مواقف الحكام وشيوخ الدين المسلمين من أتباع الديانات والمذاهب الأخرى بالعراق

لا أدافع عن كل الديانات والمذاهب، لا أدافع عن هذا الدين أو ذاك، ولا عن هذا المذهب أو ذاك، كما لا أطرح هنا صواب أو خطأ ما ورد لدى هذه الديانات والمذاهب من معتقدات وطقوس وتقاليد، فهي من مهمات نقد الديانات والمذاهب، وهذه الدراسة المكثفة لا تقع في هذا المجال، بل أدافع هنا بلا هوادة عن حق الإنسان، أينما كان وفي أي زمان، وحريته التامة في الاعتقاد وفي تبني هذا الدين أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك، أو هذه الفلسفة أو تلك، أو أن يكون الإنسان بلا دين أو مذهب. إنه حق ثابت من حقوق الإنسان الذي لا يجوز المساس به بأي حال. لقد ناضلت البشرية عشرات القرون لتكريس هذا الحق والتمتع بهذه الحرية، فلا يجوز التفريط بهما أو السماح بالتجاوز عليهما! 

كاظم حبيب

يعتبر العراق واحداً من البلدان الكثيرة بمنطقة الشرق الأوسط ذات القوميات والأديان العديدة والمذاهب المتعددة. وهذه الظاهرة الإنسانية ليست جديدة بالعراق ودول منطقة الشرق الأوسط، بل هي قديمة قدم "بلاد ما بين النهرين" أو "ميزوبوتاميا"، وقدم منطقة وحضارات دول الشرق الأوسط. وهي ظاهرة صحية وعامل غنى ثقافي واجتماعي وإبداعي، إن أُحسن استخدامها والاستفادة الواعية والمسؤولة من جانب مكونات شعوب هذه المنطقة القومية والدينية والمذهبية، أياً كان حجم أو عدد أتباع كل من هذه الجماعات. ومن يتمعن في هذه المكونات أو المجموعات السكانية، سيجد إن بعضها يعيش بالعراق منذ آلاف السنين، وبعضها الآخر منذ مئات السنين، وإنها جميعاً، دون استثناء، قد تركت بصماتها الثقافية، ومنها الدينية، والاجتماعية، والفنية على حضارة العراق قديماً وحديثاً، وعلى البنية الثقافية والإبداعية والاجتماعية، إضافة إلى الكثير من القيم والمعايير والتقاليد والعادات لسكان العراق، مع احتفاظ كل منها ببعض خصوصياته. واستمرار وجود هذه المكونات بالعراق يجسد في الواقع ثلاث مسائل جوهرية، رغم ما مرَّت به هذه المكونات القومية والدينية والمذهبية من صعوبات جمة، ونكبات ومآسي وحروب كثيرة، وعرفت نظماً سياسية استبدادية وسياسات قمعية، واضطهادات رهيبة، نشير هنا إلى أبرزها:

  1. تميز المجتمع العراقي باعترافه بتنوع مكوناته وقبول بعضه للبعض الآخر، بل حتى أحياناً غير قليلة استعداد بعضه الدفاع عن البعض الآخر اثناء الملمات، أو بروز حاجة لإعلان وممارسة التماسك المشترك.
  2. التمسك الشديد لأتباع القوميات والأديان والمذاهب بما ينتسبون إليه، ويؤمنون به، رغم كل المصاعب والمحن التي مرّوا بها، والتي اقترنت بمحاولات ظالمة، مشحونة بالحقد والكراهية، لتغيير انتماءاتهم وقناعاتهم وإيمانهم. وهي ظاهرة ما تزال حاضرة حتى الآن.
  3. كما إن سياسات وإجراءات الاضطهاد والإمعان في التمييز والتهميش من جانب النظم والحكومات والكهنة وشيوخ الدين كانت تحقق الكثير من العواقب السلبية والمؤذية وغير الحميدة، ولكنها كانت في غالب الأحيان، تحصد العكس من جانب أفراد المجتمع، إذ يزداد التشبث بدينهم أو قوميتهم وعلاقاتهم التضامنية، وبالوطن، وهو أمر مفهوم. حتى من كان يجبر على التنازل عن قوميته أو دينه أو مذهبه أو فكره، يكون الأمر شكلياً وتحت الإرهاب الفكري والعملي، أو من كان يجبر على الهجرة والعيش في الشتات العراقي..

ورغم ذلك فهذا الواقع لم يساعد المجتمع العراقي على الاحتفاظ بواحد من مكوناته الدينية التاريخية التي يعود عمره بالعراق إلى أكثر من 2700 سنة، والمقصود به "المكون اليهودي" الذي تعرض للتهجير القسري بشتى السبل، ولاسيما منذ نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين، وهو ما سنعالجه في فصل خاص.

واليوم يواجه العراق مخاطر جادة وشاخصة تشير إلى احتمال خسارة مكونات قومية ودينية أخرى، وهو الأمر الذي يضع المجتمع العراقي أمام مسؤولية مواجهة المشكلة الكبيرة والتصدي لها والبحث فيها دون كلل أو ملل، باتجاه العمل على إزالة جميع العوامل المسببة لها.

لقد مرَّت بالعراق الكثير من الأقوام والجماعات البشرية، بعضها استوطن البلاد، وبعضها الآخر حلَّ ضيفاً على سكانها ثم غادرها، ولكن، كلهم دون استثناء، تركوا بصماتهم على الإرث الحضاري، الثقافي والفني والاجتماعي، ومنه الديني والفلسفي، لشعوبهم على سكان هذه الأرض الطيبة، فتلاقحت فيما بينها وشكلت النسيج الثقافي والاجتماعي والفني العراقي الراهن، مع احتفاظ العديد من القوميات وأتباع الأديان والمذاهب بخصائص وسمات ثقافية واجتماعية وطقوس دينية ومناسبات يتميزون بها عن غيرهم، إضافة إلى الميزات والسمات والمناسبات المشتركة. ولولا هذا التنوع الثقافي والاجتماعي الإنساني لما حقق العراق حضارته القديمة، التي يعتز بها العالم كله ويبجلها، ولما ساهم في بناء هذا التراث الأصيل والجميل الذي تعتز به الغالبية العظمى من بنات وأبناء العراق الذين يعترفون ويحترمون الإنسان، كقيمة أساسية بحد ذاتها، وبتنوعه القومي والديني والمذهبي، وهو السبيل الوحيد لتأمين التقدم والتطور والازدهار لبلدنا.

ولكن هذا العراق ذاته شهد أيضاً، وعلى امتداد تاريخه الطويل، نزوعاً لدى الحكام المسلمين، سواء أكانوا من العرب أم من غير العرب، والغالبية العظمى من رجال الدين، سواء أكانوا من هذا المذهب أو ذاك، صوب رفض التنوع وعدم احترام الآخر، واعتباره من درجة أدنى، وتمييزه وتهميشه أو حتى إقصاءه، مما عرض البلاد إلى الكثير من المحن والمصائب والكوارث، وأدى بالكثير من البشر إلى الموت أو السجن والتعذيب أو الهجرة القسرية، التي كان في المقدور تجنبها، لولا ذلك الاصرار على رفض ومعاداة الآخر.

