بمناسبة قدوم الذكرى الثالثة والثلاثون لجريمة العصر( المرحلة الأخيرة من الأنفال ) التي ارتكبها النظام الدكتاتوري البائد في به هدينان ومحاصرة قواته لعدد كبير من الأهالي والأنصار والبيشمه ركه في جبل  كارة Gara) ) وأسرعدد من أنصارنا والعديد من عوائل رفاقنا أثر عفو عام أصدره النظام والتي لازالت مجهولة المصير ، أعيد نشر الحلقات التي كتبتها أثناء محاكمة الدكتاتور صدام وأعضاء قيادة نظامه حول الوضع العسكري السائد أنذاك وتقدم الجيش العراقي والمرتزقة الجحوش إلى مناطق به هدينان في كوردستان والحصار والتصدي له من قبل الأنصار ورحلة عدد منهم إلى سوريا عبر سنجار وسط مخاطر كثيرة .

إذن وسط هذا الكم الهائل من اخبار تقدم القوات العسكرية إلى كافة مناطق بهدينان والتوقعات التي كانت تراود الناس بشأن هذا التقدم وأهدافه ، كان علي أن أعود على وجه السرعة والالتحاق برفاقي لأن الجميع تيقن وأنا كنت معهم في هذا اليقين من أن العمليات العسكرية الفعلية بدأت في مناطقنا وإنها تختلف هذه المرة عن سابقاتها التي كان يتقدم فيها الجيش والجحوش لغرض تحقيق أهداف محددة عبارة عن الاعتداء على بعض القرى أو المقرات أو ملاحقة مفارز البيشمه ركه ، أما هذه المرة فان الحرب التي أنهت عامها الثامن وضعت أوزارها وتوقفت بعدما أشغلت العالم كله وأحرجت القوى السياسية العراقية عندما أرتبكت في رسم سياساتها وأهدافها ووضع شعاراتها إزاءها ، فعملت بعضها  في مراحل معينة مباشرة مع القوات الإيرانية في عمق الأراضي العراقية وحددت الأخرى موقفا مناهضا للحرب كما كان الحال عندنا في الحزب الشيوعي الذي رفع شعار إنهاء الحرب وإسقاط الدكتاتورية ، وبالرغم من أن إنهاء الحرب أو استمرارها لا يتوقفان على شعار يرفعه الحزب ، كونها كانت أكبر من أن تكون حرب صدام ضد دولة جارة فأن الموقف منها كان ينبغي أن يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة النظام العدوانية والتي أوصلت الأوضاع في البلاد إلى ما هي عليها الآن وهي تتوغل في حرب طائفية غير معلومة النتائج ونيرانها أصبحت تتصاعد مشتعلة وهي تطحن بالعراقيين في طاحونتها و تحرق وتدمر ثروات البلاد بشكل جنوني ، فأن قاعدة الحزب وخصوصا الأنصار وأزعم إن منظمات الحزب في الداخل هي الأخرى ارتبكت ووجدت عدم دقة هذا الشعار كون وقوفها (الحرب) سيعطي للنظام الفرصة الكافية للقضاء على المعارضة بنفس تلك القوة القادمة من جبهات الحرب ، وفي نفس الوقت فأن استمرارها يعني استنزاف المزيد من الطاقات  البشرية إلى جانب ثروات البلاد وبنيتها التحتية  . ولذلك كانت تدور نقاشات حامية في الهيئات الحزبية المختلفة وفي الاجتماعات العامة ترفض فيها قاعدة الحزب وجماهيره الحجج التي كانت قيادة الحزب تتكأ عليها وتسوقها وهي ترفع هذا الشعار وتدافع عنه ، وهي أن فرص سقوط النظام ستزداد عندما تواجه هذه الأعداد الهائلة من الجنود المسرحين والقادمين من حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، إضافة إلى المأساة التي خلفتها هذه الحرب من تفاقم في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وعدم قدرة النظام على مواجهتها ومعالجتها، إلى جانب جملة من الأمور الأخرى من مخلفاتها ، كلها مجتمعة ستشكل عوامل ضغط لا يستطيع النظام مقاومتها وينهار بسبب أعباءها .

