لا أتذكر منْ هو الرفيق الذي اسرّ لي أن آمر فصيل الحماية سيتصل بي لاحقا ويتحدث معي على انفراد، في ذلك النهار من خريف عام 1983، لعله المسؤول الحزبي للفصيل انذاك، الطيب والدمث الاخلاق، الرفيق ابو بسام.

كنت واقفا لوحدي في ساحة الفصيل حينما رأيته يقترب مني بقامته النحيفة، الطويلة، أسمر غامق البشرة، بشعر اسود فاحم مجعد وبشارب كث. مدّ يده اليّ وابتسامة عريضة تعلو فوق شفتيه :

-  رفيق ابو نسرين

-  نعم

-  اهلا وسهلا بك في فصيل الحماية

-  آني ابو أنيس أمر فصيل الحماية العسكري !

ولا أتذكر بقية الحديث ولا أي شيء من الكلام  الذي دار بيننا آنذاك. كنت قد وصلت للتو إلى كردستان، قادما من المانيا الشرقية، بعد إنهاء دراستي في الاقتصاد السياسي، ولم يمض على وجودي أكثر من أسبوع أو أقل في الفصيل. بينما، ابو أنيس كان قد امضى حتى ذلك الوقت اربع سنوات من عمره في متون تلك السفوح والقطوع الجبلية الحصينة، منقطعا تماما، مثله مثل الكثير من الرفاق الاخرين، عن الحياة الطبيعية والاعتيادية. إذ انه ينتمي لرعيل الانصار المتطوعين الاوائل، أولئك الأبطال الذين ضحوا بكل غالي ونفيس في حياتهم واختاروا أسلوبا للحياة وللكفاح صعبا وخطرا مغامرين ومجازفين بحيواتهم، ومضحين في ذات الوقت بطموحاتهم ورغائبهم واهوائهم وسنيّ عمرهم الفتية.

مذ الوهلة الأولى شعرت بتقارب نفسي كبير مع هذا الإنسان الطيب القلب والدمث الأخلاق. كان الحوار معه سهلا ولم يكن يتصنع الكلام ولا يوحي لك انه يتحدث من منطلق انه مسؤولك العسكري. اما طريقته الليّنة والهادئة في الحديث فقد خلقت في داخلي شعورا وكأننا نعرف بعضنا من قبل. أكاد أجزم أن التقارب والتماس الروحيين حصلا منذ تلك اللحظات الأولى.

قد يمر بحياتنا أشخاص كثيرون، بعضهم يبقون عابرون وطارئون، حتى لو عشت معهم سنوات عديدة في نفس المكان والزمان، وبعضهم يحفر له في ذاكرتك خندقا عميقا، ويظل لك صديقا ورفيقا ومعلما. وأكاد أجزم أن أبو أنيس بالنسبة لي هو إنسان من الطراز الثاني.

كمسؤول عسكري لفصيل الحماية، كان يتمتع بحب وإلفة واسعين وبثقة واحترام كبيرين من قبل جميع الرفاق في الفصيل. وانا أعرف عن كثب وقرب ان الراحل توما توماس، ابو جميل، المسؤول العسكري الأول لقاطع بهدينان، كان يكن له احتراما كبيرا ويمحضه ثقة شبه مطلقة. ففي كل تنقلاته خارج المقر فان الرفيق ابو جميل يتشاور مع الرفيق ابو أنيس الذي كان عليه أن يقدم قائمة بأسماء الرفاق الذين سيرافقونه في المفرزة. والرفيق ابو جميل طالما صادقَ على القائمة التي يقترحها الرفيق ابو أنيس دون اعتراضات جدية. 

أود أن أنوّه أيضا إلى أن الرفيق ابو جميل كان يكنُّ، على نحو عام، للرفاق الأنصار القدامى، من الرعيل الأول، محبة واحتراما خاصين، كانتا تتبديان على نحو جلي في اسلوب تعامله معهم واحتضانه لهم، هذا ما كنت ألحظه دائما، وابو أنيس واحدا منهم.

في عام 1986 تقرر نقل الرفيق أبو أنيس إلى الفوج الثالث، واتذكر حينها الألم والحزن الكبيرين الذي انتابنا جميعا، والصدمة والغضب والسخط الهائل المباغت الذي عكر مزاج غالبية رفاق فصيل الحماية أيما تعكير.