تؤكد الكثير من الكتب الصادرة في فترات مختلفة من تاريخ العراق "الإسلامي" معاناة أتباع الديانات والمذاهب الأخرى من غير المسلمين من سياسات وممارسات التمييز وعدم المساواة الفعلية والظالمة في التعامل اليومي الذي يُحوّل حياة الناس إلى جحيم لا يطاق. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن إيراد حادثتين تكشفان عن جوهر الموقف الناشئ من عقلية التمييز لدى غالبية، إن لم نقل جميع، الحكام المسلمين وشيوخ الدين المسلمين، إزاء أتباع الديانات والمذاهب الأخرى.

الحالة الأولى: أورد الدكتور عبد العزيز الدوري (1919-2010م) في كتابه "تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري" مقتطفاً منقولاً عن القفطي في كتابه "تاريخ الحكماء "ليدلل على شمول عناية الوزير علي بن عيسى (245-334هـ) بالقرى والأرياف وتأمين الرعاية الصحية لها، إذ كتب الأخير في عام 301 هجرية إلى الطبيب سنان بن ثابت (توفى 975م) ما يلي:

"فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء، فتقدم... بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره. "ولما وصل الأطباء إلى سورا ونهر الملك وجدوا أن أكثر السكان يهود. فاستفسر سنان من الوزير عن رأيه في معاملتهم وأوضح "أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملّي والذمّي. "فكتب علي بن عيسى: "ليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب، ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به، معالجة الناس قبل البهائم، والمسلمين قبل أهل الذمة، فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم. فاعمل... على ذلك"[1]. ورغم ما يملكه الدكتور عبد العزيز الدوري من حس مرهف للكلمة، فأنه لم ينتبه، في أحسن الأحوال، أو على الأقل، لم يشر بأي شكل إلى الموقف الفكري الخاطئ والتمييز المجحف والصارخ الذي تجلى في خطاب علي بن عيسى، والذي كان يمارس من قبل الحكام وولاة وأمراء الدولة العباسية حينذاك، وكأن التمييز بين الناس، بين المسلمين وغير المسلمين، مسألة طبيعية واعتيادية حتى في مجال العلاج الطبي. ويؤكد هذا النص الموقف الديني المتزمت للوزير على بن عيسى إزاء أهل الذمة، إذ أنه وضعهم في طبقة تقع بين المسلمين والبهائم، بدلا من أن يكتب إليه مشيرا بأن المعالجة تتم لمن هو أكثر حاجة إليها من البشر القاطنين في السواد. فمن يقرأ النص يلاحظ بوضوح ما يلي:

  • إن علي بن عيسى قد وضع أهل الذمة مع البهائم بقوله: "ليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب"، في حين لم يسأل الطبيب سنان عن البهائم وأشار في رسالته إلى أن البيمارستان يعالج الملي والذمي على حد سواء.
  • وميّز علي بن عيسى بين المسلمين وأهل الذمة، وكانوا يهودا، بتفضيل معالجة المسلمين أولاً، ثم معالجة الذميين ثانيا، وأخيراً معالجة البهائم، في حين كان تصرف البيمارستان سليما، حين كان يعالج الجميع دون تمييز وفقاً لحالة المرضى ومدى حاجتهم للإسعاف والمعالجة العاجلة، وهو فارق مهم وكبير بين تفكير السياسي المتحيز والمتعصب والخاطئ وغير العقلاني، وبين تفكير الطبيب العالم الذي لا يميز بين المرضى. وكان من الأفضل للطبيب ألا يوجه سؤالاً بهذا الصدد إلى علي بن عيسى، بل أن يتصرف كطبيب يدرك واجبه ويقدم الدواء لمن هم أحوج إليه من غيرهم.
  • واعتبر علي بن عيسى في رسالته أن المسلمين هم من الطبقة الأولى والأعلى، ثم تليهم طبقة الذميين، فالطبقة التي تليهم هي طبقة البهائم!

وكان هذا التمييز موجوداً وملموساً لدى الغالبية العظمى من المسؤولين والكثير من علماء الدين والقضاة والقادة العسكريين في تلك العهود، ويتضمن في الوقت نفسه محاولة للضغط على أهل الذمة لتغيير دينهم والتحول إلى الدين الإسلامي.  

لم يكن العهد العباسي كله بهذه الصورة الموحشة بالنسبة للمسيحيين، إذ كانت الفترة التي عاشها المسيحيون في خلافتي الأمين والمأمون مثلاً، حتى قبل ذاك، باعتبارها الفترة الذهبية للمسيحيين، كما أطلق عليها الدكتور موفق فتوحي[2].

الحالة الثانية: أمر الخليفة العباسي أبو الفضل جعفر المتوكل على الله (822 - 861م) بتنفيذ إجراءات تميز بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، وكانت تستهدف جميع من كان يطلق عليهم بالذُميّين مباشرة. وبذلك يكون قد أعاد هذا الخليفة تطبيق الشروط العمرية (شروط الخليفة عمر بن الخطاب)، إزاء الذميين وأضاف إليها ما يزيد من محنتهم والإساءة لهم:

"** تغيير أزياء الذميين بلبس الغيار وشد الزنار، ** حظر دق النواقيس أو الجهر بالتراتيل، ** عدم تجاوز مباني المسلمين في العلو، ** التستر في الجنائز وعدم الجهر بالندب والنياحة، ** حظر ركوب الخيل. ويباح للذميين ركوب الحمير والبغال، ** يلزم أن يكون الركاب من خشب، وأن يتخذ البرذع بدلا من السرج. وقد اضاف المتوكل، على أهل الذمة، شرطا جديداً على الشروط العمرية هو: ** حظر التسمي بأسماء المسلمين أو التكني بكناهم او التلقّب بألقابهم.

كما أدت إجراءات المتوكّل الى تهديم خمس كنائس بالبصرة، وسويت بعض المقابر المسيحية بالأرض لكي لا تعلو قبور النصارى على قبور المسلمين".! وأوغل المتوكل في مظالمه حين فرض ضريبة العشر على منازل اهل الذمة وبنى بعض المساجد على أنقاض الكنائس." [3]  

إلى القارئات والقراء الكرام نص العهدة العمرية التي كتبها عمر بن الخطاب بشأن الموقف من أهل أيليا:

بسم الله الـرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدالله أمير المؤمنين عمر، أهل إيليا من الأمـان، أعطـاهم أمـانـا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حدّها ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكـرهـون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحـد من اليهود، وعلى أهـل إيليا أن يعطـوا الجـزيـة كـما يعطي أهل المدائن على أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغـوا مأمنهم، ومن أقـام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعتهم وصليبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وصليبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان فيها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أرضه، فإنه لا يؤخذ منه شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهـد على ذلـك خالـد بن الـوليد، وعمرو بن العـاص، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. كتب وحضر سنة خمس عشرة». [4] ومنه يتبين أن عمر بن الخطاب قد التزم بالقاعدة الثلاثية إما "الإسلام أو الجزية أو الحرب". وبسبب هيمنة المسلمين على المنطقة، فكان عليهم أن يدفعوا الجزية مرغمين طبعاً، وأن يلتزموا بعض المسائل الأخرى التي كانت وردت في عهود محمد مع اليهود والنصارى. وهي عهدة لا تخرج عن الخط العام الذي مارسه المسلمون أينما حلوا وهيمنوا. ولكن انتشرت في فترة لاحقة ما أطلق عليه الشروط العمرية. فماذا تتضمن الشروط العمرية ومن طرحها أول مرة؟ وما الموقف منها؟

