مذكرات نصير/ مؤيد بهنام                                                

يصعب علي تذكُر أول مرة التقيت فيها بهذا الرفيق الهاديء والرصين، الطيب والحنون، والذي كان الحزب بالنسبة له يعني كلّ شيء. غير أن ما استقر في الذاكرة أن غالبية رفاق مفرزة الطريق في الغالب كانوا يحلون ضيوفا على فصيل الحماية طيلة فترة إقامتهم في مقر القاطع وتعرفت على غالبيتهم بهذه الطريقة.

ابو الوسن عنصر مهم من عناصر مفرزة الطريق من الذين تعرفت عليهم آنذاك. ولأن رفاق مفرزة الطريق يأتون  ويرحلون كالبدو الرحل، لا بيت حقيقي لهم، ولا سقف دائمي فوق رؤوسهم، ولأن الجميع يعرف انهم حلقة الوصل بين الداخل والخارج، وأنهم في تنفيذ مهامهم هذه إنما يعرضون أنفسهم لمجازفات ومخاطر شتى، فإن قدومهم إلى المقر غالبا ما يشبه مهرجان صغير من الفرح والسعادة والحفاوة والتكريم. إذ إنّ الجميع ينظرون لرفاق مفرزة الطريق على أنهم أناس من نوع خاص، سبكوا  من معادن ثقيلة وثمينة وعصية على الانثلام أو الانكسار.

ذهبت مع ابو وسن، بعد أن توثقت وتعمقت علاقتي به، الى إحدى القرى الكردية الصغيرة لملاقاة والديه بعد فراق أكثر من عشرة سنين. ورافقنا أيضا الرفيق أبو أنيس في هذه الرحلة. اعتقد ان اللقاء حدث في شهر تموز من عام ١٩٨٥. أجد الآن صعوبة بالغة في إعادة وصف ذلك اللقاء المشحون بعواطف جياشة وكاسحة، بالكلمات وحدها. فما يمكن أن استعيده الآن من ذاكرتي هو منظر كثيف المشاهد عصي على الوصف تماما، لنساء وبنات مجتمعات خارج بيوت القرية يترقبن بعيون واجفة ودامعة لحظة اللقاء المرتقبة العصيبة، بين أم وأب من جهة، وابن من جهة اخرى، لم يلتقيا لأكثر من عشرة سنوات. وما زال شبحي ذينيك الوالدين غائرين في ذاكرتي لم ينمحيا لحد الآن.

للذين لا يعرفون فان ابو الوسن كان ضمن مفرزة الطريق التي وقعت في كمين قاتل، استشهد فيه نخبة من ألمع رفاق المفرزة. اعتقد ان ذلك الحدث المأساوي وقع صيف عام ١٩٨٤. ابو وسن نفسه نجا من موت محقق لسبب جد بسيط هو انه احتفظ بمسدس في علجيته لذا فإن الرصاصة الغادرة  اصطدمت بالمسدس ولم تخترق ظهره لترديه شهيدا هو الآخر.

مرة من المرّات افشى ابو وسن لي سرا شخصيا خطيرا، هو المقل في الكلام والمقتّر في البوح بأسراره الشخصية. اسرّ لي انه تعرّف على رفيقة في سوريا ( اعتقد في مدينة القامشلي ) قادمة من هنغاريا وأنه قد حصل إعجاب بين الطرفين.

شاءت الصدفة بعدها ان اذهب مع مفرزة إلى منطقة لولان، حيث مقر إعلام الحزب والمكتب العسكري. رأيت هناك رفيقة قيل لي انها قد قدمت حديثا من الشام، وبالتحديد من هنغاريا.  أتذكر انها كانت جالسة لوحدها على صخرة، شابة جميلة فارعة الطول، بشعر منسرح وابتسامة هادئة.

أخبرني الرفيق ابو نهران حينها انها بنت مدينته الناصرية وان أسمها الحركي آفاق.

حينما عدت إلى قاعدتنا في بهدينان عرفت من الرفيق ابو وسن ان آفاق هي تلك الفتاة المعنية التي وقع في غرامها منذ حين.

ولم يطل الزمن كثيرا قبل أن تنقل آفاق إلى قاطع بهدينان  لتلتقي بابي الوسن وتقترن به. وسوف لن ينمحي من ذاكرتي ذلك المساء الصيفي الصافي الرائق حيث كنا ننتظر وصول المفرزة ومعهم الرفيقة آفاق. ولما تناهى إلى سماعنا دبيب المفرزة على أطراف المقر، خرج رفيقنا الراحل أبو جميل، وكان يشاطرنا في الكثير من الأحيان مزاحنا " ونصباتنا " وتوجه إلى الرفيق ابو وسن مخاطبا إياه :

- هاي شنو شصاير بيك رفيق ابو الوسن ؟

- شنو رفيق ابو جميل اشتقصد ؟

- وجّك صاير احمر كلش... قطعة دم..شنو خجلان !

-

تطلع فينا ابو الوسن مجيبا :

- تستغلون ضعف موقفي ها...آني الكم رفاق وين تروحون.

طبعا علت الضحكات والتعليقات والغمز واللمز غمرا المكان.   ثم حطت المفرزة رحالها في ساحة فصيل الحماية.

