أوراق أنصارية من الزمن الصعب / مذكرات الفقيد النصير سلام الحيدر 1 (د. أبو تانيـا)

فصيل الإعلام المركزي

الفصل الأول

النصير د . أبو تانيا في قاطع بهدينان وهو في طريقه الى بشت آشان

العبور الى كردستان

 مر أكثر من شهرين على المحاولة الثانية للعبور ونحن ننتظر في القامشلي، كان ذلك في صيف عام / 1982، أثـرت المحاولة الاولى الفاشلة على معنويـات بعض الرفاق فأعتـذروا التوجه الى كردستان وعادوا الى أيطاليـا والجزائـر حيث كانوا، لقد كانت محاولة العبـور الاولى بمثابـة درس للشجاعة والتحمل والعزم والمواصلة، أتذكر تلك الطلقات التي أحرقت العشب اليابس حولنا وأدت الى أندلاع النيران عندما وقعنا في كمين للجندرمة الأتراك بعد عبورنا في الزوارق المطاطية النهـر الصغيـر الفاصل بين سـوريا وتركيـا وأخـذت الاطلاقـات النارية تمر من فوق روؤسنا ولا نعرف ماذا نفعل، حينها قرر الدليـل التركي المرافق لنا عـدم المخاطرة والعودة بنـا الى القاعــدة.

عدنا الى مدينة القامشلي متعبين خائبين في ملابس ملطخة بالوحل حاملين معنا أحد الرفاق الجرحى حيث جرح بشكل غريب أذ أخترقت طلقة واحدة يده وفكه في آن واحد وهو منبطحا" على الارض وأرسل فيما بعد الى جكسلفاكيا للعلاج .

بعد شهرين على تلك المحاولة جرى الأستعداد لمحاولة ثانية بعد مراقبة ومتابعة ضوء القمر بأستمرار وفي تلك الفترة وصل الكثير من الرفاق الى القامشلي بناء على دعوة الحزب وتوسعت غرف الدار الذى كنا نسكن فيه، حيث كان الحزب يتوقع في عام 1982 حدوث تطورات وتغيرات مهمة بعد المعارك على الجبهة العراقية الأيرانية وخاصة بعد أحتلال أيران لأراضي عراقية شاسعة.

تم عبورنا هذه المرة بنجاح ولم تحدث أي أشكالات تذكر، كنا نسير في صف واحد لرفاق تجاوز عددهم الثلاثين في ملابس غير موحدة من الشروال الكردي الى البدلة الخضراء العسكرية التي أهدت (رومانيا) أعداد كبيرة منها والتي تُركت في أول نقطة آمنة لأن القرويين الأكراد كانوا يظنوننا جنود السلطة، كنا نسير بحدود عشرين ساعة في بعض الأوقات مضطرين لعبور نقطة مهمة خطرة، وأحيانا" خمس ساعات فقط ونخلد للراحة بعدها لفترة طويلة بأنتظار الليل.

كانت محطة الرفيق ( أبو حربي ) أول محطة إستراحة لنا قضينا فيها يومين أستعدادا" لمواصلة الرحلة، كانت الأيام متعبة جدا" وحينها فقط أدركنا أن توصيات الرفيق (أبو حسن) قامشلي كانت صادقة حيث كان يوصينا بتخفيف ما نحمله من أمتعة.

كان الرفيق ( أسو ) وكنا نلقبه ( براسو ) لكون ان رأسه كان كبيرا" لدرجة يلفت فيها النظر ومن المفارقات بأن هذا اللقب لازمه طيلة بقاءه نصيرا" في كردستان، كان الرفيق أسو أكثر الرفاق جدالا" مع الرفيق ( أبو حسن ) فكان مصرا" على أخذ وحمل ( البزق ) وهي آلة موسيقية كردية معه لكردستان وقد جلبها معه من يوغسلافيا، وبعد جدال طويل تنازل رغما" عنه وعندما كنا نمازحه أثناء سيرنا ونحن متعبين لحد الأعياء كان يقول ( يا بزق يا بطيخ هسه آني صاير بزق بس واحد يجي يدك عليّ ).

