السياب  ليس ثورياً في الزمان الثوري .....!/ جاسم المطير

في ظل نظام تسلطي  يريد السيطرة الكلية على المجتمع فان اول شيء يفعله هو حرمان إنسان المجتمع من كل نور من انوار المعرفة .هنا ايضاً تجد المواطن خائفاً من ان يقول  كلاماً قد يودي به الى السجن او الاعتقال. هكذا كان كل واحد منا ، نحن جيل البداية الخمسينية بالقرن العشرين. كان الكلام بيننا ، أفراداً او مجموعات ، بغاية السرية . كنّا ، مثلاً، نتبادل الحديث عن  شاعر عظيم اسمه ( ناظم حكمت) .  كان ذكر اسمه محظورات علينا ، نحن طلاب الثانوية المركزية بالعشار .  كان ناظم حكمت شاعراً ليس عراقياً ، بل هو شاعر تركي . كان شيوعياً بالرغم من كونه لا ينحدر من عائلة كادحة ، بل هو ينحدر من احد كبار الموظفين في الامبراطورية العثمانية . نشا ناظم  حكمت في كنف جده الذي علمه تفاصيل ادبية عن الشعر الشرقي . لكن الأفكار الوطنية تسربت اليه من طلاب المدرسة و من عناصر واصدقاء مدينته ، حتى صار شاعراً مناضلاً استرعى انتباه الكثير من العرب ومنهم العراقيين . وضعتنا بعض وسائل الاعلام العالمية  امام شخصية عظيمة تكافح من اجل سعادة الانسان المعاصر من خلال الأخبار التي نستمع اليها عبر الراديو . كنا نفتش بأخبار الليل عن اي إذاعة تذكر اسم ناظم حكمت.  حين نعثر على خبر  او على تقرير صحفي يقدم لنا صورة فريدة عن هذا الشاعر الشامخ ، الذي يعاني من وطأة الاضطهاد في السجون التركية .  اصبح بطلاً اسطورياً في نظرنا نحن شباب ذلك الوقت . مرغمون على الاعتراف بان ناظم حكمت هو المثال الاعلى لجميع الأدباء التقدميين في بلادنا وبلاد العرب كلها والبلاد العالمية ايضاً .  بالنسبة لخليتنا اصبح ناظم حكمت مثلنا الاعلى في الكفاح و الشجاعة و تحدي الصعوبات . كل كلمة تقال او تكتب عن ناظم حكمت تثير فينا ، ضمناً، قوة عظيمة و تنبثق من أعماقنا تنهدات مصاحبة للشتيمة تصدر منا موجهة للحكام الأتراك الفاشيين . هكذا كنّا نسمي الحكومة التركية .  عندما علمنا بإضرابه عن الطعام عام ١٩٥٠ اصبح شتم النظام التركي اكبر و اكبر . وجهنا لعناتنا الى الحلقات الدكتاتورية الإرهابية  بكل مكان في عالمنا. اختصرنا كلامنا بعريضة موجهة الى هيئة الامم المتحدة والى جميع مثقفي العالم للمطالبة بإطلاق سراح هذا المناضل العنيد و  من اجل حرية السجناء السياسيين في كل مكان . و أفدنا في عريضتنا ان اضطهاد الشعراء هو شكل من أشكال الظلامية الحكومية للتنكيل بالشعراء و الأدباء و الكتاب كالأحجار . التقى صوتنا ، هذا ، مع أصوات احرار مناضلين في البلدان العربية و العالم . سعدنا ، تماماً، حين ارتفع صوت الشاعر  اليساري الشيلي ( بابلو  نيرودا ) مطالباً ، ايضاً، بإطلاق سراح الشاعر الشيوعي التركي ( ناظم حكمت) . بسرعة وجدنا استجابة الحكومة التركية لتلك الأصوات فاضطرت الى إطلاق سراحه ، لكنه سرعان ما شعر من جديد بخطورة البقاء في بلاده ، هارباً الى موسكو مرة اخرى عام ١٩٥١ ليبقى  فيها حتى  وفاته. صار هذا الشاعر الشيوعي نموذجاً للإنسانية و الصلابة . ترى هل يوجد مثيل لناظم حكمت في العراق ..؟ 

