (آر بي جي)، وبقينا ننتظرهم حتى الساعة العاشرة قبل الظهر تقريباً ولم يأتوا. امرنا الرفيق الشهيد ابو فؤاد بالانسحاب، وبعد انسحابنا باتجاه الرفيق ابو جميل الذي كان على  سفح الجبل الذي يطل جانبه الشرقي على (وادي الرمان)، صاح الحرس: (وصلت سرية المغاوير!). نحن لا نستطيع العودة للكمين مرة اخرى، لان الوقت لا يكفي حيث وصولنا سيكون متأخرا، الا ان الرفيق ابو جميل صاح على الرفاق اصعدوا لقمة الجبل لنضربهم من هناك، وقال رشاشة العفاروف وقاذف (آر بي جي) والمدفع و 12 رفيق فقط يطلقون النار على العدو، أما الباقون فينتشرون حولنا للتصدي لاي عملية تسلل بأتجاهنا. عندما وصلت (سرية المغاوير) الى المكان المناسب، وبعد ان تأكد الرفيق أبو جميل من اننا تموضعنا وأخذنا اماكننا وراء الصخور الكبيرة، امرنا باطلاق النار.

كان الرفيق ابو غسان صاحب العفاروف يرمي على المغاوير، وانا كنت (العدد) مع الرفيق ابو حاتم (الاعسم). انا كنت ارمي مفرد لأن ابو حاتم الاعسم وابو غسان (حركَوا الكون) بسلاحهما الثقيل الذي كان له التأثير الاكبر في خسائر العدو. لم نترك لهم المجال للخروج من السيارات ماعدا ثلاثة او اربعة قفزوا من سياراتهم واختفوا خلف الاشجار الكبيرة التي بجانب الشارع. كان صياحهم يشق عنان السماء، ورفيقي ابو حاتم (طلّع باكيت جكاير وقال: ورثلي جكارة!) ونحن في عز ازمة السكائر، كان يرمي وابو غسان مازال يصرخ وابو داود اليزيدي واقف بالقرب منا ويرمي على الصلي ومنذر ضرب حوالي 4 قنابل هاون 60 كلها قريبة للهدف، لكنها لم تقع في احد السيارات. الرفيق ابو هديل والرفيق ابو جميل كانا يبعدان عني حوالي 40 متر، وابو جميل كان عنده ناضور وكان واقفاً، ونحن لازلنا مستمرون في الرمي. قفز أحد العسكريين وهوَ يحمل بين ذراعيه رشاشة برن تحتها كرسي، نصبها صوبنا وهو يصيح على الجنود لا تذهبوا بعيداً، وبدأ الرمي علينا كثيفاً حتى اني شعرت ان الصخرة التي امامي لم تعد تحميني، حيث كان يرمي باتجاه الرشاشتين الثقيلتين، وكان بيني وبين غسان الواقف على مكان مرتفع مع رشاشته الثقيلة وابو حاتم صاحب الرشاشة الثقيلة مكان منخفض يقع بين موقعي الرشاشتين. جاء الرفيق ابو ليلى وجلس في المكان المنخفض الذي استهدفه صاحب الرشاش البرن، فسحبته من الخلف. وما ان اعطيت الرفيق ابو حاتم المخزن الثاني، وكنت انظر الى السماء التي احرقوها فوقنا بالقذائف المتفجرة جواً، لكنها لم تكن فوق القمة التي نحن فوقها، حتى رأيت الشهيد نبيل يزيدي قد تدحرج مصاباً برصاصة في فخذه الايمن الى الخلف من ذات الفتحة بين الصخرتين، وقبل ان أصله احتضنه المرحوم الشهيد دكتور عادل الذي جاهد كثيرا من اجل المشاركة في الرمي، لكن الرفيق ابو جميل لم يسمح له بذلك.  في هذه الاثناء امر الرفيق ابو جميل بوقف اطلاق النار، قائلا لقد اخذوا الدرس. وبعد أن توقفنا عن الرمي، صاح قائدهم: (ولكم بالعجل)، خرج الذين وراء الاشجار راكضين الى السيارات، التي تحركت بسرعة، حاملة الذل والهزيمة، وحظى انصار الحزب الشيوعي بالعز والتقدير حيث كانت هذه أول عملية كبيرة للبيشمه ركة الشيوعيين في المنطقة. في المساء شاهدنا الناس في القرية التي توجهنا إليها واقفين على سطوح المنازل وهم فرحين مسرورين ويتسابقون على استضافتنا...... العزّ لمن ساهم في هذا التأريخ المجيد للحزب الشيوعي العراقي من الأحياء وطاب ثرى الشهداء ابداً.

جريدة النصير الشيوعي العدد 14 أيلول 2023