تشير المصادر الإسلامية بهذا الصدد إلى ما يلي: إن أول من أورد الشروط العمرية في كتاباته هو الإمام الجوزي في كتابه «أحكام أهل الذمة»، وابن كثير في تفسيره، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى.[5]

التي وردت لدى ابن القيم الجوزي، هذه الشروط العمرية المنسوبة إلى عمر بن الخطاب، ثم أوردها أبن كثير وغيره من الكتاب المسلمين، على النحو التالي:

"اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تِلْكَ الشُّرُوط الْمَعْرُوفَة فِي إِذْلَالهمْ وَتَصْغِيرهمْ وَتَحْقِيرهمْ وَذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْحُفَّاظ مِنْ رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن غَنْم الْأَشْعَرِيّ قَالَ: كَتَبْت لِعُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين صَالَحَ نَصَارَى مِنْ أَهْل الشَّام.

بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم

هَذَا كِتَاب لِعَبْدِ اللَّه عُمَر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَة كَذَا وَكَذَا إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَان لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيّنَا وَأَمْوَالنَا وَأَهْل مِلَّتنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسنَا أَنْ لَا نُحْدِث فِي مَدِينَتنَا وَلَا فِيمَا حَوْلهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَة وَلَا قلاية وَلَا صَوْمَعَة رَاهِب وَلَا نُجَدِّد مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا نُحْيِي مِنْهَا مَا كَانَ خُطَطًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا نَمْنَع كَنَائِسنَا أَنْ يَنْزِلهَا أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْل وَلَا نَهَار وَأَنْ نُوَسِّع أَبْوَابهَا لِلْمَارَّةِ وَابْن السَّبِيل وَأَنْ نُنْزِل مِنْ رَأَيْنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَة أَيَّام نُطْعِمهُمْ وَلَا نَأْوِي فِي كَنَائِسنَا وَلَا مَنَازِلنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُم غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّم أَوْلَادنَا القرآن الكريم وَلَا نُظْهِر شِرْكًا وَلَا نَدْعُو إِلَيْهِ أَحَدًا وَلَا نَمْنَع أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتنَا الدُّخُول فِي الْإِسْلَام إِنْ أَرَادُوهُ وَأَنْ نُوَقِّر الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نَقُوم لَهُمْ مِنْ مَجَالِسنَا إِنْ أَرَادُوا الْجُلُوس وَلَا نَتَشَبَّه بِهِمْ فِي شَيْء مِنْ مُلَابِسهمْ فِي قَلَنْسُوَة وَلَا عِمَامَة وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْق شَعْر وَلَا نَتَكَلَّم بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَكَتْنِي بِكُنَاهُمْ وَلَا نَرْكَب السُّرُوج وَلَا نَتَقَلَّد السُّيُوف وَلَا نَتَّخِذ شَيْئًا مِنْ السِّلَاح وَلَا نَحْمِلهُ مَعَنَا وَلَا نَنْقُش خَوَاتِيمنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نَبِيع الْخُمُور وَأَنْ نَجُزّ مَقَادِيم رُءُوسنَا وَأَنْ نَلْزَم زَيِّنَا حَيْثُمَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدّ الزَّنَانِير عَلَى أَوْسَاطنَا وَأَنْ لَا نُظْهِر الصَّلِيب عَلَى كَنَائِسنَا وَأَنْ لَا نُظْهِر صُلُبنَا وَلَا كُتُبنَا فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقهمْ وَلَا نَضْرِب نَوَاقِيسنَا فِي كَنَائِسنَا إِلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا وَأَنْ لَا نَرْفَع أَصْوَاتنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسنَا فِي شَيْء فِي حَضْرَة الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَخْرُج شَعَّانِينَ وَلَا بُعُوثًا وَلَا نَرْفَع أَصْوَاتنَا مَعَ مَوْتَانَا وَلَا نُظْهِر النِّيرَان مَعَهُمْ فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقهمْ وَلَا نُجَاوِرهُمْ بِمَوْتَانَا وَلَا نَتَّخِذ مِنْ الرَّقِيق مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَام الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نُرْشِد الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطْلُع عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلهمْ .

قَالَ فَلَمَّا أَتَيْت عُمَر بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ وَلَا نَضْرِب أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسنَا وَأَهْل مِلَّتنَا وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَان فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا فِي شَيْء مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ وَوَظَّفْنَا عَلَى أَنْفُسنَا فَلَا ذِمَّة لَنَا وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلّ مِنْ أَهْل الْمُعَانَدَة وَالشِّقَاق."[6]

لقد كانت هذه الشروط شديدة الوطأة على المسيحيين، ودفعت بالعديد منهم إلى اعتناق الإسلام. إذ تتجلى فيها محاولات فرض عملية إذلال لجزء من البشر، ممن كان يؤمن بديانات أخرى غير الإسلام، وهم من أهل كتاب، وبالتالي فهم على وفق رؤية الإسلام، أنهم من خلق الله، فهل يجوز إذلال خلق الله وبهذه الصورة المزرية. إن الكثير من الدلائل تشير إلى ضعف شديد لهذه الشروط التي كان هدفها الإساءة والحط من كرامة الإنسان اليهودي والمسيحي، والتي استخدمت فيما بعد في الدولة العباسية على نطاق واسع وصدرت فيها قرارات عن بعض خلفاء العباسيين أيضاً.

لقد تعرض العراق إلى حملات المغول الهمجية بقيادة هولاكو في العام 1258م، وإلى حملات تيمور لنگ العسكرية في العام 1401م، وكذلك إلى حملات عسكرية أخرى من جانب الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الفارسية في صراعهما ونزاعهما لاحتلال العراق في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي اتخذت طابعاً طائفياً في الشكل واستعمارياً في المحتوى لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية في الجوهر، ثم معارك الحرب العالمية الأولى على أرض العراق ايضاً بين القوات البريطانية وقوات الإمبراطورية العثمانية (الرجل المريض) وتخلص العراق من الهيمنة العثمانية البالبة، وسقوطه تحت الاحتلال والاستعمار البريطاني المباشر بين 1917-1932، وأخيراً وقوع العراق تحت الاحتلال الأمريكي-البريطاني للعراق في أعقاب حرب الخليج الثالثة ضد النظام الدكتاتوري البعثي في العام 2003، وما أقيم على أنقاض نظام البعث الشوفيني والفاشي من نظام سياسي طائفي محاصصي مستبد ومدمر. وفي جميع هذه الفترات، ولاسيما من جانب قوى الاحتلال، مورست سياسة "فرق تسد" لدق أسفين الخلاف ورفض الآخر من جانب حكام القومية الأكبر والدين الأوسع انتشاراً، أي من جانب الحكام العرب والمسلمين، لتأمين إطالة عمر الهيمنة والاستغلال، وقد دام بعضها قروناً عدة، كما في الاستعمار العثماني للعراق باسم الإسلام، وبعضها الآخر عدة عقود، كما في الاستعمار الإيراني للعراق في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو الاستعمار البريطاني، أو عدة سنوات كما في احتلال داعش لبعض مناطق العراق! ولعب التدخل الخارجي، حتى بدون احتلال مباشر، دوره السلبي الموجع في شق وحدة الصف الوطني وتمزيق النسيج الاجتماعي الوطني العراقي، وفي إشاعة التمييز بين القوميات وأتباع الأديان والمذاهب، ولاسيما من قبل دول الجوار العراقي، والتشكيك بقومياتهم أو دياناتهم أو مذاهبهم أو نشر الأساطير والخرافات والإشاعات المسيئة بشأن بعضهم. 