ولم يمض وقت طويل حتى عقد قران ابو وسن وآفاق. غير أن  ابو وسن استمر في العمل في مفرزة الطريق، فوجب على آفاق ان تبقى وحيدة، في كل مرة يشد فيها الرحال مع المفرزة، لحين موعد رجوعه.

مرة من المرات حدثتنا آفاق بانها ستصنع لنا نبيذا. وأذكر أنها عملت الخلطة من ثمرة التفاح في قنينة أو قنينتين زجاجيتين، ثم دفنتهما في باطن الأرض لمدة شهر تقريبا أو اكثر. وحينما نضج النبيذ، ازف موعد الشراب المرتقب الذي كنتُ انتظره بفارغ الصبر.

في ليلة هادئة ذات سماء صافية تشع فيها آلاف النجوم، وفي غرفتنا أنا وسمر، حل علينا ضيفان عزيزان، آفاق وابو الوسن، شربنا النبيذ الذي صنعته آفاق، مع المازة طبعا. النبيذ بلا شك كان من أجود أنواع النبيذ التي يمكن أن يحصل عليها المرء في تلك الظروف البدائية.

آفاق رفيقة هادئة الطبع والمزاج، ودودة، ذات شخصية قوية، محبة للرفاق، لا تتوانى عن تقديم المساعدة لمن يحتاجها. وتجلت هذه الصفة الكبيرة في شخصيتها على نحو أوضح عندما تم قصف مقر القاطع بالسلاح الكيمياوي فاصيب غالبية الرفيقات والرفاق بما يشبه العمى( كنت انا واحد من المصابين ). الرفيقة آفاق هي وعدد قليل من الرفاق والرفيقات نجوا من الإصابات. لقد بذلت آفاق جهدا استثنائيا بليغا على مدار الساعة ولايام متتالية للتخفيف من وطأة الإصابات ومساعدة الرفاق في احتياجاتهم الآنية اليومية.

آفاق اخذت ايضا على عاتقها مسؤولية تعليم مشمش( إبن عائلة ابو وام علي موضوع الحلقة السابقة ) ، ففتحت له ما يشبه الصف المدرسي بأوقات دوام محددة. وبين ليلة وضحاها صارت آفاق تحمل لقبين في أن واحد، ست آفاق، وبنت المديرة ! وتحول مشمش ( نصير ) إلى تلميذ مواظب ومجتهد. وعملية التدريس اتخذت طابعا نظاميا جديا بحتا وأصبحت جزءا هاما من حياة المقر، يهتم بمتابعتها العديد من الرفاق، خاصة الأبوين ام وابو علي وست آفاق.

أما أبو الوسن فهو نصير غني عن التعريف، يتمتع بخصائص إنسانية راقية. نقي وطيب، تمتعَ بمنزلة رفيعة ببن غالبية الرفاق. وصل شدة حبه وإخلاصه وتفانيه للحزب انه في يوم من الأيام اتخذ قرارا في غاية الصعوبة دفع كلاهما، ابو وسن وآفاق، ثمنا باهضا للغاية بسببه في السنين اللاحقات.

شائت الصدف أن تصاب الرفيقة آفاق بالحمل في سنة من تلك السنين. حينها أصر أبو وسن ان يصار الى إجهاض  الجنين، لاعتقاده الشديد ان الطفل سيصبح عائقا أمام تأدية  مهام العمل الحزبي الجسيمة الملقاة على عاتقهما !

وبالفعل تمت عملية الاجهاض حيث قام بها كما اظن رفيقنا العزيز الدكتور أبو تضامن ( تحية خاصة له )، في ظروف صعبة وبدائية وغير وقائية على الإطلاق.

ثمن هذا القرار انعكس لاحقا في استحالة عملية الحمل والانجاب.

وانا إذ أتطرق إلى هذه المسألة الحساسة جدا ( ارجو ان يعذرني العزيزين آفاق وابو وسن ) فإني أبتغي أن اشير الى حجم ومدى الاستعداد لدى بعض الرفاق والرفيقات للتضحية آنذاك، في هذه الحالة الرفيقين ابو وسن وآفاق التي لم تجد بد من الانصياع لرغبة شريك حياتها انذاك، في القيام بعملية الاجهاض !

لا اناقش هنا صحة أو خطل ذلك القرار، فقد اتخذ في وقته وظروفه الخاصة، لكن انما أتطرق إليه لابين استعداد غالبية الرفاق للتضحية بما هو غالي ونفيس من أجل الحزب، كان بلا حدود، دون أدنى تفكير بما يمكن أن تجلبه تلك القرارات من عواقب وبيلة على الحياة الشخصية والزوجية.

فيما بعد في السويد، قاما الرفيقان، آفاق وابو وسن، بعملية غاية في الإنسانية، إذ تبنيا طفلة رضيعة من إحدى المدن الجنوبية في العراق، مدينة الناصرية، واسمياها بالاسم الجميل " يارا ".

يارا صارت طفلة الفرح والأمل، لحظة السعادة والحب التي لا نهاية لها، الشمس والقمر وكل فصول السنة في حياة الرفيقين ، النصيرين الجميلين، آفاق وابو الوسن. ويارا كبرت الان وصارت صبية يافعة جميلة في عمر الزهور.

ألف ألف تحية لهما.....

* لست متأكدا فيما يخص تأريخ الكمين القاتل الذي وقعت فيه مفرزة الطريق...العتب على الذاكرة...