بعد التأكد من ان لدينا شهداء في المقر شرعنا بالذهاب الى المقر وفضلنا البحث عنهم من جانب الزاب صعودا الى مقر الاسناد وهو المقر الوحيد الذي بقى الى آخر يوم  و نحن في منتصف الطريق وجدنا الشهيد ابو جواد مسجى وعلامات الموت المبكر واضحة عليه ويتعالى الزبد من فمه !

مما يدل على انه بقى يعاني الليلة كلها وينازع الموت. غطينا وجهه بغترته و واصلنا بالبحث عن ابو الوسن، دخلنا المقر وفتشنا الغرف والقاعات والمطبخ وكل  الممرات ولم نجد اي اثر وحاولنا نحن الاربعة ان نجول اكثر بالمقر عسى ان نجد شهيدنا وهنا سمعت احدنا يقول بصوت عالي : هذا هنا الشهيد

تطلعنا فوجدناه معلقا  على اثر سقوطه من اعلى سطح القاعة بأتجاه مقر القاطع وكان يبدو كملابس معلقة  بالشجرة.

انزلنا الجثة بصعوبة بالغة و اوصلنا الجثتين الى المكان المقرر للدفن  في حفرة تم حفرها بزمن سابق لتكون موضع للدوشكا، حيث كان من الصعب علينا حفر ضريح مناسب ، فلا ادوات لدينا للحفر  ولا وقت و الارض الجبلية في موسم الصيف تكون شديدة الصلابة، وارينا التراب على الجثث وذهبنا لدفن الشهيد ابو سعد على حافة الزاب وكانت الارض رملية وسهلة الحفر فتم الاختيار على ان تكون قبرا ولكن غاب عن بالنا ان نهر الزاب يعلو منسوبه بالشتاء والربيع وسيجرف كل الضفاف ويضيع قبر رفيقنا .

كم رفيق لنا فقيد لم نكلله بالزهور

                     ضائعا قبره المجيد ، ضائعة كم لنا قبور ( مقطع من اغنية الشهيد)

بعد ذلك النهار الطويل والمتعب بدأنا بالصعود ثانية الى المقر، كانت نقطة عبور نهر الزاب ( التلفريك) هي ملتقى للنازحين والمطاردين من اطفال وشيوخ ونساء  الذين تركوا قراهم على اثر القصف الكيمياوي و اكتساح الجيش والمرتزقة  للمنطقة برمتها وقد عجز السلك الحديدي للتلفريك من انقاذ الجميع فتدلى واصبح غير مناسب وما ان يتم استخدامه حتى يتوقف بمنتصف النهر مما يتطلب سحب الشخص العابر بالحبال وهذه عملية شاقة جدا، فترك الامر وفضل القرويين ان يخوضوا النهر مع حيواناتهم وغالبيتهم لا يجيدوا السباحة، نعم انها الانفال حيث شبح الموت يطارد الجميع و الجميع بمواجهة غير متكافئة مع عدو لايعرف حدود للجريمة.

عند وصولنا الى منتصف الجبل  لاحظت ارتال الجيش قادمة في طريق باطوفا -كاني ماسي  و وصلوا بكثافة الى كاني ماسي التي تبعد  قليلا عن مقر زيوة، وصلنا الى مقر كاني ساركي بأتجاه الحدود التركية و وجدنا الرفيق ابو الجاسم بأنتظارنا  وقد غادر الجميع الى قمة الجبل كما و وجدت الرفيق الفقيد ابو علي موسكوڤي بأنتظاري حاملا ما تيسر من حاجاتي الشخصية ( العليجة)،  و بعد الانتهاء من حرق المقر توجهنا للالتحاق ببقية الركب الواصل الى القمة وكان معهم ملازم آزاد ( عماد كريم) بعد ان غادرت زوجته الرفيقة ناديا ( اخت الشهيد حسام) الى الداخل وقد علمت سابقا بذلك واعطيتها رقم تلفون بيتنا وطلبت منها ان تتصل من اي تلفون عمومي في بغداد وتطلب الحديث مع الوالدة وتخبرها ان ( الحجي وصل) وكانت اشبه بالشفرة ليتأكد اهلي ان المتصل أكيد وأمين. لازالت والدتي ( لها العمر الطويل) تتذكر ذلك الاتصال الذي خفف عليها وعلى الاهل عبأ القلق.

كان ابو علي مسكوڤي بطيء المشي و اخبرته بأن كان عليه ان يذهب مبكرا مع الرفاق فقال  لا يمعود ،،، اردت انتظارك والتأكد من عودتك، بقى هذا الموقف الطيب في ذاكرتي وسيبقى ما حييت. غادرنا ابو علي وهو في غربته بالسويد منتصف التسعينات، وترك لنا ذكرى رجل نادر الصفات وهو الوفي الجميل.

