شناشيل-في مسألة مجلس الخدمة العامة! / عدنان حسين

عشر سنوات، هي ثلثا عمر النظام الحالي، عطّلوا فيها العمل بمجلس الخدمة العامة وقانونه، مع أنه من الأركان الرئيسة لإقامة دولة مستقرة مستندة الى مبادئ الكفاءة والمساواة والعدالة والانصاف وتكافؤ الفرص التي طالما نادوا بها، ونصّ عليها دستور 2005 الذي كتبوه بانفسهم وألزم الدولة بكفالتها لجميع العراقيين والعراقيات بصرف النظر عن القومية والدين والمذهب والاتجاه السياسي ولون البشرة والمنحدر الاجتماعي.
الفاسدون والمُفسدون الذين أمسكوا بقرون الدولة كل هذه المدة، هم الذين ركنوا هذا المجلس وقانونه جانباً، مثلما وضعوا الغالبية العظمى من أحكام الدستور والقوانين التي شرّعوها بأنفسهم وراء ظهورهم.
في ظنّي أنّ من أهم أسباب تعطيل العمل بهذا القانون أنّه يتضمّن بنداً ينصّ على ألّا يكون المتقدم الى وظائف رئيس المجلس ونائبه وأعضاء المجلس، وهي جميعاً بدرجة وزير أو درجة خاصة، محكوماً عليه بجناية أو جنحة مخلّة بالشرف. هذا الشرط ليس بدعة ليُوقف العمل بالقانون بسببه. الدولة العراقية الحديثة منذ انشائها مطلع القرن الماضي تحرّم اسناد الوظيفة العامة، حتى لو كانت بأدنى الدرجات، الى المحكوم بجناية أو جنحة مخلّة بالشرف كالسرقة والرشوة والاختلاس والاحتيال والتزوير وخيانة الامانة. شخصياً كنتُ قد تعيّنت في وظيفة حكومية في العهد السابق (السبعينات) عن طريق المجلس الذي أعلن عن الوظيفة فتقدّمنا نحو خمسة عشر طالب وظيفة من الاختصاص عينه (الإعلام) وخضعنا لامتحان ملتزم بصرامة قواعد المهنية، وصارت الوظيفة من نصيبي (تركتها لاحقاً لاتفرغ للعمل الصحفي الحرّ)، مع أنني لم أكن محسوباً على النظام، بل كنتُ معروفاً بمعارضته، وكان بين المتنافسين أحد المحسوبين على النظام (بعثي). حتى نظام البعث لم يجرؤ الى حدّ معيّن على تجاوز وجود المجلس وقانونه وقواعد التوظيف عن طريقه.. نظامنا الحالي فقط هو الذي جعل الدولة "خان جغان" وحوّل المجتمع الى ما يُشبه "الطولة" (زريبة الحيوانات) لنبلغ في نهاية المطاف هذا المستوى من الانحدار التام الشامل!
على مدى السنوات العشر الماضية تعيّن في مناصب الدولة العليا والخاصة المئات من الاشخاص ممّن يتعارض تعيينهم مع أحكام هذه المادة من قانون الخدمة العامة ومع احكام الدستور والقوانين النافذة... مرتشون وسرّاق ومختلسون ومزورو مستمسكات رسمية ووثائق وشهادات دراسية جرى تعيينهم تجاوزاً على أحكام هذا القانون وسواه من القوانين .. عيّنهم المسؤولون الأكبر في الدولة، من رؤساء جمهورية ومجلس نواب وحكومة ونواب لهؤلاء الرؤساء ومن وزراء ووكلاء وزارات ورؤساء هيئات ومؤسسات ونواب ومحافظين وزعماء أحزاب، لتحقيق مصالح مادية ومعنوية، شخصية وحزبية واجتماعية، بما فيها قبض رشى، وبعضهم عُيّن "بالوكالة" تحايلاً على القوانين لمدة من المفترض الا تتجاوز الستة أشهر، لكنّها تحوّلت الى مدة مفتوحة لسنين مستمرة حتى اليوم. هذه الظاهرة برمّتها انطلقت وتفشّت خصوصاً في عهد رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي، لكنّها استمرت بعده برغم تعهدات خليفته العبادي، والآن عبد المهدي، بوقفها!
القضية الآن، كيف سيجري التعامل مع المتقدمين الى وظائف ديوان مجلس الخدمة ومجمل الوظائف التي سيُعلن المجلس عنها لاحقاً؟ إذا ما التزم المجلس شرط عدم ارتكاب جريمة مخلّة بالشرف؟.. ألا يكون هذا انتهاكاً لأحكام الدستور الذي كفل مبادئ المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص؟. كيف سيتعامل المجلس والحكومة إذا ما اشتكاهما أحد المتقدمين المرفوضين بحجّة ارتكاب جريمة مخلّة بالشرف فيما جهاز الدولة، بما فيه دوائر تابعة لمجلس الوزراء والامانة العامة له ورئاسة الجمهورية ومجلس النواب والهيئات "المستقلّة" والمؤسسات العامة ودواوين المحافظات، بأشخاص محكومين بجرائم مخلّة بالشرف؟.. هناك العديد من الوزراء والنواب والمحافظين وسواهم ممّن سبق أن صدرت في حقهم أحكام من هذا النوع ثم شُمِلوا بقانون العفو العام فعادوا الى وظائفهم السابقة. وإذا اعترض المرفوضون لدى محكمة القضاء الإداري أو لدى مجلس القضاء، ماذا سيكون موقف هذه الجهات؟ ..ّهذه قضية ليست بذات شأن قليل، ولا يصحّ أن تتعامل معها الحكومة الى الأبد بالتغافل، فثمة جريمة في حقّ الدستور والقوانين النافذة تُرتكب على هذا الصعيد، وهي ليست من النوع الذي يسقط بالتقادم.