لا يختلف إثنان حول أهمية توثيق وأرشفة الحركة الأنصارية العراقية (فترة الكفاح المسلح للحزب الشيوعي العراقي) بإعتبارها رافدا مهما في مسيرة كفاح شعبنا ضد تعسف وعنف السلطات الدكتاتورية الفاشية. وظل هذا الهاجس "التوثيقي" محور تفكير الأنصار أنفسهم، لأن ليس هناك غيرهم من يتصدى لهذه المهمة، وذلك منذ بدايات الطور الثاني لحركتهم قبل أربعين عاما ونيف، لاسيما انهم وجدوا ان تجربة رفاقهم في الطور الأول في ستينيات القرن الماضي، لم توثق أو تؤرشف كما ينبغي، لا بل ضاعت أحداثها بين أحاديث و(سوالف) من عاشها بين زوايا التناول والروي ومجاهل وجهات النظرالمتناقضة ومتاهات الذاكرة المثقوبة، عند شخوص المحاربين الذين لم يمارسوا استراحاتهم، انما واصلوا كفاحهم في ظروف قاسية لم يشهدوا فيها استقرارا، حتى لم تتح لهم فرصة بناء حياتهم الشخصية، كمواطنين، هذا فضلا عن إستشهاد العديد منهم أو رحيلهم.. فقد ضاعت عليهم وعلى من إلتحق من بعدهم بالمسيرة، الإفادة من مراجعة ماضيهم وإستلهام الدروس والعبر منه لصالح الأجيال القادمة وتقديم العون لهم في تحقيق الاهداف والأحلام.

- "خائبا، قانطا، بائسا.. هذا ماحصدته من "ذاكرة الأنصار". كان هذا ردي على الرفيق الذي كلفني بكتابة هذه المادة، حين كتب لي :" لقد تركنا مساحة في "النصير الشيوعي" بحجم عمود لتكتب عنها "وأردف" ولا تتركني خائبا، قانطا، بائسا" فقلت له سأستخدم مفرداتك مدخلا لكتابتي.. نعم يا رفيقي العزيز.. "ذاكرة الأنصار" مسلسل توثيقي فيديوي يسجل بوح الأنصار أمام كاميرتي عما جرى لهم في عشرة سنوات في الجبل، هي عمر الطور الثاني للحركة. كنت أسعى في البداية عمل أفلام وثائقية، لكن تنفيذ هذا المشروع، كما خططت له، إرتطم بمستحيلات واقعية منها عدم وجود مؤسسة تعي أهمية هذا المشروع فتتبناه، إضافة الى فقرنا المادي المدقع، ندرة الوثائق التي تساعد على معالجة الموضوع بصريا (الفيلمية والفوتوغرافية)، إندثار آثار الحركة من مقرات وأبنية وأدوات حياتية يومية، بفعل جغرافية المكان والطبيعة القاسية (الثلوج والسيول) عبر سنوات عديدة مضت، هذا علاوة على عدم تفرغ عنصر بشري يمتلك الوقت والطاقة والحماس والتضحية.. وجل الانصار مضى بهم السن قدما وتوزعوا على بلدان الشتات المتباعدة.

يطول الحديث حول هذا المشروع، ويصبح ترفا، ازاء الحيز المتاح، والإختصار يخلّ في تشخيص العثرات.. اذن لابد من تأشير ماجرى فقط:

إستطعت مع فريق عمل صغير من الرفاق، كان متفانيا، لم ندعي اننا سنؤدي المهمة كما نريد، انما اتفقنا ان نعمل بالممكن وأن نعمل شيئا أفضل من لاشيء.. فأنجزنا الفيلم الوثائقي "سنوات الجمر والرماد" مهمته استعراض سريع لمفردات الحركة الانصارية، بالتعريف بها لمن لا يعرفها، من ابناء شعبنا، والخطة التالية ان نبدأ بتفصيل تلك المفردات فكان الفيلم الوثائقي الثاني "نصيرات"، وهو يتصدى لواحدة من مميزات حركتنا، مشاركة المرأة في الكفاح المسلح لأول مرة في تاريخ شعبنا.. لكن هذا العمل الفردي -الفقير لم يقو على المواصلة، ولم يحظ الفيلمان بالمشاهدة الواسعة في الوطن لأنهما لم يوزعا (مع سبق الإصرار والكسل والجهل)، فكان هذا أحباط آخر يدفع للتوقف عن العمل.

ذلك  ماحصل .. غير ان بين يديّ تبقيت مادة فيلمية خام قوامها أحاديث الأنصار.. فغامرت بالعمل لوحدي، بإمكانات مادية وتقنية متواضعتين، وبقدرة بدنية ضعيفة لشيخ مثلي تجاوز السبعين فعملت مسلسلا توثيقيا على مدى ثلاث سنوات أنجزت فيها (75) حلقة تلفزيونية وحاز هذا المسلسل على نفس مصير الفيلمين.. فأودعت المسلسل التوثيقي "ذاكرة الأنصار" الى منصتين للتواصل الإجتماعي هما (الفيسبوك) و(اليوتيوب) بإعتبار انهما تحافظان على المادة الى حين، وتعتمدان على مشاهد الصدفة الذي سيحصل بالصدفة على معلومة مفادها انه كانت هناك فصائل مكافحة تصدت لنظام قمعي فاشي.

طبعا هذه المحاولات الى جانب محاولات توثيقية كثيرة جاءت بمبادرات فردية من رفاق، عملت كما ذكرنا بـ "الممكن"، لم ترض الأنصار أنفسهم (وهم على حق لأنها دون طموحهم، فحركتهم تستحق أن توثق لتبقى)... لكننا في محافلنا ولقاءاتنا نرفع الـ ( جعجعة) ونطالب بالصوت العالي ومنذ الثلاثين السنة الماضية التي أعقبت إنتهاء الحركة.. لكن لحد اليوم لم نر طحين تلك الجعجة.. وتبقى حبيسة صدورنا أسئلة: كيف نوثق؟ ومن منا سيوثق؟ ومتى سيبدأ؟ وأين؟ ولمن نتوجه بنتاجاتنا التوثيقية، بل كيف سنوصلها اليه؟ وأين سنحتفظ بتلك الوثائق؟ وكيف نجعلها في متناول الدارسين والباحثين؟ ومن سيضمن المحافظة على ديمومة بقاءها؟ وهل سنكترث نحن بوثائقنا ونمررها للغير الذي لا يعرف عنا؟. من جهتي سأواصل العمل بـ (الممكن) وبما استطيعه وسأتنازل عن قيم جمالية وفنية فـ (الممكن) لا يتيح لي الإلتفات لذلك.. وأتمنى ان يعمل رفاقي على نفس المنوال.. لنترك عملنا كمادة لغيرنا يستطيع ان يبني عليها أعمالا تنطوي على فن وجمال يليق بحركتنا.   

عن دورية النصير الشيوعي