كنّا امام نماذج متنوعة من الشعراء العراقيين وامام نماذج متعددة من الشعر الثوري و الإنساني ، لكنه لم يصل ، بنظرنا، الى مستوى الشاعر المناضل  ناظم حكمت . كانت حكومة  الجمهورية التركية تخشى الشعر الثوري و صوت الشاعر الثائر  ، كنّا نعرف ان هذه الجمهورية ليس فيها عدل لان ليس فيها قضاء عادل . أظن ان هذا الواقع المرئي من الجميع كان يدفع اعماق بعض الشعراء العراقيين نحو تثقيف نفسه بالمبادئ الثورية ، بمعنى كان يهذب نفسه بنفسه  . اصبح كل شاعر من الشعراء الثوريين الكبار من امثال محمد مهدي الجواهري و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياني يفكر في  تلك الأثناء بالهروب   من العراق الى خارجه لنيل حريته الكاملة في النضال  و التعبير بقصائده الشعرية او في مقالاته النثرية

اصبح اسم ناظم حكمت بالمكان الاول في عقول الشبان  العراقيين ، سواء كانوا من الشعراء او من المتابعين الثقافيين الاعتياديين . في نفس الوقت كان يمكن لكل إنسان ان يجد الشاعر العراقي بالمركز الثاني . كان صوت سري يخرج من اعماق العراقيين : أيها الشعراء العراقيون تعلموا كيف تجعلون الجماهير ثوريين

كنّا نحب سماع الكلمات الثورية عن الشاعر التركي ناظم حكمت ، الذي بدا لنا ، في عقولنا ،  انه يدفع  بنضاله في السجن ، اغلب متابعي اخباره ، بالعراق او في اي بلد عربي اخر ، الى التفكير في تكريس الفكر الجماهيري ضد  ارهاب الدولة المشهود في عالم  غير منظم ، في عالم غير هادئ ، في عالم مليء بالتقلبات و الاضطهاد. كنّا نحن ، أبناء ذلك الجيل، نتوقع حالة أكيدة من حالات ( الأوج الثوري) ستأتينا قريباً ، كما جاءت في عام ١٩٥٢ بمصر . كنّا نحس ان ناظم حكمت انبثق من مجتمع الظلم  المتشابه مع الظلم العراقي . لذلك صرنا ننظر الى الشاعر - الصحفي العراقي محمد مهدي الجواهري أنه   سيكون صوتاً عالياً مثل صوت ناظم حكمت و سوف يرتفع اسمه في سماء العراق

لكن لا بد ان اقول ، في هذه المقالة ، اننا كنّا ننظر الى اسم الشاعر بدر شاكر السياب انه اقل ثورية من ناظم حكمت و من  الجواهري ، ايضاً .  انه اقل فضيلة ثورية  وربما جاءت الفكرة في اذهاننا متسربة من  عدم ممارسة الشاعر السياب  ، الكتابة السياسية في الصحف اليومية . وربما انه لم يكن يحسّن الدعاية الجماهيرية لنفسه .  لكننا ، مع ذلك ، كنّا نعتقد ان أنظمة الشعر و الشعراء ستنتصر حتماً ، كلما اعترفنا بدورية بيت واحد من الشعر كنّا نحفظه من خلال وجود قصيدة الشاعر التونسي ابي القاسم الشابي في كتبنا المدرسية: (اذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر .) 

