مقدمة :

نهضت المرأة العراقية  مع انبثاق الحزب الشيوعي العراقي في عام 1934 ضد الظلم والاستبداد ، وسجل لها التاريخ صفحات خالدة في نضالها ضد الاستعمار والحكومات العراقية المتعاقبة ,وقد أدى نشاط رابطة الدفاع عن حقوق المرأة (رابطة المرأة العراقية) لاحقا وفروعها في جميع المدن دوراً مؤثراً في الدفاع عن حقوق المرأة وحماية الطفولة.

ومع مرور السنوات اصبحت الرابطة المرأة العراقية اكبر منظمة فعالة على جميع الاصعدة في العراق  وبلدان المنطقة، وقدمت منجزات كثيرة وفي مقدمتها قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959, كما اصبحت منظمة نسائية مرموقة في الحركة النسائية العالمية، حيث حضرت المناضلة الدكتورة نزيهة الدليمي مؤتمر الاتحاد النسائي العالمي (انرع) في 1953 ولأول مرة وبناءً على مساهمتها الفعالة اصبحت الرابطة عضوًا في سكرتاريته، والدكتورة نزيهة عضو مجلس، وفيما بعد عضو مكتبه ومن ثم نائب الرئيس.

وقد اكتسب نضال المرأة طابع العمل الجماعي تدريجياً واختلط النشاط العام في بداياته بالكفاح الوطني، وبرز العديد من المناضلات من الرعيل الاول ضد الظلم والاستبداد، منهن الدكتورة نزيهة الدلمي (اول وزيرة عراقية بعد ثورة 14 تموز 1958)  و روز خدوري وسافرة جميل حافظ وخانم زهدي  وسالمة الفخري وزكية شاكر وزكية خيري و مبجل بابان وثمينة ناجي يوسف وسلوى صفوت وزكية خوشناو وفتحية محمد مصطفى وساكنة سليمان و خوشكة فريشتة وهيبت مولود و سنية جباري وسامية شاكر وساجدة صبري وعميدة منير وفريدة يونس و حمدية صابر وبدرية داود وصبيحة عمر واخوات جمال الحيدري وشكرية حمد امين وكوكبة من الشيوعيات الباسلات الاوائل الاخريات.

اصبحت الرابطة منظمة نسائية مؤثرة تهز الرجعية ومفاهيمها وأحكامها، فليس من المستغرب ان تتعرض إلى مختلف الملاحقات وخاصة ايام حكم البعث الفاشي المعادي للشعب والديمقراطية!

المناضلة الشيوعية والسجينة السياسية السابقة هيبت مولود وسو:

نشات المناضلة الشيوعية (هيبت مولود وسو ـ ام حيدر) في كنف اسرة وطنية , وهي من مواليد قرية (كوزه بانكه ـ التابعة لناحية ديبكة عام 1937 , تزوجت من المناضل  الشيوعي والكادر الفلاحي المعروف الرفيق(احمد ابراهيم  احمد  المعروف بالرفيق ملا نفطة ) . 

