في ذكرى عيد الجيش / يوسف أبو الفوز                            

     في الحرب : جنود ... عر فاء ... ضباط ... والخ

(الى المتباكين على "الزمن الجميل " !)

 ( من مخطوط ينتظر النشر انجز عام 1992)

 

حارق ... خارق  !

ركب مخزن ذخيرة جديد ، كل رصاصاته حارق ... خارق ، وضع البندقية على حالة الرمي رشا ، استند إلى جدار الخندق ، غرس كعب البندقية في الأرض ، وضع الفوهة في فمه ، وضغط الزناد  !

لم يفهم الكثيرون لماذا ؟

 كان قد قال لأحد الجنود قبل يومين  :

ــ لم اعد أطيق ذلك ، لم اعد احتمل اكثر ، كل يوم ، ليل ونهار ، ما أن أغفو قليلا ، حتى يأتيني السيد الرئيس المهيب ، يكشف عجيزتي و  ...

خشخشة

دخل الدار متعبا ، منهكا ، يجرجر نفسه ، استقبلته زوجته تخشخش بأساورها الذهبية ، وعدها بان يجعل ذراعيها لا تتسعان لهن ، وكانت واثقة تماما من وعده  :

ـــ  " يا بنت الحلال ، الله فاتحها علينا ، الشغل ماشي ، أنت بس تدللي "!

أدخلته الحمام . ساعدته على نزع ثياب العمل . دلكت له ساقيه وذراعيه ثم جلفت له جلده بصابون معطر وصبت عليه نصف زجاجة من الكولونيا ، ثم نشفت له جسده مثل طفل ، وساعدته على ارتداء ثوب نظيف ، قبلها على وجنتيها عرفانا بالجميل ، وقال بإخلاص  :

ــ لولاك ، ولولا رعايتك لي لما استطعت مواصلة العمل ، أتدرين اليوم غسلت ودفنت  ...

لم تسمع الرقم الذي ذكره ، غلا شئ في المطبخ فهرولت إلى هناك وأساورها تصدر خشخشة تذكرها بوعوده الصادقة  !

هأ .. هأ ... هأ    !!

توفي والده بالسكتة القلبية . لم يبك !

ورد اسم أخيه في قوائم المفقودين . لم يبك !

 فقد ذراعه الأيمن شرق البصرة . لم يبك !

فسخت ابنة خالته خطوبتها معه . لم يبك !

جن صديق طفولته . لم يبك !

اعدم أستاذ التاريخ في كليتهم . لم يبك !

البارحة ، على شاشة التلفزيون ، في لقاء مع صحفي أجنبي ، روى السيد الرئيس ـــ حفظه الله ـــ  نكتة ، ضحك لها كل مرافقي الرئيس من حرسه الخاص والوزراء وأعضاء مجلس قيادة الثورة وقادة فرق الجيش وممثلي مجلس الشعب الوطني ومسؤولي منظمات الطلبة والشباب والنساء ورؤساء تحرير الصحف ورؤساء العشائر ، و... شبعوا ضحكا !

وجد نفسه يبكي ، يبكي ، يبكي ، يبكي بحرقة !

عناكب

 في زاوية الملجأ الرطب ولأكثر من ساعة ، جلس القرفصاء ، صامتا وثمة رغبة عارمة الى التدخين ،  لكن سجائرهم نفدت . أمامه يجلس صاحبه ، شارد اللب ، صامتا مثله ، محدقا الى سقف الملجأ ببلاهة . قبل أسبوع همس إليه :

ــ ثمة عنكبوت يدب هنا !!

ونقر على صدغه بأصابعه المسودة . البارحة عاد وقال له :

ــ انه ينسج له بيتا بنشاط !

ومنذ أسبوع وهو يستعيد معلوماته عن العناكب ، ويتخيل أشكالها ، وألوانها و ... لكن اليوم ، ومع بدء القصف المدفعي من الجانب الأخر ، أحس ثمة شيئا ، ناعما ، صغيرا ، يدب داخل تلافيف رأسه!        

 ***

منذ أيام وثمة عنكبوت يبني له عشا داخل رأسه . يحس به وهو يدب بنعومة ، ويتخيله كيف يعمل بنشاط . البارحة اكمل العنكبوت بناء عشه ، تماما مع بدء نوبة حراسته الليلية . كان الجو باردا ، الريح تصفر في المنطقة الحرام . مد رأسه في الملجأ ، كان أصحابه ينامون بوداعة الأطفال ، ملتمين على أنفسهم ، يلتصقون ببعض طلبا للدفء، فشعر بالشفقة تجتاحه ، ومشاعر من المحبة تطغي على كل كيانه ، وكان العنكبوت يتحرك بنشاط ، بنشاط مثير ولم ينتظر طويلا ، كانت مشاعر الشفقة تجعله يرتجف من الحب ، وبهدوء وحتى لا يزعج النائمين سكب كل ما بداخل زجاجات النفط على الأشياء القابلة للاشتعال ، ثم نثر بعضه على بطانيات النائمين ، واشعل النار.