مذكرات الفقيد النصير سلام الحيدر (د. أبو تانيـا) 14

 فصيل الأعلام المركزي

الفصل الرابع عشر

إعداد فائز الحيدر

                     يوميات فصيل ســبيكا

 في مفرزة جاءت من قاطع بهدينان ألتقيت بالرفيق المسرحي هادي الخزاعي ( أبو أروى ) والذي كان يعاني من داء السكر، وقد أرسل الى أيران للعلاج ولكنه عاد بعد فترة بدون نتيجة، حيث لم يتمكن الرفاق في أيران وللظروف الصعبة التي كانت تمر بها المنظمة هناك من مساعدته، وعند عودته كان في مزاج لا يحسد عليه، فسألته كيف الصحة وما هي الأخبار يا أبا أروى؟ فرد عليّ .... رفيق أبو تانيا أشو الرَبع ودوني ( آكل جلو كباب في أيران، وهناك أكلت بس جلو ولكن كباب ماكو !!! ) والجلو كباب في الفارسي تعني أشياش الكباب أما الجلو بالكردي فهي أغصان الأشجار.

 ومرت السنوات لألتقي به ثانية وبالصدفة في موسكو مع عائلته متهيئا" للسفر الى أحدى الدول الأسكندنافية وكنا نشارك في مسيرة كبيرة نظمتها منظمتنا مع الجالية العراقية أمام السفارة العراقية في موسكو بمناسبة أستخدام النظام الفاشي للأسلحة الكيمياوية في حلبجة.

أما رفيقنا منذ أيام جمهورية اليمن الديمقراطية ( معن جواد ) أبو حاتم فأشبعه رفاق الفصيل ( الجوز والعسل )  وحتى بعد مغادرته لفصيلنا كنا نرسل له في كل فرصة الجوز والعسل في علبة مع الأمنيات الحلوة له بالصحة،

وعند سفري للعاصمة  السويدية مع أخي النصير أبو سـوزان عام /  2000 لزيارة الأهل علمت بوجوده هناك وأتصلت به تلفونيا"، لم يعرف صوتي بعد كل هذه السنين ولكن عندما أخبرته عن الجوز والعسل صرخ بأسمي وضحك ضحكته المتواصلة المعتادة.

تأقلم الرفاق على شتاء كردستان ببرده وثلوجه، فاليوم المشمس يزيد من نشاط ومرح الرفاق لأحساسهم بالدفئ فتراهم يتجولون على أسطح القاعات يتبادلون شتى الأحاديث من العدس والبرغل الى قرارات الحزب وتوصياته للمرحلة القادمة، أما في الأجواء الباردة فأن القاعات والمدفئة والأغطية تصبح ملاذهم.

 في أحد الأيام الدافئة حيث الشمس الساطعة وزرقة السماء فرح الرفاق بمولود أطل عليهم !!  لقد أنجبت أحدى المعزات الحوامل التي أشتريناها قبل فترة ! وقد ساعدها على الولادة القروي التركي حسـين، وكانت أكثر الرفاق فرحا" بالمولود هي النصيرة الرفيقة ( أم دنيـا ) فكانت تعطيها الحليب يوميا" وليس هذا فقط وأنما عملت لها بدلة وغطاء للرأس وكان ذلك يثير الضحك والمرح لدى الجميع وقد أطلق عليها الرفيق( آسـو ) لقب ( بوركينا فاسو ) تزامنا" مع إستقلال هذة الدولة الأفريقية في تلك الأيام وكان هذا الحدث يطغي على كل الأخبار في المحطات الأذاعية وأراد الرفاق أيضا" أن يحتفلوا بهذه المناسبة وعلى طريقتهم الخاصة.

كان الرفيق ( آسـو ) ذو شخصية مرحة ظريفة جدا" وسريع البديهية في التعليق أما حكاياته فكانت تثير الضحك لدى الرفاق بأستمرار وكان الرفيق ( محمد جاسم اللبان ) أبو حيدر قد أطلق عليه أسم راسو لكبر رأسه وكان الرفيق أبو حيدر كذلك من محبي النكتة والطرافة منذ أيام مدينة ( عتق ) الصحراوية في جمهورية اليمن الديمقراطية ، فمؤتمراته الشعرية المضحكة وتعليقاته الحلوة والدفتر الذي كان يجمع فيه أخطاء الرفاق أثناء الكلام ومداعباته للفقيد الرفيق نجاح السياب ( أبو سـناء )* يثير فينا نوع من المرح والسرور والبهجة لدى الرفاق .

حدثني الرفيق أبو حـيدر أنه عندما جاء من السليمانية الى أرموش للمشاركة في المؤتمر سأله آسو، رفيق ماذا تعمل هنا ؟ ! هل جئت بشغل معين ؟ فرد عليه أبو حيدر ... أي والله رفيق أجيت أبيع ركي للرفاق، كالو ماكو ركي في أرموش، ورد عليه بربك هذا سؤال ! (وربك هي الملازمة لمعظم أحاديت الرفيق أبو حـيدر )، الذي يأتي للمؤتمر ماذا يعمل ! ؟ .

