مذكرات بيشمركة / 84  الزمن الصعب / سعيد الياس شابو / كامران 

كانت الأحداث تتسارع في تلك الحقبة الزمنية  أي في أواسط من شهر آذار وأنت صاعدا .. في العراق وخاصة في الحرب العراقية الايرانية وعلى صعيد كوردستان قد  بلغت ذروتها في تصاعد نسبة الهاربين من الجيش (الفرارية) ومشكلين الفارين شريحة مؤثرة لكونها القسم الأكبر منها معلمين وموظفين متنوعين لم يرغبوا بتلبية رغبات السلطة وندائاتها بالألتحاق في الخدمة الأحتياطية في الجيش العراقي لتصبح وقودا للمعارك الساخنة والطاحنة في تلك الحرب القذرة وتخرصاتها ، ومن ثم ألتحاق تلك الشريحة العاصية على السلطات في القرى التي تقع تحت سيطرة القوات البيشمركة والأنصار التابعة للأحزاب المعارضة ومنها الأتحاد الوطني الكوردستاني (أوك)والديمقراطي الكوردستاني (بدك)والسوسيالست (حسك) والباسوك ، والشيوعي العراقي (حشك)، وإن تقدمت وتأخرت الأسماء إلا أنها أحزاب غير متجانسة فعليا لأسقاط سلطة بغداد ولم يكن لها خطة هادفة للعمل الجاد لأضعاف النظام والذي كان يعمل لأضعاف والوقوع في الفخات التي كانت ترسم في أقبية الغرف المظلمة المخابراتية ويخطط لها حسب البرنامج وهذا ما حصل تدريجيا !

أي لكل حزب أجندته بالرغم من وجود جبهة (جود ) بين الأحزاب ما عدا وعدى ( أوك ) الذي كانت مناطق واسعة في كوردستان ماعدى منطقة بهدينان تحت سيطرة نفوذه التنظيمية ولكونه سبق تلك الأحزاب في تلك المناطق ومنها وادي باليسان أي تواجد قواته ومفارزه وسرعة حركتهم كان مرئيا ! ومقرهم الرئيسي قرية باليسان وتعتبر من المراكز المهمة والمغلقة لهم ! وقرية باليسان شبيهة بجنينة لكون مياهها الوافرة والبساتين الكثيرة مشكلة قطعة خضراء تختلف كليا عن القرى التي تجاورها سواء كانت من قريب أو من بعيد !!

وكانت الحالة بين تلك القوات والمفارز أعتيادية وشبه أعتيادية من حيث التصعيد والصراعات إلا ما ندر هنا وهناك ولم يؤثر على الوضع العام ونحن في أواسط سنة 1982 وصاعدا بحيث كنا نبقى في قرى ونلتقي وندردش فيما بيننا لمن له عرف وأقارب وأصدقاء ونتبادل الأحاديث دون مشاكل مستعصية! وهكذا لكل حزب مفارزه وكوادره تتجول في المناطق الواسعة من سهل أربيل ومناطق خوشناوتي وبالكايتي وبشدر وبيتوين ، وكويسنجق وسهل حرير والمناطق الأخرى !!!

هذا نحن البيشمركة الأنصار .. وهم أصحاب الياخات البيض ( الفرارية ) أصحاب الجاه والمال والمعرفة !!!  كانوا شريحة وأكثريتهم لا معنا ولا مع السلطة أي لأنفسهم يشكلون (طبقة) وتنتظر الفرج القادم من الله  أي وقف الحرب بين الدولتان المتحاربتان والمتحاربتين ، وفي أحيان كثيرة يستضيفوننا لتناول وجبة طعام وتبادل الآراء في الوضعية السياسية الرديئة وطبيعة الجبهات القتالية بين الدولتان الجارتان  ووضعية الأحزاب الكوردستانية والتشنجات الغير حميدة  فيما بينها !!

