الفكرة الفلسفية للثورة المدنية السلمية/ د زهير الخويلدي     

"المحاولة القويمة الوحيدة ، أي المحاولة الوحيدة من الداخل-، ...هي التي تتحول إلى برنامج تهتدي به سياسة عضوية جديدة"1[1]

لقد تم التركيز عند تشريح الثورات على مسألة القطيعة بين النظام القديم والنظام الجديد وعلى واقع الانفصال عن الماضي والاتصال بالحاضر ووقع إهمال معنى العودة الدورية للأمر إلى مجراه العادي وهو ما أشار اليه معجم علم الفلك التقليدي وثمنه نيكولا ماكيافلي في المجال السياسي بتعريفه للثورات على أنها تعاقب لمختلف أشكال الحكم واعتبر أن هذا التعاقب من الأمور الواقعية التي تحدث للدول. لكن إلى أي مدى يصح ربط اندلاع الثورات بالتتابع والتوالي والتعاقب للأشياء وعودتها الدورية لمساراتها العادية؟ كيف نفهم الاحتجاجات السلمية في العالم العربي والإسلامي ضمن هذه الرؤية المختلفة للأحداث؟

لقد كان التعريف الماركسي للثورة ضمن الرؤية الانفصالية للتاريخ حيث اعتبر ماركس الثورة السياسية من حيث هي تغيير في الحكم مجرد سخافة وأكد على أن الثورة الحقيقية هي التي تطبق على مجموع المجتمع ورفض أن تكون مجرد ثورة كيفية تقتصر على تغيير مباشر في المظاهر والأشخاص والواجهة وطالب بالثورة الدائمة عبر المرور المتكرر باستمرار من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية.

لكن ما المقصود بالتغيير؟ وكيف يتم؟ وماهي عوامله ومعيقاته؟ وكيف يتبلور التغيير الجذري للمجتمع؟

يمكن تنزيل مفهوم الثورة ضمن استبدال العلاقات التي تتشكل من طرف الأحداث التي من نمط السياسي الاجتماعي وفي الوقائع والمعطيات التي تتكون منها العلاقات الإنتاجية والتبادلية الاقتصادية والثقافية ولقد انصب التفكير في هذه المسألة الشائكة في الانقطاع والانفصال بين العلاقات القديمة والعلاقات الجديدة وتم المطالبة بإحداث التغيير الجذري وقلب الأمور كليا والخروج من الباراديغم التقليدي إلى باراديغم جديد مختلف في الشكل والمحتوي وفي الصور والرموز من جهة وفي الوسائل والأهداف من جهة أخرى.

لقد ربط الكثير من الأنثربولوجيين بدء التغيير السياسي والانتقال نحو ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان بالانفتاح الاقتصادي والشراكة التجارية والزراعية والتركيز الصناعي ومرونة السوق في المعاملات ولكن الحراك الشعبي غير المتوقع في العالم العربي كذب مثل هذه التحليلات الاقتصادية الثقافية واستند إلى فرضيات جديدة تستند إلى مقولات مستحدثة على غرار إرادة الشعب والصراع من اجل الاعتراف والنضال من أجل السيادة والرغبة في التقدير والشعور بالكرامة وافتكاك الحقوق والمشاركة في الحكم.

تكمن الفكرة الفلسفية للثورة المدنية التي يقودها الشباب والفتيات في الشارع العربي بكل سلمية وتحضر في الانتصار للتشاركية ضد التمثيلية الشكلية وفي المطالبة بالاستحقاق الديمقراطي ضد السيادة المنقوصة وفي تركيز الحكم المحلي ضد المركزية المعطلة وفي التداول السلس للسلطة ضد التوريث والاحتكار.ل

لعل أول خطوات نجاح الثورة الشبابية ترتبط بالنفي المطلق للشرك السياسي ورفع شعار اللا ضد عودة المنظومة القديمة والقطع مع ممارسات الاستبداد وتفكيك النسق الشمولي والإقلاع عن إعادة إنتاج الحلول الترقيعية التي استعملت في الماضي لتجميل المشهد وتأجيل الاستفاقة والعزم على الإقلاع والانتعاق التام.

لقد رفض شباب الثورة المدنية كل أشكال التمييز والتفرقة التي تمارس بينهم مهما كان عنوانها سواء باسم الجهوية أو الطائفية أو الفرز على أساس الهوية الدينية المذهبية أو اللغوية العرقية وطالبوا بالانتماء إلى درع المواطنة وتأسيس حكم سياسي يراعي الفوارق ويحترم الخصوصيات ويدافع على الحريات الفردية.