لقد برهنت تجارب شعوب العالم على أهمية وضرورة الاقتناع بأن الاعتراف والاحترام المتبادل بالتنوع القومي والديني والمذهبي في بلد متنوع القوميات والأديان والمذاهب يعتبر الطريق الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام أولاً، وهي الأجواء الضرورية التي تسمح في تحقيق النمو والتطور والتقدم والازدهار لشعب العراق بكل قومياته واـباع دياناته ومذاهبه ثانياً.

هناك تجارب غنية في العالم يمكن ان يستفيد منها العراق، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أدرك أول رئيس للولايات المتحدة جورج واشنطن (1732-1799م) أهمية احتضان كل المواطنين دون استثناء والاستفادة منهم جميعاً في بناء الولايات المتحدة الأمريكية. فحين "أراد بناء بيته، كتب رسالةً طالباً فيها بنّائين ونجارين حاذقين، جاء فيها: «إذا كانوا عمالاً جيدين، قد يكونوا مِن آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، أو يكونوا محمديين (مسلمين) أو يهوداً، أو مسيحيين مِن أي طائفة، أو ملحدين". (رشيد الخيون، متى يغدو التنوع الإنساني قوة؟، جريدة المدى، 14/03/2018). وكان موقف السلطان سليمان القانوني مماثلاً لموقف جورج واشنطن والرئيس جيفرسون، حين أكد، كما يشير إلى ذلك الدكتور رشيد الخيون، رافضاً مقترحاً طرحه عليه شيوخ بأن "على سليمان القانوني (ت 1566) بفرض الإسلام على إمبراطوريته كافة، فكان جوابه: «كما أن هذا التنوع الظاهر في الأعشاب والأزهار لا يُضير في شيء، بل يُجدد النظر والشم على نحو رائع، كذلك تنوع الأديان في إمبراطوريتي لا يُشكِّل عبئاً عليَّ، بل عون لي. بالأحرى شرطَ أن يعيش رعاياي بسلام ويطيعون أوامري، فالأفضل لي أن أدعهم يعيشون على طريقتهم، ويتَّبعون الديانة التي يريدون (..) بدلاً من أن أثير الفتن، وأرى دولتي مُقفِرة شأن حديقة اقتلعنا منها جميع الأزهار، ولم نُبقِ فيها إلا على لون واحد". (المصدر السابق نفسه). إلا إن مثل هؤلاء الحكام، في تاريخ العراق عموماً والفترة العثمانية خصوصاً، هم قلة نادرة. فظاهرة التعدد والتنوع القومي والديني والمذهبي الزاهر لم تكن باستمرار محط ارتياح الحكام، من ملوك وخلفاء وولاة وشيوخ دين، وأخيراً رؤساء جمهورية ومؤسسات دينية. وتجلى ذلك ولا يزال في التشريعات والأنظمة أو الدعاية والإعلام والتصريحات والممارسة اليومية، التي كان الحكام والمسؤولون وما زالوا يقررونها ويفرضون تنفيذها بصيغ شتى إزاء أتباع القوميات والأديان والمذاهب الأخرى. وكثيراً ما كان الحكام والمسؤولون ولا زالوا يُنشّطون مجموعات من البشر من القومية العربية أو من الأكثرية المسلمة، لتمارس المواقف المناهضة لأتباع القوميات والأديان والمذاهب الأخرى. وإذا كان تاريخ العراق حافلاً بلوحات إنسانية جميلة من التعايش السلمي والتضامني والنضال المشترك بين أتباع القوميات والأديان والمذاهب على الصعيد الشعبي، فإن هذا التاريخ كان، وفي الواقع ما يزال، مليئاً بلوحات أخرى ظلامية وكارثية أيضاً، تعبر عن وجود إصرار على نشر الكراهية والأحقاد القومية والدينية والمذهبية على مستويين: الدولة والمجتمع، من خلال التشريعات والتعليم والتثقيف والإعلام، ويسعون إلى غلغلة ذلك إلى أوساط الشعب. وبالتالي لم يخل العراق على امتداد تاريخه الطويل من المشهدين، المشهد الإنساني الشعبي، والمشهد اللاإنساني، انطلاقاً من النظرية العنصرية والتمييز الديني والمذهبي القائمة كلها على رفض الاعتراف بالآخر والأحكام المسبقة، النمطية، على قاعدتي "أنا" والـ "آخر". والسؤال المهم هو: أين يكمن الأساس في نشوء مثل هذه الظاهرة على صعيد العراق؟ 

من يدرس الكتب الدينية والفكر الديني عموماً سيجد أمامه، إلى جانب الأفكار الإصلاحية لمعالجة المشكلات التي جابهت المجتمعات حين ظهرت فيها تلك الأديان، وآخرها الدين الإسلامي قبل 1410 سنة (608 – 2018)، ظهرت في الواقع أربع أفكار أساسية تشكل جوهر المشكلات السابقة والراهنة:

الأولى تقول: أنتم "شعب الله المختار"، كما يعبر عنها اليهود في التوراة، أو "كنتم خير أمة أخرجت للناس" كما في قرآن المسلمين، وكلاهما يعبر في موقف يميز بين ألـ "أنا" والـ "آخر". وهما يتبادلان الموقع في الرؤية النمطية من جانب ألـ "أنا" نحو الـ "آخر".

الثانية تقول: دينكم هو الأفضل بين الأديان الأخرى. وهذه المقارنة تثير بحد ذاتها حالة من التمييز والمفاضلة والمنافسة والاتهامات المتبادلة.

والثالثة تطالب أتباع هذا الدين أو ذاك بنشر دينهم على أوسع نطاق ممكن وكسب المزيد من التابعين، وهم بذلك يكسبون الثواب لدى الخالق.

والرابعة تؤكد بأن من يؤمن بهذا الدين له الجنة، ولغيره من أتباع الأديان الأخرى النار وبئس المصير، وبمعنى أخر، إن أتباع الأديان الأخرى، سواء أكانوا أهل كتاب أم لا، هم باختصار كفرة ومشركون يستحقون نار جهنم وبئس المصير.