وكانت السلطات العراقية تفكر بتبويش الحالة الموجودة في الساحة بأصدار قرار العفو للهاربين وأفساح المجال لتشكيل الأفواج الخاصة الخفيفة لأصحاب الجاه والنفوذ وعدم بقاء الفرارية العاصين في مواقعهم خوفا من أن يلتحقوا بالبيشمركة ومن ثم تزايد نفوذ البيشمركة سيكون له التأثير المضاعف والتصعيد في العصيان الشعبي والعسكري ، وهذا ما لايحمد عقباه طالما الخسائر في جبهات الحرب مع إيران يستنزف القوى والطاقات البشرية العراقية .

وفعلا نجحت السطلة في بسط نفوذها وعاد الكثير والكثير من الهاربين من الحرب ، وليلتحقوا بالأفواج الخفيفة ومشكلين ربايا ومعسكرات جديدة لتعادي حركة البيشمركة والأنصار في المناطق التي كانت محررة ومتروكة عسكريا بسبب الحرب ، ولكن كانت البعض من تلك القوات والجماعات والأشخاص متعاونين مع البيشمركة أثناء مواقف سانحة !

وعند صدور قرار العفو من قبل السلطات العراقية للهاربين .. حدثت وبرزت  حركة عوائل متنوعة في الزيارات الى مناطق التي تتواجد فيها مقراتنا ومقرات الأحزاب ولكل أجندته واهدافه وطموحاته وتوجهاته . وبقى الخيرين من الملتحقين والذين التحقوا بتلك الأحزاب في الساحة وهي تقدر بالمءات الكثيرة والآلاف القليلة وكل حزب زاد رصيده من تلك الجموع الكبيرة والشبابية .

حرق الأفرشة العفنة والنتنة لقريتين ( شيري العليا والسفلى )!!

عندما يكون الحديث عن حياة الأنصار البيشمركة ولكل الأحزاب ، فلا يمكن أختزال تلك الحياة فقط في القتال وحمل السلاح !! لا بل أمور كثيرة بحاجة الى أن تخرج للمتلقي والقاريء والمتابع من المثقفين والروائيين والكتاب والممثلين والمسرحين ويقرؤا تلك الصور التي عشناها بحذافيرها ومفرداتها لكي تكون درسا ودروسا ، وذلك من أجل البناء وليس السخرية والأتجار بالدماء الزكية والتي هدرت دون وجه حق سواء على مستوى الأقتتال الداخلي بين الأحزاب أو على الصعيد الأكبر بيننا مجتمعين وبين النظام الدكتاتوري !!

بينما كنت أترقب مجيء رفيقة الدرب أم فيدل والأطمئنان على وضعهم أي الاهل ومعرفة المزيد عن الذين تركتهم كبشا للعذاب وما تحمله الأيام والشهور والسنين لهم ولم أكن وحيدا لأسرد ( البطولات )!، وإذ بأم  فيدل وهي قادمة وأنا غير مصدق وفي هذا الصيف الجاف والحار مع الراحلة رفيقة الدرب الأخت  منيرة أسحق في سيارة تاكسي بحيث حرنا بالوضعية  وما الحل لنحصل على مكان للراحة والأستجمام !! .. أين ستكون وجهتنا ونحن لا نعرف أية عائلة تأوينا  في المنطقة ، ولو لا الرفيق الشهيد توفيق هريري لكانت الحالة متعبة ، لكونه أي الرفيق خوشناو / توفيق حريري كان كادرا في تلك المناطق وهو ذو علاقات طيبة مع الكثرة من الناس والقرى والفلاحين .. فدعانا الى أكثر من بيت في شيرئ العليا بحيث قضينا مع العوائل الموجودة هناك أيام جميلة والتقيت برفيقة الدرب منيرة أسحق والتي جائت لزيارة حبيبها النصير ثائر حنا صليوا وكان الرفيق هيوا أبو شوقي بصحبتنا ولكن دون أم شوقي ، وكانت النكات والمزح والحرشة بالرفيق هيوا أكثر من قوية ومؤذية !!!!