وكانت أحاديث آسـو ولو أنها مكررة ولعدة مرات ولكنه كان يعكسها في كل مرة بشكل كوميدي ساخر وكأننا نسمعها لأول مرة. في أحد الأيام حدثنا عن أخته الصغيرة وذكر أنها كانت تبكي بأستمرار فتثير أعصاب والدي الذي يأتي متعبا" من العمل عصرا" وبدلا" من شراء مهد لها لتنام فيه كانت والدتي تربطها على الغسالة القديمة التي قد أشتريناها منذ فترة طويلة، وكانت الغسالة تتأرجح بشدة وبرتابة فكانت أختي تنام عليها، ويضيف آسو حديثه المضحك ويقول بأن الغسالة كانت تتحرك من جهة الى أخرى لعدم وجود ركائز في أسفلها تستند عليها فأثار ذلك المخاوف لدى والدي لربما تخرج الغسالة بحركتها هذه من البيت الى الشارع.

لم تفارق الرفيق آسو الضحكة والنكته حتى بعد سنوات عدة عندما ألتقيته في مدينة لينينغراد في روسيا وكان يدرس ويعمل في نفس الوقت في محل لتقطيع اللحوم وعمل الشاورمة وكانت الظروف الأقتصادية في ذلك الوقت صعبة بعد أنهيار الأتحاد السوفياتي وخاصة ظروف الطلبة وكان بيته لا يخلوا من اللحوم والعظام حيث يكرمه صاحب المحل بعض الأحيان منها، فقال لي مرة ان صديقته الروسية ظنت أن والدي مليونير لكثرة ما تشاهده من اللحوم عندي في الثلاجة فطلبت مني أهداء عقد من الذهب أليها بمناسبة عيد ميلادها .

 معظم الرفاق تذمروا  من الهـر الكبير الذي كان يعتني به الرفيق أبو عباس في المقر. وكان يسمى عتوي المطابخ وأسماه ابوعباس ( جعفوري ) ، وكان دائما" متواجد في المطبخ وبين أدوات  الطبخ والأواعي وابو العباس يطعمه الحليب من حصته التي خصصت له لمعاناته من قرحة المعدة ولم يستطع تناول بعض الأطعمة . كان أبو العباس يغضب من أي رفيق يمس جعفوري بسوء ولم نستطع عمل شئ أرضاءا" لأبو عباس ولكن الرفيق زهير خطرت له فكرة وكانت قاسية ولكنها ناجحة للتخلص من عتوي المطابخ فقد خطفه ليلا" ووضعه في أحد الأكياس الفارغة ( كـونيـة ) ولم يعرف أحدا" هل قتله أم رماه في النهر ولم نرى جعفوري بعدها، تأثر أبو عباس كثيرا" ورغم تحرياته لم يستطع معرفة الرفيق المسؤول عن أختفاءه وبعد فترة طويلة أخبرني زهير أنه حكم على جعفوري بالأعدام ونفذ الحكم .  

كنا نجلب الحطب الجاف للتدفئة وتهيئة الطعام من منطقة قريبة مليئة بالأشجار وكذلك الكمثرى الناضجة لنتسلى بها مساء"، لم يكتفي الرفاق أبو عباس و أبو حمدان بذلك بل تجاوزا أكثر لصنع النبيذ منه وبصورة سرية وبدون علم أحد من الرفاق. تم عمل النبيذ وحفظه في علب الدهن الفارغة وقرروا الأحتفال به بمناسبة أعياد رأس السنة الميلادية، لقد أعتاد الرفاق الأنصار الأحتفال بمناسبات عدة. عيد ميلاد الحزب ، يوم الشهيد الشيوعي الذي يختلط فيه الفرح والأصرار والعزم وذكرى الشهداء تلهب في نفوس الرفاق الحماس والمواصلة ، أما في أعياد راس السنة فهو أحتفال آخر للمرح والتفائل بسنة قادمة سعيدة، وكالعادة (  أنشاء الله السنة القادمة في بغداد )، وهي أمنية كل الرفاق الأنصار.

يتهيأ الرفاق وخاصة الأداري قبل عدة أيام من هذه المناسبة وتبدأ مقترحات الأكل والمبادرون بالأكلات الشعبية والحفل الخاص وفقراته وأمور أخرى. في يوم الأحتفال وصل الفصيل ضيوف من القاعدة ومن ضمنهم الرفيق ( علي مالية ) للأحتفال معنا وكذلك لتقديم التهاني ( لأبو دنيـا وأم دنيـا ) بمناسبة زواجهم. كان الرفاق أبوعباس وأبو حمدان في وضع لا يحسدون عليه وعرف معظم الرفاق بأمر النبيذ والجميع لزم الصمت وحتى الرفيق المستشار السياسي ( أبو آيار ) ولكن الرفيق علي مالية طلب التحقيق في الأمر وأتخاذ اللازم وكالعادة هناك العقوبة الحزبية في مثل هذه الحالات وكان أبو دنيا المؤيد الأول، وبعدها بأيام علمنا أن الرفيق أبو دنيا كان قد عمل النبيذ أيضا" وتذوقه عدد من الرفاق .