رفضت الرفيقة (هيبت) منذ نعومة أظافرها الطقوس الإقطاعية والعشائرية السائدة في المجتمع الكوردي،و ناضلت من اجل حقوق الفقراء من العمال والفلاحين وكل الكادحين , ومن اجل المساواة بين المرأة والرجل في كافة الحقوق والواجبات , حيث ارتبطت مسيرتها الحياتية مع مسيرة رابطة المرأة العراقية و لذلك فهي تعتبر من رابطيات الرعيل الاول الذين افنوا حياتهم في سبيل قضية تحرر المرأة و نضال الحركة الوطنية العراقية والكوردستانية من اجل عراق ديمقراطي مزدهر تنعم فيهِ المرأة بالمساواة والحرية والطفولة بالحياة السعيدة.
كانت المناضلة الراحلة (ام حيدر)  رفيقة درب الشهيدة الشيوعية عائشة كروكة  والمناضلة  فتحية محمد مصطفى والاديبة سامية شاكر والمناضلة ساكنة سليمان والمناضلة الاربيلية ساجدة صبري وشكرية حمد امين وسنية جباري وخوشكة فريشتة و بسي ره ش ومامز عبدلله وكوكبة من الشيوعيات الباسلات الاوائل الاخريات، في ظروف العمل السري والعلني في تلك السنين القاسية والصعبة في حقبة الفاشية البعثية , وكانت مثالاً للتفاني والشجاعة الشيوعية.
لعبت الرفيقة (ام حيدر) مع كوكبة من الشيوعيات الباسلات في اربيل ، دورا رياديا في اقتحام ميادين وسوح النضال السياسي الوطني الديمقراطي والاجتماعي ، وضربن بنضالهن الجسور وعطاءهن وعملهن المتفاني بين الجماهير الكوردستانية ، ومع النساء وعلى وجه الخصوص، امثلة رائعة وملهمة انحفرت في ذاكرة الأجيال، وتستحضر عندما تشتد المصاعب وتتعقد ظروف النضال لاستلهام الشجاعة والاقدام وروح التحدي التي تشيعها في النفوس.

انتمت الرفيقة الراحلة (ام حيدر) إلى الحزب الشيوعي العراقي في اواسط الخمسينات ، ولكنها عرفته قبل ذلك بفضل زوجها ورفيق دربها المناضل الشيوعي والكادر الفلاحي (ملا نفطة) ، وعايشت الحزب يومياً في اسرتها المناضلة , وقد انخرطت مبكراً في العمل السياسي في ظل ظروف العمل السري، وخاضت بجرأة وحماس ونكران ذات معتركات النضال الوطني والطبقي التحرري في صفوف الحزب الشيوعي العراقي ، والعمل الديمقراطي النسوي في صفوف رابطة المرأة العراقية والكوردستانية , وكانت مسؤولة عن تنظيم النساء الشيوعيات في القرى المجاورة لاربيل وعملت بكل اخلاص على ترصين التنظيمات النسوية في القرى والارياف ,كما شاركت وبفعالية في النشاطات التي كان الحزب الشيوعي العراقي ينهض بها في السبعينات من القرن الماضي .

ان بصمات الرفيقة الراحلة (ام حيدر) ونضالها وكفاحها واثر نشاطها المثابر، على الرغم من قسوة الظروف، ظل شاخصاً لدى كل من عمل معها والتقى بها، واعتُبرت بحق نموذجاً في النضال والعمل الحزبي والجماهيري , وتعد نضالها الدؤوب مفخرة للحزب وللرابطة المرأة العراقية والكوردستانية التي عملت فيها بكل جد واخلاص .

ولم يقتصردورالرفيقة (ام حيدر) النضالي عند هذا الحد من العطاء الثوري بل كانت تقوم بتأمين الطريق للمناضلين والمناضلات من اجل القيام بمهامهم الثورية وبتوصيل المناشيروالادبياتالحزبية داخل وخارج اربيل في الثمانينات من القرن الماضي.

تعرضت الرفيقة (ام حيدر) خلال مسيرتها النضالية إلى الملاحقات والاعتقالات من قبل النظام البعثي الفاشي .

ومع تصاعد حملات الارهاب الدموية من قبل النظام الصدامي  في 1978 ـ 1979 على منظمات الحزب في كوردستان,اعتقلت الرفيقة (ام حيدر) أثر وشاية العميل ( ممو )(1 ) في تموزعام 1979 وتعرضت إلى ابشع انواع التعذيب النفسي والجسدي في سجن امن اربيل , الا انها صمدت و تحدت كل أساليب التعذيب و الأرهاب ولم تعترف بكلمة واحدة .

بعد خروجها من السجن واصلت العمل في صفوف الحزب رغم كونها كانت تحت مراقبة مكثفة من ازلام و جلاوزة الأمن السري، ولم تتخل عن اداء مهامها الحزبية لحظة واحدة بالرغم من مرضها الشديد وتدهور حالتها الصحية إلى ابعد الحدود نتيجة  تعرضها إلى ابشع وسائل التعذيب الهمجي . كانت الراحلة تقوم بمهامها الموكولة اليها بكل دقة وانضباط وبدرجة عالية من المسؤولية التي تتحلى بها.