بينما كنا في القرية الشبيهة بالمصيف من حيث البساتين وموقع القرية في الجبل الغير محسود عليه ونحن نسمع مما حدث للأفرشة المحروقة !

وربط بسيط بما يمكن تبسيطه وتبيان الحقيقة لما آل اليه الوضع الصعب لأهل القرى الفقيرة ومفارز البيشمركة المتنوعة حزبيا وعدديا .. أي كانت المفارز والقوات الكثيرة للأحزاب منقسمة وثابتة وشبه ثابتة ومتحركة تتوزع في البيوت لتناول الوجبة والوجبتين والثلاثة !!! وليوم ويومان وثلاثة !!! ولأسبوع وأسبوعان وثلاثة !!! وهكذا تذهب مفرزة وأخرى قادمة تحل محلها ، وتتحرك قوة ... وأخرى قادمة وهي أكثر عددا وعدة !! بحيث أهل القرى أصابهم اليأس من ندرة المؤن الغذائية والأرزاق وصعوبة الحصول عليها والغلاء والمتاعب التي تتحملها تلك العوائل ...... وأثناء التوزيع في البيوت في المساء ودور العشاء والقسمة وأنت وحظك ! تتعشى المقسوم وتطلب الفراش أي المخدة والدوشك والبطانية أو اللحاف... وأنت حامل الفراش أو أحد الأبناء حامل الفراش الى سطح الجامع أو داخل الجامع لكي تقضي ليلة أو ليلتان وأكثر وحسب الوضعية !!! وعليك بالقدوم والعودة الى الفطور الصباحي وهكذا ، وبما أن المفارز الكثيرة والكثيرة كانت تزداد يوما بعد آخر .. فالوضعية كانت من قبل القرويين الطيبين من أن الفراش والأفرشة الوسخة والقذرة هي من نصيب البيشمركة !! والأفرشة فيها الكفاية من البرغوث والقمل المتنوع والروائح النتنة وفيها ما يكفي من الفايروسات لتنقل الى الآخر ، ناهيكم تلك الروائح الكريهة والنتنة والعفنة !!!

وإذ بتوجيه من  كاك كوسرت رسول وهذا حسب ما سمعته وهو كان في المنطقة في تلك الفترة .. فأرسل رفاقة من البيشمركة وكل واحد منهم من أن يجلب أكثر من يطغ / فراش ولمرات عديدة بحيث لم يبقى عند القرويين الفراشات القديمة وليجمعوها في بيدر من الأفرشة وفي وسط القرية ليندلعوا فيها النيران بعد سكب الكميات الكافية من النفط عليها  وليرتفع نيرانها وتصبح عبرة للآخرين بحيث على الفلاحين القرويين من أن يحترموا البيشمركة ويقدموا له الفراش النظيف الذي يستحقه وليس الفراش القذر ! وهكذا أنتشر الخبر في المنطقة وأصبحت الحالة درسا فيما بعد .

فأما العم الراحل بطرس الياس / أيليا بطروزا  أبو الدكتور سليم أبو كوران قدم وزارنا في دولي آلانا أي وادي آلانا وهو ناويا ومقترحا .. للرفيق كوران / فارس بطرس الوفي ، متوسلا .. أبني طرة آني فكري يمك وأنت شباب وأمامك مستقبل وأخوتك مشتاقين وسوالف عديدة ومكسور الخاطر .. إلا أن العزيز كوران متعصبا ومتهسترا بالرفض لكل ما يطرح من قبل الوالد ... عود الى حيث ما أتيت ولهنا وبس ! وهكذا عاد العم بطرس / بتي  بعد القبلات والتحياة للأهل والأصدقاء وعنكاوا الحبيبة  ، وتبادلنا العناق مع العم أبو سليم بعد الحديث الشيق ومن ثم غادرنا بكسر الخاطر وأصرار الشيوعيين على الوفاء للنضال ونكران الذات ومعرفة العدو اللدود الذي لايمكن الوثوق به أبدا .

2019.07.28