قررت قيادة حزبنا الشيوعي العراقي في منتصف عام 1988 قبل إيقاف الحرب العراقية – الإيرانية التي كان الحزب يدعو إلى إنهائها، دمج التنظيم المحلي في المناطق التي يتحرك فيها الأنصار مع وحدات قوات الأنصار بعدما كانت المنظمات الحزبية المدنية (الكوادر العاملة في هذه المنظمات) تعمل منفصلة عن العمل الانصاري، فعلى الرغم من وجود تنسيق بينهما لكنه لايرقى إلى مستوى المهام الملقاة على عاتق الجانبين، وعلى هذا الاساس تشكلت مفاصل عمل أخرى في المناطق التي كنا نعمل وسطها والتي كانت لنا مقرات فيها وهي: (كه لي مه رانى) منطقة عمل انصار الفوج الاول الذي كان يعمل عسكريا في حدود المناطق المحيطة بمدينة دهوك من جهة الشمال الشرقي، وثم مناطق (د ه شت الموصل) وبالتحديد شيخان وتلكيف ومناطق أتروش وعقرة، ولم تكن مفارزه تتلكأ في الوصول إلى أية منطقة أخرى عندما تقتضي الحاجة ذلك.

ومن الجدير بالذكر أن مفارز الفوج الاول حققت العديد من الانتصارات في عملياتها العسكرية، واستطاعت ان توجه ضربات موجعة لقوات العدو وأجهزته القمعية، وقدمت في هذا السبيل الكثير من التضحيات والعديد من الشهداء الابطال، فحظت بتقدير جماهير المنطقة وثقتها واحترامها.

كانت تقود العمل الحزبي التنظيمي السري على مستوى المحافظة (لجنة محلية نينوى) التي تقوم بالاضافة الى عملها القيادي بتنفيذ المهمات التي تكلف بها من قبل قيادة الحزب. وطبقا لهذا القرار (قرار الدمج) الذي كان يعتبر مطلبا ملحا للغالبية العظمى من الرفاق الأنصار، تشكلت هيئة قيادية جديدة وموحدة تقود العمل العسكري والتنظيمي معا. كان يعمل في هذه اللجنة رفاق يمتلكون خبرات تنظيمية وآخرين أصبحوا قادة عسكريين مجربين في معارك هامة مع قوات النظام (مع وجود ملاحظات جادة على كفاءة عدد آخر منهم تبوؤا مراكز قيادية، الأمر الذي يعتبره العديد من الأنصار بأنه كان سببا مهما للكثير من الخسائر التي لحقت بنا في تلك الفترة ). أُطلق على هذه الهيئة من جديد اسم (لجنة محلية نينوى) وأنيطت مسؤوليتها الأولى بعضو اللجنة المركزية للحزب النصير لبيد عباوي (أبو سالار)، ومسؤوليتها العسكرية بالنصير خيري درمان (توفيق)، وتوزعت المسؤوليات الأخرى على رفاق آخرين كانوا ضمن هذه اللجنة وربما يقودنا الحديث لاحقا إلى الإشارة إلى أسماءهم وأدوارهم، خصوصا إننا والعديد من الرفاق عملنا معا في وضع الخطط حول كيفية التخلص من حصار قوات الجيش والجحوش.

ارتبطت بهذه اللجنة لجان اخرى موحدة تقود العمل العسكري والتنظيمي على مستوى الأقضية، لكنّ نصابها لم يكتمل ماعدا لجنة تلكيف التي أتمت ترتيباتها قبل الآخرين. وعلى أثر هذه التغيرات التي أخذت وقتا ليس بقصير وجهدا كبيرا، كلفت شخصيا بالعمل في لجنة تلكيف التي أصبحت تعمل انطلاقا من مقر (بيرموس - Pir muss ) وهو من المقرات القديمة، يعود تاريخ العمل فيه إلى فترة الستينيات من القرن الماضي عندما كان رفاق الحزب يشاركون الشعب الكوردي انتفاضاته المسلحة، فارتبط اسم هذه القرية ببطولات الشيوعيين ومآثرهم حيث كانوا ينطلقون نحو القرى والمدن لبناء خلايا حزبية فيها وإنجاز بعض العمليات العسكرية. وأستطاع الأنصار قبل عملية الدمج أعادة تأهيل مقر (بيرموس) لممارسة العمل الانصاري مرة اخرى، وفعلا تم لنا ذلك ورحنا ننطلق منه نحو مناطق (الده شت) وبناء التنظيمات الحزبية بالاضافة الى تنفيذ المهمات الانصارية.

وثمة حاجة إلى القول بأن هذه المنظمات ( السهل – الـ ده شت) كانت بحق من المنظمات الحزبية النشيطة والمتميزة. وخلال مسيرتها استطاعت تحقيق الكثيرعلى مستوى كل الحزب، ولم تدخر جهدا في المبادرة لتنفيذ مهامها والمهام التي كانت تكلف بها من قبل الهيئات العليا وقيادة الحزب، وكانت خدماتها بالنسبة إلى الحزب عظيمة وتشكل عصبا مهما في حياته .