وفي عام 1983 اعتقلت مرة اخرى من قبل ازلام البعث في اربيل وتعرضت للتعذيب الوحشي , طلبوا منها الاعتراف مقابل إطلاق سراحها، الاّ انها رفضت وحافظت على اسرار الحزب. لقد حاولوا معها وبشتى طرق التهديد والترغيب والتعذيب للوصول إلى خيط من خيوط اسرار حزبها ولكنها بقت وفية ومخلصة وامينة لمبادئها وصانت اسرار الحزب وتمكنت الخروج من تلك المحن مرفوعة الرأس ناصعة الجبين. 

وفي عام 1986 اعتقلت الرفيقة (ام حيدر) للمرة الثالثة  بقرار من المجرم علي حسن المجيد بسبب التحاق ابنه الاصغر (سرهنك) بقوات الحزب الشيوعي العراقي في سهل اربيل .

رغم الملاحقات والاعتقالات والتعذيب و رغم مرضها الشديد الذي أقعدها الفراش في الفترة الاخيرة نتيجة تعرضها للتعذيب الوحشي واللاانساني, الا ان الرفيقة (هيبت)  استمرت  في نضالها من اجل وطن حر وشعب سعيد , وبقيت  حتّى آخر لحظة من حياتها أمينة لقيمها و مبادئها ونضالها الشاق من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية.

في لقائي الاخيرمعها قالت لي :

( أنا شاهدة على جرائم البعث الفاشي في تعذيب المعتقلين من خلال تجربتي الشخصية، المرحلة الأولى للتعذيب هي الأكثر وحشية وسادية, فالجلاد في تلك اللحظات لا يهمه شيء اطلاقا سوى انتزاع الاعترافات تحت وطأة التعذيب الجسدي والنفسي ,كنت أموت وأحيا عشرات المرات وأنتظر الموت مرات ومرات. تعرضت خلال فترة سجني بشكل دائمٍ للتعذيب القاسي وخاصة اثناء اعتقالي على اثر وشاية الخائن (ممو) والذي وشى بي بداعي الانتقام ,فعلى الرغم من العصابة التي كانت تغطي عينيّ إلا أنني عرفت أنه هو من صوته, فهو كان حاضرًا اثناء استجوابي وتعذيبي وكان يدقق و يناقشني في إجاباتي وبسببه تعرضت لأضرار جسدية ونفسية إضافيّة.

تحولت حياتي في زنازين البعث إلى جحيم لايطاق , حاولت كثيراً ان انسى الذكريات المؤلمة وايام الاعتقال والتعذيب ولكنها ما زالت تلاحقني كظلي ).

رحلت الرفيقة (هيبت) عام 2004 إلى عالم الخلود وخلفت سفراً نضالياً مجيداً لا يمكن ان ينسى و هي بدورها غرست بذور النضال و الأرتباط بنضال الشيوعي العراقي في نفوس ابنائها حيث واصلوا النضال معها في ذات الطريق الذي سلكتهُ طوال سني حياتها حاملين الراية من بعدها.

لقد تعرضت الرفيقة هيبت في سجون وزنازين البعث الفاشي إلى أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي والإيذاء اللفظي لا تتسع الكلمات ولا السطور للكتابة عن تلك الايام القاسية , إنما هذا شيء يسير وكلمات قليلة في دورها النضالي والسياسي في مقاومتها ووقوفها بوجه جلاديها .