التعويل على الذات وفك الارتباط مع كل المحاور الإقليمية وتعزيز استقلالية القرار ورفض الوصاية الأجنبية وتفكيك التبعية للقوى الاستعمارية وتقوية الجبهة الداخلية هي شروط حسم المعركة مع السائد والطريق الملكي نحو الفوز بالجولة الجديدة من حرب المناورة الشعبية في سبيل التحرر ومجد السؤدد.

غير أن الاهتمام بالحرية لا يتعارض من توفير الأمن والحماية للناس والتصدي للجريمة والتهريب والعنف وضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي على مستوى غذائي وتأمين مياه صالحة للشرب والطاقة والاعتناء بالصحة وتوفير الدواء الشافي والسكن اللائق والنقل الآمن والشغل للمعطلين والخرجين.

من المجدي التركيز على التغيير البطيء والطويل الذي يقوم على التأسيس الصلب والتداول السلس على المسؤوليات والتركيز على الانتقال بالبارديغمات من الأنماط الإرشادية التقليدية والكلاسيكية إلى المختلفة والمبتكرة والتي تتناسب مع الزمن الثوري ومطالب التدخل العلاجي ودرء الآفات والخروج من الآزمات.

تحتاج الثورة المدنية إلى مفاهيم أساسية من أجل فهم طبيعة الأحداث ومسارها ومصير الأوطان والشعوب ويمكن الاستفادة من الثورات التي تحدث في المجال العلمي والتقني لكي يتم تفسيرها والتحكم في مآلاتها وحسن التعاطي مع برامج الفاعلين الثوريين وتتصدى للقوى الرافضة للمسار الثوري والممانعة للتغيير.

ماهو مطلوب بالنسبة للفكر الحاذق هو تمكين الناس من توديع العالم الشمولي القديم والإلقاء به في محيط التفكيك واستدعاء العالم الجديد والمناداة عليه بالقدوم وتأسيس رؤى جديدة للحياة ونظرة أخرى للإنسان. هكذا لا يكون استكمال السيرورة الثورية بتمكين العائلات السياسية المحافظة من القيادة أو التعويل على ورثاء المنظومة القديمة بل بالتعويل التام على الارادات المنعتقة والعزائم الصادقة والمناضلين المخلصين ولا يقوم الاستئناف الفلسفي على اعادة ترتيب بسيطة في الادوات والشروع التدريجي في حلحلة الاوضاع وانما يقتضي الكثير من التثوير والتشريح والخلخلة والتقويض والتفكيك للتخلص من الجينات الشمولية وبذور التسلط وقلاع الاستبداد وعادات الاحتكار وأمراض التمييز والشروع في البناء على أسس عقلية ديمقراطية وإعادة التأسيس بإعادة التشكيل للمؤسسات العمومية باعتماد ذهنية تعددية.ألم يقل غرامشي: "إذا كانت الفئة المقهورة شيئا بالأمس، فإنها لم تعد كذلك اليوم بل أصبحت كائنا تاريخيا ، طرفا في العملية التاريخية، وإذا لم تكن مسؤولة بالأمس، لأنها كانت تقاوم إرادة أجنبية عنها، فإنها تستشعر الآن بالمسؤولية الملقاة على عاتقها لأنها اجتازت مرحلة المقاومة وباتت بالضرورة ذاتيا فاعلة ومبادرة"2[2]؟

المصادر:

[1]  أنطونيو غرامشي، في الوحدة القومية الايطالية،  ترجمة فواز طرابلسي، منشورات المتوسط، ميلانو، ايطاليا، طبعة أولى، 2017، صص143-144.

[2]  أنطونيو غرامشي، قضايا المادية التاريخية، ترجمة فواز طرابلسي، منشورات المتوسط، ميلانو، ايطاليا، طبعة 2، 2018،   ص32.

  كاتب فلسفي

[1]  أنطونيو غرامشي، في الوحدة القومية الايطالية،  ترجمة فواز طرابلسي، منشورات المتوسط، ميلانو، ايطاليا، طبعة أولى، 2017، صص143-144.

[2]  أنطونيو غرامشي، قضايا المادية التاريخية، ترجمة فواز طرابلسي، منشورات المتوسط، ميلانو، ايطاليا، طبعة 2، 2018،   ص3