هذه الرؤى الذاتية لدى أتباع الأديان الكتابية قد دفعت بجميع الأديان التبشيرية على التحريض الجلي والدعوة إلى نشر الفكر الديني لهذا الدين أو ذاك، وكسب أتباع الأديان الأخرى لهذا الدين أو ذاك، بأمل الحصول على ثواب في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة، والتي أثارت وتثير بدورها المشكلات والصراعات والنزاعات الدموية بين اتباع الأديان والمذاهب، في حين أن ديانات أخرى موجودة بالعراق أيضاً تعتبر مغلقة غير تبشيرية لا تريد كسب أخرين من ديانات أخرى لدينها، مع إنها تعتبر دينها هو الأفضل أيضا، ولكنها مكتفية بأتباعها أو من نطفتها. وممارسة الكسب لا يتم بين اتباع الأديان التبشيرية فحسب، بل وكذلك بين أتباع الدين الواحد حين تتعدد المذاهب فيه، وأغلب الأديان الكتابية التبشيرية ظهرت فيها مذاهب عديدة ومتصارعة ومتنازعة بالدم ومحاولة استئصال الآخر. وتاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام في القرون المنصرمة مليء بالصراعات المذهبية. ومع إن هذا الصراع الطائفي قد تقلص لدى أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية عموماً بسبب التطور الاقتصادي، لاسيما الصناعي، وحركة التنوير الديني والاجتماعي وفصل الدين عن الدولة والسياسة، فقد لاحظنا وجودها في ايرلندا الشمالية مثلاً، في حين إن الإسلام يواجه تفاقماً في الصراع بين حكام وشيوخ المذهبين السني والشيعي، ولاسيما بين المتطرفين السنة والشيعية (الحنبلية لدى السنة والاتجاه الصفوي وجماعة ولاية الفقيه لدى الشيعة).

وإذا أخذنا دين الأكثرية بالعراق، وهو الإسلام، حيث ولد عليه أكثر من 90% من السكان، سنواجه بإشكاليات ناتجة عن موقف مزدوج: الجانب الأول منه الاعتراف بالأديان الكتابية من جهة، واعتبار الدين الإسلامي هو آخر الأديان السماوية من جهة أخرى. وهذا يعني دون مواربة إنه ينسخ الأديان السماوية أو الكتابية السابقة، وعلى أتباعها التحول صوب الدين الإسلامي. أما الموقف من الأديان غير الكتابية فتعتبر كلها بالنسبة للإسلام ديانات موجودة، ولكن غير معترف بها باعتبارها ديانات مشركة وبالتالي فهي كافرة، وإن اتباعها جميعاً مشركون وكفرة!!!

ويمكن أن نجد كل ذلك في آيات قرآنية، رغم ما جاء في القرآن الكريم قوله "يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين" وهذه الصيغة فيها جانبين مهمين: إن هناك أتباع ديانات يعتبرهم القرآن الكريم كفرة، ولهم دين، وأن من حقهم ذلك، وأن المسلمين لهم دينهم. ولكن في مواقع أخرى يكون الموقف غير ذلك وبالضد منه تماماً.

في الأديان الأخرى توجد صياغات تقود إلى رفض الآخر. ولكن مع حصول التنوير الديني والاجتماعي تغير الموقف العملي إلى حدود غير قليلة، ومثل هذه الأديان أو اتباعها لا يسعون إلى تغيير دين الآخر بل يعترفون بوجوده أو يتركون له حرية الوجود وممارسة الطقوس، ولاسيما في أوروبا وعموم الدول الغربية المتقدمة، أو حين لا تكون ذات قدرة في التأثير في المجتمع. ومثل هذا التنوير لم يحصل لدى الغالبية العظمى من اتباع الدين الإسلامي. 

هناك آيات قرآنية ذات مضمون إيجابي لصالح التعايش والحوار السلمي بين اتباع الأديان الكتابية، منها مثلاً: 

  لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ   يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ   ومَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.[7]  

ثم جاء في الآية 46 من سورة العنكبوت ليؤكد أهمية الجدل وليس العنف في العلاقة مع أهل الكتاب إذ جاء ما يلي: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.[8]

أما الآيات 123 و124 و125 من سورة النساء فتساوي بين الجميع في الإيمان وفي طبيعته عمله الصالح أو الطالح حيث ورد ما يلي بشأن أهل الكتاب: 

   لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا    وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا   وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً.[9]

وفي سورة المائدة ورد نص يشير إلى العلاقة الطيبة التي يفترض أن تكون بين أهل الكتاب حيث ورد في الآية الخامسة ما يلي:

" الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ".[10]  

ورغم موقفي المخالف لقاعدة الذمية في الإسلام، أورد هنا هذا الموقف الذي ينسب إلى النبي محمد حول العلاقة الإيجابية مع الذميين:

"من آذى ذميا فأنا خصمه ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة". "من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة".[11]

ولكن نقرأ في القرآن الكريم آيات أخرى مضادة للموقف السابق، منها مثلا:

فقد ورد في سورة المائدة، وهي سورة مدنية، تجسد التشدد في الموقف حيث ورد ما يلي:

  " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ    لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ   أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ   مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ  قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ."[12] ثم يتشدد القرآن الكريم في ذات السورة وفي اٍلآية 77، ثم يكرر ذلك في الآية 171 من سورة النساء وبصيغة أكثر تشدداً حيث ورد فيها ما يلي:

" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا. *[13]

وفي الآيتين 100 و101 من سورة الأنعام يؤكد القرآن الكريم ما يلي:

   وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ

   بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".[14]

والأمر الأكثر تطرفاً يبرز في مواقف شيوخ الدين وفتاواهم المناهضة لأتباع الأديان الأخرى وأتباع المذاهب الأخرى في الإسلام. وهي التي تساهم بدورها في تشديد عدم التفاهم والتوتر والصراع والنزاع وتقود إلى القتل العمد باعتبار هؤلاء كفرة يجوز نحرهم!!! 

لقد حصل هذا في التاريخ الطويل للإسلام وعبر جميع الدول التي تبنت الإسلام، كما حصل بالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية، وكذلك بالدول الحديثة، ذات الأكثرية المسلمة، سواء أكان من بعض حكومات تلك الدول أو من قوى إسلامية سياسية متطرفة فيها.

 وتاريخ العراق الأموي والعباسي والعثماني مليء بأحداث التمييز والتهميش والإقصاء والقتل لأتباع الأديان الأخرى وأتباع المذاهب الأخرى في الإسلام أيضاً، مع وجود حالات إيجابية بين فترة وأخرى! إن المشكلة تكمن في الأساس الأيديولوجي لهذه المواقف وفي العقلية النمطية في التفكير والفعل. ولا يمكن الخلاص من ذلك ما لم يخض المسلمون عملية تنوير دينية واجتماعية، عملية تنوير حضارية ينزعون من رؤوسهم أيديولوجية ألـ "أنا والـ "آخر"، أنا الجيد والآخر السيء وديني الأجود وأديان الآخرين الأسوأ ...الخ، ما لم يتعلموا الاعتراف بالآخر وحقه في الإيمان بهذا الدين أو ذاك، وبهذا المذهب أو ذاك، أو لا يؤمنوا باي دين أو مذهب، إنه جزء من حقوق الإنسان على الصعيد العالمي، ولا يمكن أن يضع المسلمون والمسلمات أنفسهم فوق الجميع ويفرضون دينهم على الجميع، ومن يرفض فالموت حتفه!!! الرؤية الأيديولوجية تشكل السبب في التطرف على مدى تاريخ الإسلام والمسلمين والمسلمات، وكانت قبل ذاك أو ما تزال في الوقت الحاضر تشكل السبب في تطرف الأديان الأخرى حيثما برزت هذه الظاهرة، وهي السبب في ظهور القاعدة وداعش والمليشيات الطائفية المسلحة وما يماثلها بالدول ذات الأكثرية الإسلامية، أو أينما وجد مسلمون ومسلمات في العالم. 