للأسف عرفنا فيما بعد ان ذلك القرار لم يكن سوى بداية عملية محسوبة بدقة، ومقررة سلفا، اتخذ على اعلى مستوى حزبي، لتشتيت فصيل الحماية واحتوائه، لأنه يضم مجموعة كبيرة من الرفاق الذي عرفوا بصلابة مبدئيتهم وعدم مساومتهم على الحق، ونقدهم بلا هوادة لكل مايرونه لاينسجم مع مباديء العمل الحزبي والتنظيمي، والرفيق ابو أنيس كان محسوبا على هذه المجموعة. والقيادات الحزبية كانت تصف المجموعة بالتكتل غير المرغوب فيه. في نهاية الأمر تم ايضا إعفاء الرفيق ابو جميل من مهمامه جميعها ثم ترحيله إلى الشام!. وتم تعيين قيادة للقاطع لم تكن بمستوى وحجم المسؤوليات الجسيمة التي كانت تتربص بحركة الأنصار انذاك، وتبدى ذلك الامر بشكل جليّ في عملية الانسحاب المبعثرة والفوضوية أبان عمليات الأنفال التي شنّها النظام الصدامي آنذاك والتي كلفتنا كثيرا من الخسائر التي كان يمكن تفاديها.

في معارك الفوج الأول كانون الأول 1986 اصيب ابو أنيس بجرح في احد اصابع كفه اليمنى او اليسرى لا أتذكر ذلك على وجه الدقة، مما اضطره، على ما اتذكر، للانسحاب إلى الخطوط الخلفية. حينما التقينا في وحشة الليل بعد أن هدأ سعير تلك المعارك، رأيت أصبعه المصاب ملفوفا بخرقة عادية. جلسنا قرب بعضنا وتبادلنا أطراف الحديث والتعب المبرح يفعل فعله الجسيم فينا والانهاك الجسدي والروحي قد بلغا كل مبلغ :

-  شلونك رفيق ابو أنيس؟!

سألته بصوت متعب خفيض يكاد بالكاد يخرج من حنحرتي المرهقة تماما :

-  عادي رفيق إصابة بسيطة !

في المعارك الحقيقية يكون الخيط بين الموت والحياة واهن جدا جدا، والموت والحياة يتبادلان الملاعب والأمكنة والأزمنة والأشخاص بعجالة البرق. كنت فرحا لأن الرصاصة ام الشظية، لا أتذكر ذلك على وجه الدقة، كانت رؤوفة هذه المرة، إذ لم تكن مميتة ولا قاتلة. تطلعنا إلى بعضنا أثناء وبعد حديثنا، لغة الصمت كانت بلغية تفصح عن مشاعرنا تجاه بعضنا على نحو أبلغ بكثير من لغة الكلام. كلانا على قيد الحياة وقد آن الاوان لأن نأخذ قسطا وجيزا وسريعا من الراحة والنوم قبل أن يقض الصباح مضاجعنا فما من بد لنا الا ان ننسحب تحت أجنحة الظلام الأخيرة بعيدا عن عيون العدو المتربص بنا قبل انبلاج شعاعات الصباح الاولى.

بعد معارك الفوج الأول جرى نقل أبو أنيس من مقر القاطع إلى الفوج الثالث. ابتعدت لقاءاتنا أو تعذرت عقب ذلك. إلى أن التقينا في بلدة يوتبوري في جنوب السويد.

حدثني ابو أنيس حينما التقينا في مغتربنا، انه تلقى رسالة آتية من سوريا من الرفيق ابو جميل، حينما كان في معسكر للاجئين في تركيا، رسالة اترك له شخصيا الكشف عن مضمونها لو شاء هو شخصيا. رسالة قائد انصاري كان قلبه يتمزق وروحه تتشظى لما يحصل للرفاق أثناء عمليات الأنفال السيئة الصيت، ولانه لم يكن بين ظهرانيهم حينما كانوا في أمس الحاجة لقائد ميداني من طرازه الثقيل. غير أنه كان قد ابعد عنهم مرغما على ما اظن.

أبو أنيس كان إنسانا ورفيقا بكل ما يمكن أن تعنيه هاتين المفردتين، يمتاز بالثبات والهدوء والاتزان والجرأة والمبدئية والصدق وطراوة النفس وحلاوتها.

النصير الشيوعي العدد 16 السنة الثالثة تشرين الثاني 2023