كلفت ضمن هذه اللجنة بقيادة العمل الحزبي التنظيمي في حدود القضاء مع رفاق آخرين، وكانت اللجنة بقيادة الرفيق أبو ظاهر. ومن بين رفاق هذه اللجنة أيضا الرفيق أبو أمل الذي كلف بمسؤولية الجانب العسكري في اللجنة، وكان ضمنها رفاق آخرون يقومون بمهام أخرى يتطلبها عملنا الأنصاري والتنظيمي. وهكذا بدأنا بترتيب أمورنا ووضع خططنا العملية للتحرك في المستقبل. وربما رافق عملنا بعض الخلل، لأن تجربة العمل المشترك كانت جديدة وفي بداياتها وكانت تحتاج إلى وقت أطول لإيجاد أفضل السبل لاستيعابها والتناغم معها بالرغم من أن اغلب الرفاق كانوا يجيدون الكثير في مجال العمل العسكري والتنظيمي ولديهم خبرة في مناورة قوات العدو الأمنية والعسكرية، ومن هنا أصبحت الأمور تسير وتترتب بشكل معين .

ورغم أن وتيرة الضربات الموجعة والموجهة ضد مختلف مناطق كوردستان وقوات الأنصار والبيشمه ركه من قبل قوات الجيش العراقي التي بدأت تنسحب من جبهات الحرب مع إيران، كانت تتصاعد بشكل جنوني، وبات استخدام الأسلحة الكيماوية فيها أمرا معروفا ومتكررا، فصار على كل واحد أو مجموعة منا ان يتوجه الى عمله، كان ذلك بعد اول اجتماع للجنتنا في منتصف شهر اب. فتوجهت إلى حيث عملي الحزبي في عمق ريف تلكيف وذلك لاستلام ومتابعة العمل التنظيمي هناك.

كان التنظيم الحزبي في هذه القرى يمتاز بدرجة عالية من الانضباط والمتانة، وظلّ حصينا امام اختراق اجهزة السلطة الامنية طيلة فترة الكفاح المسلح إلا ماندر. وبالنسبة لي لم أكن أحتاج إلى إجراءات تنظيمية أستلم بواسطتها التنظيم مجددا، فرغم انقطاعي عن المنطقة لفترة معينة، لكني التقيت بسهولة برفاق المنظمة (لجان مصغرة وخلايا وعلاقات فردية أو خيطية)، الاّ انّ الأمر في كل هذه اللقاءات التي أجريتها كان مختلفا هذه المرة. كان هناك خشية شديدة وتخوف واضح من تحركات السلطة وما ستؤول إليه هذه التحركات. ووجدت جميع الرفاق في هذه الخلايا يشتركون في هاجس واحد هو أن السلطة الدكتاتورية عازمة هذه المرة على إنهاء وجود حركة الأنصار والبيشمه ركه من خلال القضاء على الحياة في ريف كوردستان. لذلك كانوا يعيشون قلقا كبيرا على مستقبلهم اولا وعلى مصيرنا ثانيا ويتوقعون تصاعدا خطيرا في هجمات أجهزة النظام القمعية ضد تنظيمات الحزب وجماهيره في مختلف المناطق بالاضافة الى حملة شرسة لتطهير كوردستان من الأنصار والبيشمه ركه، لذلك كان هؤلاء الرفاق يطالبون وعن دراية تامة بالانسحاب إلى خلف الحدود وإنقاذ حياة البيشمه ركه وعوائلهم وحياة جماهير المنطقة التي ستتعرض إلى الهلاك والدمار.

ولكن من الواضح أن إجلاء سكان ريف كوردستان من أرض آباءههم وأجدادهم إلى أرض دولة أخرى وسط هذه الحشود العسكرية التي عملت على قطع كل الطرق المؤدية إلى داخل الأراضي التركية، قضية في غاية التعقيد، اما بقاءهم متشبثين بأرضهم فيعد هو الآخر شبه انتحار جماعي، وخصوصا بعدما تأخر الوقت ولم يعد لصالحنا في مناطق كثيرة كما كان الحال عندنا في بهدينان!!، ويمكنني الحديث عن هذه المسألة في مقالات قادمة بشيء من التفصيل، لأن هذا الأمر كان على صلة وثيقة بقرارات وإجراءات طارئة اتخذت في خضم الحدث.

مكثت في هذه القرى أياما قلقة مرت سريعة. أجبرتني على الانسحاب منها الأخبار السيئة الواردة من جميع المصادر، والتي تؤكد بان أعدادا هائلة من قوافل الجيش العراقي تتوجه إلى كوردستان بكافة أسلحتها قادمة من جبهات القتال مباشرة لتنفيذ جريمتها التي أصبح يدرك خطورتها البالغة كل المواطنين.

خلال هذه الأيام التي امضيتها في قرى تلكيف، زرت أهلي ووجدتهم يشاركون كل الذين التقيتهم نفس الإحساس بخطورة الوضع، وأظهروا قلقا بالغا بشأن مصيرنا المجهول، فقد كانت تربطهم علاقات وثيقة بأعداد كبيرة من العوائل الموجودة في الجبل وأبناءهم قبل التحاقهم بصفوف البيشمه ركه. بعد الكثير من الحديث ودعتهم وهم يتساءلون: كيف سيكون الأمر بالنسبة لك؟.. فقلت لهم: ما كانوا مقتنعين به تماما، وهو أما أنجو من قبضة عساكر النظام وعندها تكون وجهتي الخارج، وأما أقع في فخ لهم وعندها تكون النتائج معروفة. وهذا ما أحزنهم أشد حزن .