وسنحاول فيما يأتي المرور على بعض الوقائع المهمة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة. وسيقتصر البحث هنا حول محنة المكونات الدينية بالعراق، وهم المسيحيون والإيزيديون والصابئة المندائيون والشبكيون والكاكائيون والزرادشتيون والبهائيون والبابيون.

حين تأسست الدولة العراقية الملكية في العام 1921 وجدت بالعراق، وحتى يومنا هذا، القوميات والأديان والمذاهب التالية:

أولاً: القوميات: العربية، القومية الكردية، والكرد الفيلية، وهم جزء من الأمة والقومية الكردية، القومية الآشورية، والكلدانية، والسريانية، والأرمنية، والتركمانية، والفارسية. وتشير المعطيات الخاصة بعدد نفوس أتباع القوميات التي شملها التقدير أو الإحصاء الرسمي عن الفترة بين 1919-1957 إلى أرقام الجدول التالي:

جدول رقم 1

التركيبة القومية للسكان بالعراق

التفاصيل

1919

1947

1957

القومية

عدد السكان بالآلاف

النسبة

%

عدد السكان بالآلاف

النسبة

%

عدد السكان بالآلاف

النسبة

%

العرب

2206

76,7

3746

80,1

4950

78,1

الكرد

500

17,4

793

16,9

1061

16,7

التركمان

61

2,1

82

1,7

142

2,2

الآخرون*

111

3,8

56

1,3

185

2,9

المجموع

2868

100,0

4677

100,0

6338

100,0

قارن: د. فاضل الأنصاري، مشكلة السكان، نموذج القطر العراقي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980، ص 22.

* الآخرون تشمل القوميات الأخرى، وهي الآشورية والكلدانية والسريانية والتركمانية والفارسية والأرمنية، كما تشمل اليهود والمندائيين والزرادشتية والبهائية والبابية، في حين احتسب الإيزيديون ضمن الكرد.

 

ثانياً: الأديان: الإسلام، اليهودية، المسيحية، المندائية، الإيزيدية، الكاكائية، البهائية، الزرادشتية، والبابية، إضافة إلى وجود محدود لملحدين.

ثالثاً: المذاهب

 أ- المذاهب في الإسلام: السنة: المذاهب الثلاثة التالية، الحنفية والشافعية والحنبلية، وكذلك الشيعة، وأغلبهم جعفرية، أو من يطلق عليهم بـ "الاثنا عشرية" أو الإمامية، إضافة إلى وجود الشبك والكاكائية (أهل الحق).

ب- الطوائف الدينية في المسيحية: توجد 14 طائفة وعلى النحو التالي: 1- طائفة الكلدان،  2- الطائفة الآثورية، 3 – الطائفة الآثورية الجاثيليقية، 4 -  طائفة السريان الأرثوذكس، 5 - طائفة السريان الكاثوليك، 6 - طائفة الأرمن الأرثوذكس، 7 -  طائفة الأرمن الكاثوليك، 8 - طائفة الروم الأرثوذكس، 9 - طائفة الروم الكاثوليك، 10 - طائفة اللاتين، 11 - الطائفة البروتستانتية والإنجيلية الوطنية، 12 - الطائفة الإنجيلية البروتستانتية الآثورية، 13 - طائفة الادفنتست السبتيين، 14 - الطائفة القبطية الارثوذكسية.

ج- اليهود: شكل اليهود بالعراق فرقة واحدة اعتمدت التلمود والتوراة في آن، والتي يمكن ان يطلق عليهم مجازاً بالسفارديم.[15] وفي القرن الثامن الميلادي برزت بينهم فرقة لم تتوسع وبقيت قليلة العدد حتى الآن، يطلق عليها أسم "فرقة القرائين اليهود"[16]، التي رفضت التلمود وأكدت على التوراة. ومؤسس هذه الفرقة الصغيرة هو عنان بن داود، واعتبرت خارجة عن الدين اليهودي. (د. جعفر هادي حسن، فرقة القرائين اليهود، مؤسسة فجر، بيروت-لندن، ط 1، 1989). 

د- الإيزيدية: بالنسبة لأتباع الدين الإيزيدي يعود وجودهم إلى آلاف السنين المنصرمة في هذه المنطقة من العالم، وأنهم من القومية الكردية، ولكن هناك مجموعة صغيرة تعتبر نفسها عربية، وأنها تعود في مرجعيتها ليزيد بن معاوية، كما توجد مجموعة تعتقد بانهم من قومية خاصة هي الإيزيدية، أي أنهم ليسوا كرداً ولا عربا.

الصابئة المندائيون: لا توجد طوائف بينهم وهم طائفة واحدة ويقدر عمر هذه الطائفية بآلاف السنين، وهم أراميون.

ه- بقية الأديان لا يوجد لها أتباع بأعداد كبيرة بالعراق سنأتي على ذكرهم لاحقاً. أما التركمان بالعراق فيتوزعون على مذهبين السني والشيعي.     

وتشير المعطيات المتوفرة عن عام 1920 إلى اللوحة السكانية الرقمية التالية:

جدول رقم 2

بنية العراق السكانية في العام 1920

المدينة

مسلمين سنة/ نسمة

مسلمين شيعة/ نسمة

يهود/ نسمة

مسيحيون/ نسمة

ديانات أخرى/ نسمة

المجموع/ نسمة 

بغداد

 130,000

54,000  

50,000  

 15,000

 1,000

250,000

الأنبار

 247,000

 200

 2,600

200

.......

250,000

الموصل

 244,713

 17,180

7,635  

50,670  

30,180  

350,378

صلاح الدين

66,455  

14,215  

 300

.......

.......

80,970

ديالى

54,953  

 46,097

 1,689

397  

900  

104,036

كركوك

85,000  

5,097  

1,400  

 600

.......

92,000

السليمانية

153,900  

.......

 1,000

 100

.......

155,000

اربيل

96,100  

.......

 4,800

 4,100

1,000  

106,000

الحلة

15,983  

155,897

1,065  

 27

 28

173,000

قضاء الشامية

 445

189,000

530  

 20

 5

190,000

الكوت

8,578

 98,712

381  

 127

.......

107,798

الديوانية

1,000

192,300

 6,000

 5,000

200  

207,500

البصرة

24,408

130,494

 6,928

 2,221

1,549  

156,600

العمارة

7,000

284,700

3,000  

 300

5,000  

300,000

الناصرية

11,150

306,220

 160

30  

 2,440

320,000

العدد الكلي

1,146,685

1,491,015

87,488

 78,792

 42,302

2,849,282

النسب %

40.2

52.4

3.1

2.8

1.5

100

المصدر: الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، البيانات واردة حسب وزارة الشؤون الاجتماعية العراقية إحصاء العراق 1947 م (بغداد 1954 م)، في هذا الإحصاء تم استثناء رجال القبائل الرحل المقدر عددهم عام 1947 م بـ 170 ألف نسمة ومعظمهم من المسلمين (حسب المصدر ذاته). كما إن الأديان الأخرى تشمل الصابئة المندائيون والإيزيديون والبهائيون والزرادشتيون والبابيون.