هذه القصيدة علمتنا ان لا نخاف و ان لا  نسأم  ولا نمل و لا نكل من مواصلة النضال أملين من شعرائنا الجواهري و السياب و بلند الحيدري  و  عبد الوهاب البياني  أن يكونوا جميعهم مثل ناظم حكمت . كنّا ننظر نظرة فخر خصوصية الى  محمد  صالح بحر العلوم ، الشاعر المسجون ، الذي  حمل امتيازا خاصاً في قلوب الشباب الثوري . اذ علمنا ان سبب وجود هذا الشاعر ليس لكونه شيوعياً مثل ناظم حكمت ، بل انه يريد ان ينشر الإيمان  الحقيقي بقوة الشعب في نضاله ضد السلطات الحاكمة

من خلال الروح الجماعية لمختلف الشعراء العراقيين صرنا نعتقد ان أنظمة الشعراء العراقيين سوف  تكتب للشعب انتصاره الحقيقي بنهاية المطاف. سيكتب شعراؤنا معلقاتهم الجديدة على أساس تجربة الشعب العراقي و على أساس تجربة المتظاهرين في شوارع بغداد و البصرة و النجف و غيرها ضد الإنكليز المسيطرين على بلادنا بواسطة عملائهم .  قيل لنا ان هناك كلمة استنكار  صغيرة صدرت عن عبد الوهاب البياني و عن رشيد ياسين و عن  عبد الرزاق عبد الواحد و عن  الشاعرة  لميعة عباس عمارة . مثلما صدرت  كلمة صغيرة عن بدر شاكر السياب . اما محمد مهدي الجواهري فقد كتب مقالات حادة  ، كما اصدر او سرب الى الصحف تصريحات ضد الاستعمار . كانت هذه الكلمات تحمل تأثيرات حجمها المادي و السياسي ، الذي سيترك تأثيره  ، عاجلاً او اجلاً على الشعب العراقي . الحق اقول ان قصيدة الجواهري المعنونة ( يوم الشهيد) التي نظمها بمناسبة أربعينية أخيه شهد الوثبة ( جعفر الجواهري)  التي حفظناها حال انتشارها بكل مكان في العراق بواسطة خط اليد ، كما انتقالها من يد الى اخرى

كان الجواهري يقول في مطلع هذه القصيدة

يوم الشهيد تحية و سلام                    بك و النضال تؤرخ الأعوام 

بك و الضحايا الغر  يزهو شامخاً          علم الحساب و تفخر الأرقام  

بك و الذي ضم الثرى من طيبهم           تتعطر الأرضون و الأيام 

بك يبعث الجيل المحتم بعثه                  و بك القيامة للطغاة تقام 

هذه القصيدة  متميزة بالموقف الشعري الواضح  سياسياً .. بمعنى انها متميزة ، شعرياً ، في ادانة نظام سلطوي يتحكم بمجتمع مدني متطلع الى البناء الحضاري و ليس الى قتل المتظاهرين السلميين في الشوارع و في السجون . كنّا ننتظر ان يكون الشعراء العراقيون جميعهم  بمستوى الانسان العراقي المتمدن . يستخدمون  قصائدهم على ضوء قرار الجواهري و يتصرفون شعرياً بمواقف يحتد فيها الصراع بين الشعب و الحكومة ، كما وجدنا ان المفترض في  بدر شاكر السياب ان تكون قصائده  ،  بتلك الفترة ،  داعية من دعاة المجتمع المدني وان تكون احدى قصائده مرضية للشيوعيين العراقيين طالما كان السياب منتمياً بتلك الفترة الى الحزب الشيوعي . لكنه لم يتداخل  مثل الجواهري ، لا في  احداث وثبة كانون  عام ٤٨ و لا في إعدام يوسف سلمان يوسف  ورفاقه الآخرين من قادة الحزب الشيوعي،  كما فعل الجواهري وهو لا ينتمي الى الحزب الشيوعي . هذا يعني ان السياب لم يتطابق ، شعرياً ، مع السلوك الشيوعي الحضاري بتلك الفترة ، ايضاً