نبرق بالتحية الكبيرة لأرواح الشهيدات المناضلات والنصيرات (البيشمركة ) والأمهات الثائرات اللواتي قدمن الكثير الكثير من اجل وطن حروشعب سعيد , منهن : نزيهة الدلمي , روز خدوري ,سافرة,جميل حافظ, خانم زهدي,سالمة الفخري, زكية شاكر, وزكية خيري , مبجل بابان,ثمينة ناجي يوسف ,سلوى صفوت,زكية خوشناو ,فتحية محمد مصطفى ,ساكنة سليمان , خوشكة فريشتة ,هيبت مولود , سنية جباري ,سامية شاكر ,ساجدة صبري ,عميدة منير ,فريدة يونس , حمدية صابر ,بدرية داود, صبيحة عمر أمين ,نازنين  الحيدري ,شكرية حمد امين ,عائدة ياسين ,انسام , احلام ,فاتن و مامزعبداللة و عائشةكروكة  وغيرهن الكثير وسجل الشرف والنضال حافل وكبير بأسماء النصيرات والمناضلات  الشيوعيات لا يتسع المقام هنا لذكرهن.
ستبقى سيرة نضال الرفيقة (هيبت ـ ام حيدر) مُلهمه لكل من آمن بالمبادئ السامية التي آمنت بها ولم تحيد عنها يومأ .

الرفيقة الشيوعية (هيبت)  مناضلة وبطلة من بلادي تستحق وبجدارة ان نفتخر بها وبنضالها من اجل الانسان والانسانية ,وهي وسام فخر واعتزاز لنا جميعأ.

لقد ادت الرفيقة (هيبت) رسالتها بأمانة ونكران ذات ,  فسلام وألف سلام على جسدها الطاهر والراقد تحت الثرى.
المجد والخلود للمناضلة الشيوعية البطلة (ام حيدر ولزوجها ورفيق دربها ملا نفطة) و عهداً بالوفاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ العميل مامند اسماعيل ابراهيم المعروف بـ (ممو) , كان (مرشحأ لعضوية محلية اربيل ـ حشع ) , عندما طُرد من الحزب الشيوعي العراقي لعلاقته (بطبيب بعثي بمستوى عضو شعبة دون علم وموافقة الحزب في اواسط السبيعنات) , وبعد ان جرى تشكيل لجنة للمساءلة الحزبية برئاسة الرفيق الشهيد (عادل سليم واعضاء من قيادة منظمة اقليم كردستان وتحديدا في عام 1976) , ولا سيما أن التحقيقات الأولية التي جرت مع العميل (ممو) أشارت إلى أن المذكور له علاقة سرية مع حزب البعث عبر (طبيب بعثي دون علم الحزب , واثناء التحقيق لم يستطيع العميل (ممو)  ان يرد على الاتهامات الموجهه إليه , وانهار في التحقيق واعترف بتورطه في العمالة لصالح حزب البعث.

وبعد قبول العميل (ممو) بعد طرده من الحزب الشيوعي العراقي  في صفوف انصار (البيشمركة ) التابعة للشيوعي العراقي  في بداية الثمانينات من القرن الماضي , استطاع لاحقا وحسب الخطة المرسومة له من قبل مخابرات النظام البعثي ان يقضي على كوكبة لامعة من انصاروكوادر الحزب الشيوعي العراقي  في اربيل , بعد ان هيأ لهم سيارة وباشر بنقلهم على وجبات إلى بيت ادّعى انه لصديق له، ويقع البيت في (حي العدالة ) في اربيل لتسهيل وخروجهم بعد ذلك, و بعد وصولهم للبيت المذكور قدم لهم مشروبات ( بيبسي كولا ومشروبات اخرى ) كانت مجهزة من قبل الاستخبارات العامة لتخديرهم ومن ثم نقلوا إلى مديرية الاستخبارات العامة في بغداد , هكذا وبكل بساطة تمت تصفية مجموعة من خيرة كوادر الشيوعي العراقي  بغفلة واهمال من قيادة قاطع اربيل.

هكذا  نجح العميل المندس ( ممو وزوجته کیژو محمد صالح) التي لعبت ايضا دورا استخباراتيأ كبيرا وقذرا لانجاح مهمة العميل (ممو) ولولا ( کیژو) لما نجح (ممو)في تنفيذ جريمته بهذه السهولة .

 

ملاحظة : هذا المقال هو جزء من مقابلة طويلة اجريت مع المناضلة (هيبت مولود) في بيتها ومع ابنتها تانيا في اربيل .