رافقنا من محطة ( أبو حربي ) الأولى أدلاء الى قاعدة بهدينان ومنهم الرفاق ( أبو عراق ) والشهيد رعد يوسف عبد المجيد ( أبو بسيم ) الذي نقل من بهدينان الى سوران وتزوج من طالبة الطب التى قطعت دراستها في جكسلفلكيا وأستشهد بعد ثلاثة شهور من الزواج في معارك ( بشت آشان ) .  

 وصلنا ( قاعدة بهدينان ) وحينها فقط أدركنا أننا بين الانصار حيث الحركة المستمرة والأندفاع الشجاع وألتقيت هناك بعدد من الرفاق الذين فارقتهم ومنهم أبن عمي الرفيق سلام الصكر ( أبو داود ) الذي وصل في اليوم الثاني بعد ان كان في مهمة أستطلاعية مع عدد من الرفاق، ذهبنا الى قاعدة ( يك ماله ) وتعني البيت الواحد وهي تبعد حوالى الساعة عن مقر بهدينان، كان الرفيق الذي يقود مفرزتنا الصغيرة يريد أن يثبت أمكانيته الأنصارية امام رفاقه الجدد فكان يقف بعد كل عدة خطوات ويهيأ بندقيته ويطلب منا الهدوء ويصغي بأنتباه وكأننا على بعد خطوات من الربايا، كان يتحدث بفخر عن العمليات التي قام بها أنصارنا ورفاق الطريق والسلاح .

وصلنا متعبين الى فصيل ( يك مالة ) وفي هذا المكان تعلمنا المفردات الأولية في العمل الأنصاري مثل الكمين، الدوشكا، الخفارة، الحطب، الحراسات الليلية وسر الليل .... الخ وشاركنا الرفاق في الأعمال اليومية والبناء والتناوب على الدوشكا والحراسات، وكان الليل كالعادة حديث وسمر حول السياسة والحرب والأنصار وكنا نستمع أليهم بدهشة فهؤلاء الرفاق سبقونا في العمل الأنصاري لسنتين أو ثلاثة وهي فترة طويلة وكانت بداية التجربة الصعبة وكان حديثهم هذا يثير فينا الشجاعة والبسالة.

بعد ثلاثة أيام جاءنا خبر بالتهيأ للمغادرة الى ( قاعدة سوران )، خرجنا صباحا" وكان يرافقنا الرفيق ( كاكه حمه ) وهو رفيق كردي شجاع ومرح للغاية جرح في أحدى المعارك في قاطع أربيل وعولج في لبنان وعاد ثانية الى الأنصار، كانت جيوبه مليئة بالحلوى ويعطي الرفاق منها أثناء السير لأعطاهم الطاقة، كان معنا أيضا" الرفيق (شيخ ) وهو من الطائفة الايزيدية والذي عمل في الأعلام المركزي والرفيق الشهيد أبو فكرت ( رحيم كوكو العيداني ) الذي أستشهد بعد فترة في معارك مع القوات التركية التي دخلت الأراضي العراقية وتقدموا نحو مقراتنا في قاطع بهدينان.

كنا نسير في أراضي عراقية وتركية ونرى القرى المهجرة ولا تزال فواكه التين والعنب وفواكه أخرى لم يمسها أحد، ونمر بجوار ربايا منيعة محكمة على مرتفعات تشرف على مناطق واسعة ولكنها فارغة وكانت معظم الربايا قد بناها عسكريون رومانيون في فترات مختلفة من عام 1975 أثناء قتال النظام الدكتاتوري مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، معظم الأراضي التي سرنا فيها كانت تركية ولذلك كنا نمشي ساعات طويلة دون توقف وصعدنا قمما" عالية أنهكت قوانا وكان الماء وشحته نقطة الضعف الأولى لدينا.