لكن  السياب لم يتجاوز ، شعرياً ، على السلوك الحضاري الشعري في قصيدته ( الأسلحة و الأطفال) حين حملت هذه القصيدة ( و هي من البحر الشعري المتقارب)  وعياً ذاتياً و جماعياً كان بمستوى السلوك الحضاري ، الذي كان الشيوعيون يتبنونه في قضايا الحرب و السلم ،  حيث أدان جرائم  تجار الأسلحة.  كما أدان  كل من يستعبد شعبه و يهينه بالاضطهاد السياسي القمعي المريع . ان ( الأسلحة و الأطفال) نوع من الوعي المجتمعي ، بل نوع من خصائص المجتمع الحديث ان يعيش سكانه بعيداً عن الحروب و في طاقة  بشرية سلمية تنطلق من الطفولة

ذات يوم من ايام شهر حزيران عام ١٩٥٠ وفي لجة اهتمامنا بالمظاهرات و الشعر و النضال ،  قيل لنا اذهبوا الى قاعة نادي الطلبة في العشار. لكم فرصة استمتاع  شعرية من نمط من أنماط الشعر السياسي بمناسبة دينية يشارك فيها عدد  من اهم أدباء و شعراء البصرة . من ضمن المشاركين شاعرين عراقيين  مهمين . الاول هو بدر شاكر السياب و الثاني هو رشيد ياسين .  احدنا فسّر الدعوة انها امتداد لبعض أشكال النضال ضد النظام السياسي. . 

في اليوم المحدد أثبتنا بالبرهان اننا على استعداد تام لحشد  اكبر  مجموعة  من الشباب في اكبر قاعة اجتماعات بتلك الآونة ،  في مدينة البصرة ، لحضور مناسبة معروفة بأهميتها للجميع . كان مع كل واحد منا فريق من أصحابه . كان كل واحد منا يريد ان يتجاوز الحد الأدنى المكلف بصحبتهم  في الحضارة . إذن صار أمامنا تحديد الحد الأدنى من الكرامة الشخصية  المعنوية لكل واحد منا . نسينا ازعاجات الطقس الفائض بالحرارة الزائدة عن كل يوم  ،  مثلما الحزن زائداً  ، في ذلك اليوم ،  عن كل يوم من ايام تلك السنة .  لم يكن كل هذا الصنيع كافياً  انما علينا تحديد الحدود على اوضاعنا على ان نكون بمستوى عالٍ من الاحتشام وان تكون ملابسنا نماذج من أشكال التعبير عن الحزن . البعض ارتدى قميصاً اسود و البعض الاخر وضع على صدره قطعة قماش سوداء كدليل على الإرادة الحزينة و علاج فكرة  الفضيلة . دخلنا القاعة الكبيرة و نحن بأعلى درجة من الالتزام الحزين . وجدنا أصدقاء و زملاء كثيرين قد سبقونا من مختلف أنحاء البصرة و العشار و الزبير و القرنة و الفاو و ابي الخصيب و التنومة . كما وجدنا عدداً من وجوه الملاكين و التجار و المقاولين  الى جانب أكثرية من الناس ،  المتوسطة و الفقيرة في احوالها المعاشية . كان اخر الحاضرين بعض وجوه السلطة الإدارية الحاكمة . منهم مدير الشرطة وحاشيته ومدير الصحة و حاشيته ومدير المعارف و حاشيته و مدير الجمارك و حاشيته وكان  آخرهم اكبر المسؤولين متصرف لواء البصرة و حاشيته . جلسوا جميعاً الى جانب المعممين من رجال الدين ، من السنة و الشيعة ، كان من بينهم من نعرفهم من امثال محمد سعيد الحكيم  و الشيخ محمد المظفر و الشيخ رشيد          السامرائي .   الشيء الوحيد ان صورة الحاضرين ليست كاملة فقد غاب عنها الأساس النسائي للمجتمع إذ لم يتنازل القيّمون على الحفل التأبيني بضرورة الحفاظ على درجة التناسق الاجتماعي بدعوة مجموعة من نساء ذلك الزمان لحضور  الحفل .  