 ومنه يتبين إن هذا الجدول لا يتضمن أتباع الأديان الأخرى واقتصر على المسلمين واليهود والمسيحيين، ووضع أتباع الأديان الأخرى في خانة (ديانات أخرى)، والذين بلغت نسبتهم 1,5% من إجمالي السكان حينذاك. وهي أرقام يصعب الاعتماد عليها ولكن لا يوجد غيرها، علماً بوجود تقدير يشير إلى أن أتباع القوميات الأخرى بلغت نسبتهم 3,8% من مجموع السكان في العام 1919 وهم من ديانات أخرى وليسوا بمسلمين.

وفي الإحصائية الآتية تشير إلى التوزيع الإقليمي للبنية السكانية الدينية بالعراق لعامي 1957 و1965

المنطقة

السكان المسلمون

السكان المسيحيون

السكان الإيزيديون

الصابئة

اليهود

السكان الآخرون

المحافظات

عدد السكان

%

عدد سكان

%

العدد

%

عدد السكان     %

العدد       %

العدد

%

العراق 1957

العراق 1965

6.057.492

7.711.712

100.0

100,0

206.206

232.406

100

100

55.885

69.653

100

100

11.825

14.262

100

100

5.945

3.187

100

100

1.039

16.217

100

100

الشمالية 1975

الشمالية 1965

1.555.288

1.943.039

25,6

27,4

112.621

92.861

54,9

40,0

55.195

68.948

98,9

99,0

359

305

3,0

2,1

278

165

11,2

5,2

240

12.973

23,3

80,3

الوسطى 1957

الوسطى 1965

3.230.302

4.132.700

53,3

53,5

80.947

125.717

39,1

54,1

531

617

0,9

0,9

5.421

7.492

45,1

52,5

5.127

2.717

79,0

85,2

693

2.927

67,6

18,0

منها بغداد 1957

منها بغداد 1965

1.235.538

1.913.575

20,4

24,8

68.375

120.058

13,3

51,6

311

533

0,5

0,7

3.768

6.271

31,9

43,9

5.065

2.614

69,3

82,0

431

2.324

41,7

14,3

الجنوبية 1957

الجنوبية 1965

1.271.902

1.635.973

21,0

21,2

12.638

13.828

6,1

5,9

158

88

0,2

0,1

6.305

6.465

52,2

45,3

540

305

9,6

9,5

106

273

10,3

1,7

                                     

 قارن: د. فاضل الأنصاري، مصدر سابق، ص 31 و32. مأخوذ عن الإحصاء الحكومي.

 

وقبل البدء بالبحث فيما تعرض له أبناء وبنات أتباع الديانات والمذاهب الأخرى بالعراق لا بد من الإشارة إلى أن منظمات حقوق الإنسان العراقية بحاجة إلى ابحاث تفصيلية عن ضحايا الحروب والاستبداد والتمييز والتعذيب التي حصلت بالعراق خلال الفترة الواقعة بين 1963 -2018 وما تعرض له الشعب العراقي عموماً، ولاسيما أبناء وبنات المكونات الدينية والمذهبية التي نحن بصددها، والتي يمكن بلورتها في الكوارث البشعة التالية التي حملتهم المزيد من الخسائر البشرية والتدمير، وهي:

** الحروب الهمجية التي خاضها النظام البعثي الدكتاتوري نحو الداخل، وهما حربان ضد شعب كردستان وضد سكان الجنوب والكرد الفيلية والأهوار العراقية، وحروب أخرى نحو الخارج، سواء تلك التي فجرها النظام أم التي شُنت ضده، وهي الحرب ضد إيران (1980-1988)، وحرب احتلال الكويت 1990، وحرب تحريرها (1991)، ثم حرب الإطاحة بالدكتاتورية البعثية في العام 2003، وإعلان احتلال العراق حتى العام 2011، إذ في هذا العام تم خروج القوات الأمريكية، وبقية القوات المتحالفة في الحرب ضد العراق، من العراق. 

** النظام الاستبدادي القمعي الذي عرض حياة مئات ألوف العراقيين والعراقيات إلى الاعتقال والتعذيب والسجن والموت والتهجير القسري.

** كارثة الحصار الاقتصادي الدولي التي استمرت بين العام 1991 والعام 2013.

** ضحايا الاحتلال وعمليات القتل التي شملت عشرات آلاف العراقيين والعراقيات، وضحايا الاعتقال والتعذيب على أيدي قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية ولاسيما في معتقل أبي غريب السيء الصيت.

** ضحايا الإرهاب الذي مورس على أيدي الميليشيات الطائفية المسلحة الشيعية والسنية، والقتل على الهوية إزاء اتباع الديانات الأخرى، والقتل المتبادل بين تلك الميليشيات الشيعية والسنية في أوساط السكان من أتباع المذهبين.

** ضحايا سياسات النظام السياسي الطائفي واجتياح تنظيمات داعش الإرهابية للموصل وسهل نينوى والمحافظات الغربية وديالى وكركوك ووقوع عمليات الإبادة الجماعية بالموصل وعموم نينوى.

لقد تعرض العديد من المكونات القومية والدينية العراقية إلى عمليات إبادة جماعية وضد الإنسانية، على وفق التوصيف الدولي لهذا المصطلح. فما هو مفهوم ومكونات أو مفردات الإبادة الجماعية؟

 مفهوم الإبادة الجماعية

 أغلب المصادر التي تبحث في مفهوم ومضمون الإبادة الجماعية تشير إلى الباحث البولوني المولد والمعروف عالمياً رفائيل لَمكين Raphael Lemkin (1900-1959م)[17]، إذ نشر أول ابحاثه في العام 1933 وقبل ان يرتكب الألمان الفاشيت جريمتهم الكبرى في الحرب العالمية الثانية وفي المحرقة النازية في معسكرات الاعتقال الوحشية. وكان أول من وضع الأساس الفكري والفلسفي والسياسي لمفهوم الإبادة الجماعية على الصعيد البولوني والعالمي.

تطور فكر الإبادة الجماعية لديه ابتداءً من العام 1933 حين شخصها بالممارسات البربرية التي تشمل:[18]

ثم ربط ذلك في الفترة ذاتها بعمليات التخريبة المتعمدة حيث أشار إلى ما يلي:[19]

وفي العام 1944 وفي ضوء دراساته لهذه الظاهرة العدوانية في المجتمعات البشرية توصل إلى تحديد مفهوم الإبادة الجماعية على النحو التالي:[20]

ثم عمد إلى توضيح الفكرة بقوله:[21]

 

وفي العام 1947 طلبت منه الأمم المتحدة بتقديم مسود قرار حول الإبادة الجماعية Genoside

بالإنكليزية، وVoelkermord  بالألمانية، والإبادة الجماعية أو إبادة شعب بالعربية. إلا إن مفهوم لمكن للإبادة الجماعية قد تطور بفعل النقاشات بالأمم المتحدة والأحداث التي مرت بها البشرية وارتباطاً بالجرائم التي يمكنأن ترتكب في الحروب، وهي جرائم ضد الإنسانية، إضافة على أن الحروب ذاتها جرائم ضد الإنسانية. وقد تبنت الأمم المتحدة اتفاقية بشأن الإبادة الجماعية في التاسع من كانون الأول عام 1948، أي قبل يوم واحد من تبني الأمم المتحدة للائحة الدولية لحقوق الإنسان في العاشر من شهر كانون الأول 1948. فما هي ملامح هذه الاتفاقية المهمة في حياة البشرية والحضارة الإنسانية الحديثة؟  

"إن الأطراف المتعاقدة:

إذ ترى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بقرارها 96 (د – 1) المؤرخ في 11 كانون الأول / ديسمبر 1946، قد أعلنت أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن.