 أتذكر الرفيق ( أبو مصطفى / ابو اصطيف ) البشوش دائما" والذي لم يستطع مواصلة السير فطلب متوسلا" تركه وأخذ يردد ( رفاق أخذوا السلاح وخلو بس سكين يمي ) ورفض السير رغم توسل الرفاق أليه الى أن أقنعه الرفيق ( شيخ ) وأقسم له بأن الماء قريب من تلك السبندارة التي نراها وهي تبعد قليلا" من موقعنا فزادت كلماته من عزيمتنا وهمتنا ، أسـترحنـا قرب الماء من تعـب مسيـرة طويلـة وقاسيـة، ومن المفارقات أن الرفيق أبو مصطفى أصبح يقود بشجاعة المفارز ودليل لها بين قاطعي سوران وبهدينان .

وصلنا بعد أيام الى ( سرية روست ) وكان آمرها الرفيق الشهيد (  خضر كاكيل ) المعروف ببطل أقتحام الربايا، في ( سرية روست ) ألتقيت بالشهيدة أحلام ( عميدة عذبي حالوب ) التي تزوجت من الرفيق ( م. علي ) وجائوا معا" الى كردستان وكان لقاء" وديا" فالرفيقة وعائلتها كانت تسكن بجوارنا في بغداد وكانت طفولتنا مشتركة وأخيها عماد كان زميلي في الدراسة لسنوات عديدة وقالت لي تذكرت أخي عماد ومحلتنا وألعاب الطفولة، أتذكر ملامحها جيدا" وهي صغيرة مع أختي الصغرى وبنات الجيران وهـن يلعبن ( التوكي ) أمام بيتنا، ولسوء الحظ كانت عميدة هي الرفيقة الوحيدة التي أستشهدت ببطولة في معارك ( بشت آشان ) وقيل أن أحدهم قطع أصبعها طمعا" في حلقة الزواج .

كانت (سرية روست) أقرب نقطة الى مقرنا في ( سوران ) في هذه القاعدة ألتقيت برفاقي اللذين كانوا معي في اليمن الديمقراطية / مدينة شبوة وهم رفاق رائعون، ( أبو نشأت ، أبو عسكر ، سالم ) الذي كان يسمونه سالم البزن لسواد وجه وشعره الكث وكان معنا أيضا" معاون آمر السرية الشهيد ( أبو فيروز ) الذي أستشهد ببطولة في محاولة لأقتحام ربيئة فيما بعد.

من روست الى سوران رافقنا الشهيد (أبو فيروز) و(سالم ) وكانت مهمتهم عبور المنطقة الخطرة التي توجد بها ( ربيئة دار السلام ) حيث بعدها ندخل المنطقة الآمنة، وصلنا على بعد لا يتجاوز خمسين مترا" من الربيئة وكنا نسمع أصوات الجنود وحركة بعضهم على ضوء القمر وقد أطلقت أطلاقات تنويرية أنارت المنطقة كلها وتردد الرفيق ( أبو فيروز ) في البداية وأقترح العبور في يوم آخر ولكن بعد أنتظار قليل حسم الموقف وقرر الرفاق العبور وبخفة وحركة سريعة أجتزنا الربيئة وأتذكر أن أحد الرفاق تعثر بسلك ألغام الربيئة وسقط وأحدث ضجة وضوضاء أثار الرعب فينا. صعدنا بعدها جبل غير شاهق الأرتفاع لنطل على مناطق تواجد لأنصار في ( بولـي )  التي تبعد ساعتين وهي أول نقطة لتواجد رفاقنا في (سوران )، وصلنا ( بولي ) وتناولنا طعام الغذاء بسرعة لنتحرك بعدها الى مقر القاطع في ( بشت آشان ) وودعنا حينها آخر شارع مبلط حيث لم نشاهد بعدها مثله إلا بعد ست سنوات بعد إنسحابنا الى أيران .                                                  

            أعداد فائز الحيدر / ابو سوزان

             يتبع في الفصل الثاني