بقينا نتساءل ، قبل بدء الاحتفال، ما هو الجذر المشترك ، الذي يجمع كل هذه الوجوه ، جميعها، كوحدة  واحدة ذات حيوية ..؟  وجدنا الجواب في صدر القاعة . كلمات التمجيد بلافتات سود منتشرة  على حيطان الجهتين ، اليمنى و اليسرى . في صدر القاعة لافتة كبيرة تحمل بضع كلمات غزيرة المعنى عن الذكرى السنوية لاستشهاد الحسين بن علي ابن ابي طالب في معركة الطف ضد البغي و الطغيان . اريد من هذه المناسبة الفاجعة ان تعيد الحياة الى واحدة من ابرز معارك الحياة من اجل الحرية و الحقوق الانسانية  بالرغم من ان اغلب أعضاء السلطة الحاكمة الحاضرين كانوا من البغاة،  الذين قمعوا بالحديد و 

النار  وثبة كانون و إضراب عمال الموانئ حيث ألقى بدر شاكر السياب قصيدة عبر فيها هذا الشاعر عن تأييد المثقفين للطبقة العاملة،  المناضلة من اجل الحد الأدنى من تسامي الحياة الانسانية  بشكل حقيقي من أشكال المواطنة و الكرامة واحترام القوانين المدنية .  

بدأنا ، تدريجياً، نفهم ما يجري حول الكواليس . انه الاستعداد لبدء الاحتفال . الكل ينظر إلى ساعة يده و   الى اللافتة الكبيرة  ، المعلقة أمامنا : ( الحسين رمز البطولة و الاستشهاد ..) . احسست بتلك اللحظة ان السماء كانت فارغة من كل شيء و ان الكرة الارضيّة  مليئة بكل شيء . هيبة الجالسين كانت بنوعين : نوع صادق لأنه من مؤيدي نضال الحسين الشهيد من اجل الحق و العدالة  ومساواة نضال لوركا و ناظم حكمت وبول ايلورا بنضاله ، لكن يصعب التساوي بتضحياته بينهم و بين الحسين الشهيد .

نوع اخر من الحاضرين  كان كاذباً لأنه من نوع شبيه مع يزيد بن معاوية قاتل الحسين . يمارسون كل يوم ما مارسه قاتل الحسين مرة واحدة  في التاريخ .  الصمت المطبق داخل القاعة أثّر  كثيراً ، كما اعتقد ، في تفكير جميع الحاضرين من النوعين من الناس ، الصادقين و الزائفين

تبادلنا نظرات شدتنا  ، بهدوء تام ، الى عصر الحسين الشهيد و الى عصر بطولته في كونه الامام الثالث عند كل فرق الشيعة و هو امام ايضاً عند المعتزلة . وقد أضاف بعض الخطباء في هذا الاحتفال الى حقيقة ان مجابهة الظلم الإنساني تستدعي اعلى شكل من أشكال التضحية بالنفس و بالعائلة . تأملنا الاقوال جيداً عن النوع الفريد في قسوة ظلمة الحسين الشهيد كما كنا قد قرأنا او سمعنا عنها قبل هذا الاحتفال . كذلك كنّا قد سمعنا ان الحسين و مناصريه القلائل أقوى من  جيش قابله ، أقوى من نظام ذلك الجيش .  كما صار عندنا يقين  بان  الظلم زائل و ان الظالمين زائلون،  ،يظلون  ملعونين في مجرى التاريخ

اعلن عريف الحفل في كلمته عن مجموعة من الآراء و التصورات يسمعها الحاضرون عن عظمة المحتفى به وعن تضحياته من اجل الحق و الحقيقة . تناوب كتــّاب و شعراء و خطباء في الصعود الى المنصة لتقديم تحديداتهم عن معنى الشهادة و عن معنى الإيمان و عن معنى البطولة . تكلم أدباء و شعراء : محمد جواد جلال و جميل الجبوري و الدكتور قيصر معتوق و كاظم مكي  وغيرهم من أدباء البصرة  عن معاني بُنى الانتماء الإنساني الموروث في مدينة البصرة  عن أزمان سابقة ، زمان المربد و زمان الجاحظ و الأصمعي و الحسن البصري و المعتزلة وغيرهم  ممن ساهموا في نقل الفعالية الفكرية - الفلسفية الحية ، الناهضة من البصرة الى أنحاء العالم العربي