بعد أيام قليلة ذهبت الى فصيل سـبندارة للقاء أخي النصير أبو سـوزان وزوجته النصيرة أم سـوزان الذين وصلا ضمن مفرزة من قاطع بهدينان، عدت مساء" وعند مفترق الطريق ألتقيت الرفاق ( أبو عقب وأبو آيار ) وسألني الأخير أن كنت أعلم بموضوع النبيذ أو قد شربت معهم لأن الرفاق يدرسون ( الجريمة ) !! في الهيئة العليا لأقتراح العقوبة المناسبة، فأخبرته بصدق بأني كنت أعلم بذلك فقد أخبرني أبو عباس بالموضوع ولكني لم أذقه. كان شرب قدح صغير من النبيذ المخفف ومرة واحدة في السنة جريمة لا تغتفر !!!  وينال الرفيق عليها عقوبة.

 تذكرت حينها مقالات وشاهدت أفلام عن الجنود الروس في الحرب العالمية الثانية وهم على خطوط الجبهة وسط القتال الضار يتبرعون بقسم من حصصهم من السكر لعمل الشراب والأحتفال بميلاد أحدهم أو ذكرى عزيزة عليهم ، كما سمعت أحد الرفاق في قيادة الحزب في فصيل الأعلام وعند رؤيته عناقيد الأعناب المتدلية من ألاغصان معلقا" ( شبيهم الرفاق ما يعملون شراب من هذا العنب )، كان كل رفيق ينظر الى هذا الجانب من وجهة نظره الخاصة .

بعد أنتقالي الى فصيل الأعلام في بداية ربيع عام 1986 علمت بأن الرفيقين أبو عباس وأبو حمدان عوقبوا بعقوبات عسكرية وحزبية وقد قطع الحليب المخصص لأبو عباس بسبب وجود القرحة في المعدة وأخبروه بأن من يعاني من القرحة لا يشرب النبيذ .

عمل الرفيق أبو آيار بعد مجيئه للسرية كمستشار سياسي بتحسين الوضع التنظيمي فأنتظمت الأجتماعات الحزبية للهيئات ومكاتبها. وكانت معظم المواد التثقيفية لتلك الفترة هي نتائج المؤتمر وقراراته ، وقام الرفاق أبو آيار وأبو عقب باللقاء مع معظم الرفاق في السرية كل على أنفراد لتبيان أيجابياتهم وسلبياتهم والأستماع الى المقتراحات الأمر الذي لقى أستحسان من بعض الرفاق وتذمرمن رفاق آخرين. وبالرغم من تحسين الوضع التنظيمي والثقافي في السرية من خلال زيادة الندوات والأمسيات بقيت التوصيات الحزبية من الهيئات العليا على عمل الهيئات هي الطاغية حتى وأن لم تكن صائبة وهي مسلم بها .

 في أحدى الليالي وبينما كنت مع الرفيق أبو آيار في غرفة مكتب السرية أزيل بقايا الرماد ومخلفات المدفئة ليوم بارد مضى عثرت على بعض الوريقات الصغيرة التي لم تحترق كليا" فدفعني الفضول لحل لغزها ولم تكن صعبة فهي توصية من الرفيق ( ع ) الى الرفيق أبو آيار يحثه على لعب دور في لجنة القضاء لتقديم الرفاق أبو ( دنيا ) وزوجته ، وفعلا" تم تقديمهم بموافقة كل أعضاء هيئة القضاء، الا أني لم أتمكن من السكوت فأخذت أردد بصورة غير مباشرة على أسماع الرفيق أبو آيار هذا الموضوع وأستغرب بدوره وسألني من الذي أخبرني بذلك فحدثته عن الوريقات، وعلمت بعد فترة ان معظم رفاق هيئة القضاء كانوا نادمين على تقديم الرفيقة أم ( دنيا ) لأمور عديدة ولكنهم أضطروا لذلك .

سافر أخي أبو سـوزان وأم سوزان الى القاعدة الجديدة في بيربينان وكانت أقرب نقطة على الحدود الأيرانية في أنتظار مغادرة كردستان لتكليفهم بمهمة خاصة وأصبحت هذه القاعدة ملاذ لمعظم رفاق القاعدة أثناء الأنسحاب نهاية صيف 1988

 الهوامش...

* نجاح السياب / ابو سناء ... توفي في مدينة مالمو السويدية في شباط / 2003

ـ الصورة العليا تظهر الرفيق المرحوم معن جواد / أبو حاتم مع بعض رفاقه .

ـ الصورة السفلى تبين الفقيد النصير سلام خلال نوبة الحراسة .

 يتبع في الحلقة القادمة