وإذ تعترف بأن الإبادة الجماعية قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية، وإيماناً منها بأن تحرير البشرية من مثل هذه الآفة البغيضة يتطلب التعاون الدولي.

تتفق على ما يلي:

المــادة الأولى

تصادق الأطراف المتعاقدة على الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها.

المــادة الثانية

في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:

( أ ) قتل أعضاء من الجماعة.

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

( ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.

( د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

المــادة الثالثة

يعاقب على الأفعال التالية:

( أ ) الإبادة الجماعية.

(ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.

( ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.

( د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.

(هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية.

المــادة الرابعة

يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفراداً.

المــادة الخامسة

يتعهد الأطراف المتعاقدون بأن يتخذوا، كلٌ طبقاً لدستوره، التدابير التشريعية اللازمة لضمان إنفاذ أحكام هذه الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص النص على عقوبات جنائية ناجعة تنزل بمرتكبي الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة." [22]

إن ما ورد من معايير إنسانية في المواد الخمس أعلاه يتفق تمام الاتفاق مع طبيعة الجرائم التي ارتكبت في القرن العشرين ضد الأرمن بالدولة العثمانية في الفترة 1914-1918 وضد المسيحيين الآشوريين والكلدان في تلك الفترة وقبلها، كما تنطبق على الجريمة التي ارتكبت ضد الأشوريين بالعراق في العام 1933 بسميل، وكذلك الجريمة التي ارتكبت ضد الشعب الكردي بكردستان العراق من قبل النظام الدكتاتوري البعثي والدكتاتور صدام حسين ورهطه من البعثيين، ولاسيما علي حسين المجيد، القائد المباشر للقوى العسكرية والمدنية التي ارتكبت الجريمة بكردستان العراق في العام 1988، إضافة الى الجرائم التي ارتكبت في العام 2014 -2017 بمحافظة نينوى، ولاسيما ضد الإيزيديين بسنجار وضد المسحيين بالموصل وسهل نينوى، وضد الشبك والتركمان. وهي لا تختلف من حيث الجوهر عما ارتكب بألمانيا النازية ضد اليهود في المحرقة النازية الشهيرة التي تعتبر وصمة عار في جبين المانيا النازية والحزب النازي الألماني وزعيمها الدكتاتور المجرم أدولف هتلر وبطانته. كما إنها تتطابق مع ما وقع بإقليم كردستان العراق في العام 1988 من قبل نظام البعث الدكتاتوري من عمليات إبادة جماعية وضد الإنسانية، إضافة لما حصل للكرد الفيلية وسكان الأهوار في جنوب العراق.

 

الدوري، عبد العزيز، دكتور، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية،

بيروت، 1995، ص 286/287.

[2] أنظر: موفق فتوحي، دكتور. مسيحيو العراق عبر التاريخ، الجزء الأول والثاني. نشر في موقع منتديات كرملش لك. بتاريخ 9/2/2009.

[3] راجع: نافع البرواري، أحوال المسيحيين في عهد الخلفاء المسلمين، موقع عنكاوة، 17/12/2016.

[4] أنظر: إبراهيم عباس، حقيقة العهدة العمرية.. والفرق بينها وبين {الشروط العمرية» كشف المغيب من خطوطها وموقف المؤرخين منها، موقع المدينة، 10/2/2012. 

[5]  أنظر: الدكتور رمضان اسحق الزيان، روايات العهدة العمرية ـ دراسة توثيقيةـ شبكة الدفاع عن السُنة.
أنظر أيضاً: المصدر السابق.

[6] نص العهدة العمرية من كتاب لأبن القيم الجوزية "أحكام أهل الذمة".

[7] القرآن الكريم/ سورة آل عمران. دار الجيل-بيروت، سورة مدنية، ص 64.   

[8]  المصدر السابق نفسه، سورة العنكبوت، مكية، الآية 46.

[9]  المصدر السابق نفس، سورة النساء. مدنية.

[10]  المصدر السابق نفسه، سورة المائدة. الآية الخامسة.

[11]  انظر: منتديات برق. موقع على الإنترنيت. أخذ الحديث بتاريخ 6/8/2016.

[12] المصدر السابق نفسه، سورة المائدة، اٍلآية 77.

[13] المصدر السابق نفسه، سورة النساء. الآية 171.

[14] المصدر السابق نفسه، سورة الأنعام، مكية. الآيات 100 و101.

[15] كلمة السفارديم تعني هؤلاء اليهود الذين هجروا من إسبانيا سنة 1492 الى دول البلقان والإمبراطورية العثمانية وهولندا بعد عصر التفتيش وكان عددهم يفوق عدد اليهود في الشرق الأوسط. وهؤلاء يختلفون عن اليهود في بلاد ما بين النهرين، ولكنهم أتبعوا تعاليم مرجعية بابل. وينتمي يهود العراق الى الكنيس الإسباني والبرتغالي المسمى السفاردي، لأن التعاليم هي على نفس المبادئ التي كانت في بابل أو العراق. وحتى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت الفتوات تصدر من العراق، ولكن في أواخر القرن التاسع عشر أصبح النظام الديني اليهودي تابعا للقوى الدينية اليهودية في الدولة العثمانية. وعلى العموم أصبح هناك مصطلحان، أشكناز ويطلق على يهود ألمانيا، والسفارديم ويطلق على يهود اسبانيا. وعلى العموم يطلق على كل من ليس بأشكنازي بسفارديم.  

[16] برز القراؤون بالعراق في القرن العاشر وحصلت منازعات عديدة قبل تغلب القوى الدينية التقليدية، فقل نفوذهم مع بقاء قسم قليل منهم ومن المتصوفين في القرن التاسع عشر ولكنها انقرضت منذ أكثر من قرن.

 

[17]  ملاحظة: الباحث البولوني رفائيل لمكين فقد جل أفراد عائلته في المحرقة النازية التي نفذها النازيون الألمان في أوروبا في فترة الحرب العالمية الثانية على نحو خاص. وقد بدأ أبحاثه بشأن الإبادة الجماعية قبل ذاك بسنوات، ولم يدر أنه سيفقد أفراد عائلته في مثل هذه المجازر البشرية التي ينفذها كل المتطرفين والمتشددين العنصريين والطائفيين وغيرهم ممن يقع ضمن تعريف الإبادة الجماعية. كاظم حبيب

[18] أنظر: مارتن شو، الإبادة الجماعة، نقله إلى العربية محيي الدين حميدي، الطبعة العربية الأولى، الرياض، 2017. ص 34.  

[19] المصدر السابق نفسه.

[20] المصدر السابق نفسه.

[21] المصدر السابق نفسه.

[22] أنظر: اتفاقية منع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في 09/12/1948، موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ICRC، اخذت المواد الخمسة من الاتفاقية بتاريخ 17/08/2017.