ليس ثمة  اي تنافس في هذا الاحتفال . كل من وجد نفسه فوق المنصة كان يمجد المحتفى ببطولته و شهامته الانسانية ، لكن ما أثاره  شاب نحيف بصوت خافت ، خجول، اثار بكلام حر ، في قصيدة طويلة ،  انتباه جميع المستمعين ، الى ضرورة تطوير احساسهم بالواجب الوطني وبالالتزام نحو المجتمع و الدفاع  عن العدالة و عن كرامة الانسان ، كما كان الحسين الشهيد قد ضحى بحياته و حياة أفراد من    عائلته

هذا الشاعر اسمه بدر شاكر السياب ،  كنت قد سمعت باسمه لكن ما رأيته .  كان شعره مثيراً الى حد قدّرته الصحف البغدادية ، بعد ذلك اليوم ،  تقديراً عالياً لان قصيدته حملت مفردات خاصة و لغة خاصة كانت واضحة و مفهومة لجميع الحاضرين كأنها لغة أرسطو الواضحة ، المفهومة امام جميع الفلاسفة

استعار لقصيدته عنواناً لها هو : (خطاب الى يزيد) صنعت بنفوس المستمعين و القرّاء ، في ما بعد، ما لم تصنعه الكثير من قصائد شعرية قيلت عن الحسين الشهيد بمختلف المدن العراقية

على بساطة وعينا ، يومذاك،  وجدنا أنفسنا ، نحن الشباب، امام نقاش واسع عن قصيدة بدر شاكر السياب وعن قصيدة اخرى القاها شاعر اخر من اصحاب  السياب نفسه ،  تعيّن  ، تواً ، مدرساً في  مدرسة متوسطة القرنة بشمال البصرة كان اسمه (رشيد ياسين ) وكان ينظر اليه من دوائر البوليس العراقي  ، نفس النظرة التي بها ينظرون الى بدر السياب،  أي بنظارات حمراء اللون .  

جرى نقاشنا عن الشعر السياسي وعن بعض جوانب المقارنة بين الشاعرين العراقيين و شعراء عالميين تتميز حياتهم بالطولة بالرغم من ان حياتهم كانت عادية لان الشعراء مخلوقات من صميم الواقع يجمعها هدف وحيد بالمدى البعيد . كنا نناقش باليوم التالي ، بقلق ، عن  دور الشعراء في التبشير بقصائدهم عن تحقيق الحرية و الديمقراطية و الحياة الانسانية الطيبة . انقسمنا حول الشاعرين و القصيدتين في زمان لم يكن وعينا متأصلاً ،  بما فيه الكفاية،  في حالة أحاديثنا عن  شاعرين  ادرك المجتمع العراقي وجودهما ، خاصة السياب،  صاحب الاولوية الشعرية في العراق لأنه بصراوي ،  اكثر استواءً معنا و اكثر قرباً و ارتباطا ً،قد  يفرض الواجب علينا وحدة السلوك المتشابه بالحياة و التأكيد على عدم نسيان شعراء العالم الأوربي و الأمريكي الخالدين بنضالهم و تضحياتهم  . 

خلاصة القول ان واقع و خيال الشاعر بدر السياب لم يكن ثورياً، في التعبير العالي عن مكامن البيئة الثورية – الشعبية  العراقية ،روحاً و خيالاً،   في ذلك  الزمان الثوري .

 لم يكن ثورياً شيوعياً في زمان انتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي ، كما سأتابعه بمقالة قادمة .