واصلنا المسير بمحاذاة الحدود التركية  وكان الجيش يسير نحو الحدود بقوات كبيرة من الجيش والمرتزقة مستخدما كل ما يملك من اسلحة محرمة دوليا ولم تمنعه حملات التضامن العالمية ولا النداءات ولا الامم المتحدة، اذن هي القيامة وكما في الميثولوجيا فان يوم القيامة ( كلٍ يصرخ يا روحي)،  كان الرفيق ابو الجاسم يقوم بدور القائد للقوات التي تجمعت و من الواضح كانت هناك وجه للانسحاب وتوقع ان الامور ستكون سيئة جدا ، فلماذا تركت عوائل رفاقنا في الفوج الاول ؟ ؟ ؟ ، وكان يستلزم سفر العوائل الى الحدود التركية يومين او ثلاثة ايام،  سيما وان كانت هناك وجه وتعليمات بالانسحاب، إلا اذا كانت هناك نية مسبقة لتسليم تلك العوائل ، لم نسمع او نقرأ اي تبرير لتلك الكارثة.

 ومن جهة اخرى تجلت الصفات الانسانية الكبيرة والرائعة للرفيق ابو الجاسم ( قاسم داود)واثبت بحق انه قائد شيوعي، بالاضافة الى روحية العمل الجماعي التي تحلى بها فكان يأخذ ارائنا ويدعم الايجابي منها ويقرر ،والقاعدة تقول ان القائد يظهر اثناء الانسحاب وليس اثناء الهجوم .

عند وصول الركب الى قرية سيريا وهي قرية على قمة مطلة على نهر الشين ( النهر الازرق) قرب الحدود مع تركيا وبذلك الوادي للنهر تجمعت ما لايقل عن ٢٠٠ الف نسمة غالبهم من الزيباريين ، اطفال وشيوخ ومرضى مع حيواناتهم وحلالهم تاركين خلفهم ديارهم وارضهم، ونحن من جهة اخرى تجمعنا و وصلت مفارز اربيل وكافيا وبقى الجميع دون قرار والصورة قاتمة جدا والجيش يتقدم تسبقه حرائقه والحدود التركية مقفلة .

ولا اتذكر في اي يوم ونحن هناك وصل الجيش الى قمة سيريا ورفع العلم العراقي ايذاناً بأحتلال المنطقة والسيطرة على مخارجها ومداخلها، الأمر الذي استدعى رفاقنا من مفارز اربيل إلى الهجوم على القمة من اسفل الى الاعلى بعملية فدائية نادرة و وجهوا نيرانهم من عدة جهات على القوة المهاجمة فهربت تلك القوة لاتلوي على شي، وتركت خلفها جهاز اتصالات واسلحة  واستخدم رفاقنا جهاز الاتصالات و وجهوا بعض الشتائم التي تليق بنظام البعث المجرم.

اعطت هذه العملية وقتا كافيا للنازحين بان يقرروا الى اين؟

فأنقسم الزيبارين الى قسمين ، الاول مع شمال زيباري حيث اللجوء الى تركيا وترك البلد ولو مؤقتا، والثانية مع ابن عمه عثمان الذي سلمهم الى السلطة ويبدو بأتفاق مسبق مع النظام و مصيرهم اصبحوا ضحايا المقابر الجماعية، مثل مصير عوائل رفاقنا في الفوج الاول.

كان لدى رفاقنا وعوائلهم في الفوج الاول الفرصة للانسحاب  المبكر!!! وذكر ذلك رفيقنا توما توماس بأوراقه المنشورة على موقع الناس.

بعد عملية سيريا التي قام بها انصارنا توجهت العوائل لعبور الحدود التركية وعبرت بسلام ورافقها جزء كبير من عوائل رفاقنا وكان رفيقنا الفقيد ابو حسان ( ثابت حبيب العاني) برفقتهم ونزلت دموعه ساخنة عند الوداع مما اثار فينا مشاعر الحزن لفراق بعضنا وتشتت قوانا.

واصلنا المسير بمحاذاة الحدود التركية وبكل قرية نصل اليها نجد الحشود المطاردة وقصص المسير الطويل والمخاطر ، كان ذلك يوم ٢٨ آب ١٩٨٨.

 

*الصورة لمجموعة من اطفال رفاقنا في الفوج الاول، اصبحوا جميعا ضحايا المقابر الجماعية في حملات الانفال.

* الصورة تجمع اطفال الرفيق ابو عمشة مع ابن عمهم المناضل صباح گنجي ، استشهدوا جميعا بما فيهم الرضيع، ولم يعثر على اثر لهم في المقابر الجماعية

* الصورة لاحدى مفارزنا (الپاتازانية) في قاطع سليمانية والتي قاومت حملات الانفال.

سآواصل