    وكان هاجس القضاء على قوات الأنصار والبيشمه ركه يشغل بال الدكتاتورية بالرغم من انشغالها في هذه الحرب التي طحنت أرواح مئات الآلاف من الشبيبة العراقية ولذلك فأنها لم تكن تتوانى في استخدام كل ما لديها من إمكانيات ضد مناضلي الحرية في كوردستان ، ولأجل ذلك كانت تجند المزيد من وحدات الجحوش تحت اسم الأفواج الخفيفة أو أفواج الدفاع الوطني المتكونة عادة من العشائر الكوردية ( رؤساء الغالبية العظمى من العشائر الكوردية ساهموا أو شاركوا في هذه الوحدات وجندوا أفراد عشائرهم ضمن هذه التشكيلات ) علاوة على إشراك قوات الأمن العراقية ووحدات من أعضاء حزب البعث في ما يسمى بالجيش الشعبي في المعارك ضد هذه القوات والثوار المقاومين المقاومة للنظام الدكتاتوري .. إذ كان من المستحيل غالحاق الهزيمة بها في أرض كوردستان ما لم تستطع السلطة الدكتاتورية القضاء على المصدر الأول والأهم لإدامتها ورفدها بالدماء الجديدة ولذلك قررت القضاء على جماهير المنطقة واقتلاعها من قراها عن بكرة أبيها ، وثمة حاجة إلى القول أن السلطة أدركت إنها لا تستطيع تحقيق هذا الهدف  دون أن تستخدم سلاحا جديدا وفتاكا ألا وهو السلاح الكيماوي الذي لا يستطيع جسد الإنسان مقاومته حتى لو استطاعت إرادته ذلك ، لأن هذه الإرادة الفولاذية الحقة وقفت قبل ذلك عائقا أمام مخططات السلطة وأسلحتها التقليدية في القضاء على الحركة المسلحة وإرادة الثوار في كوردستان .

هكذا عدت إلى مقر بير موس (Pir Muss  ) مرة أخرى  وعن طريق الصدفة برفقة الرفيق أبو خدر ، كان قادما من الداخل أي من قضاء سنجار أضطر هو الآخر للتوجه إلى المقرات لنقل تصوراته إلى قيادة اللجنة المحلية ، وإن لم أخطأ التقدير كان ذلك في 19- 8- 1988 وعند وصولنا سرعان ما أبلغنا الرفاق بتصوراتنا عن تطورات الوضع والتحرك العسكري المكثف والغير اعتيادي بالنسبة إلى قوات النظام من الجيش والجحوش بكامل معداتها قادمة من حرب يائسة لم تحقق فيها  شيئا غير جر وطننا إلى المزيد من الخراب وشعبنا  إلى المزيد من الويلات ، طليعتها كانت تنتشر في زاخو وتتوجه صوب أهدافها ، ونهايتها  كانت تتمول بالمزيد من الوحدات عند الأطراف الشمالية من مدينة الموصل حسب شهود عيان تحدثوا لنا في تلك الفترة . بقيت مع أنصار لجنة تلكيف في بيرموس فيما واصل الرفيق  أبو خدر مشواره نحو (مه رانى ) و كان لابد لنا أن نبلغ قيادة اللجنة في (مه رانى) بتفاصيل ما يدور وما تقوم به السلطة من تحشيد وتقدم لقواتها لتحقيق هذه الأهداف التي أشرنا إليها في سياق الحديث .

وكان من بين مقترحاتنا التي أرسلناها في برقيات لاسلكية متتالية ضرورة الإسراع بإنقاذ عوائل الأنصار المتواجدة هناك في المقر ومحيطه وإرسالها صوب الحدود ، وفي نفس اليوم تلقينا برقية جوابية تؤكد أن قيادة المحلية أصبحت تشكل مجاميع من هذه العوائل وترسلها عن طريق ( آشه وه)* باتجاه الحدود التركية ، ولكن تبين فيما بعد أن الوقت كان متأخرا وعادت هذه المجاميع ثانية إلى (مه رانى) عندما وجدت إن كل الطرق مغلقة بوجهها تماما بوحدات الجيش والجحوش العراقيين .

صرنا نتباحث في ما يحصل كثيرا ولم يخطر في بال بعضنا أن ننسحب إلى الوراء أبدا وفي الواقع كنت أنا من بين الذين يدركون بوضوح بأننا سنضطر إلى  الانسحاب باتجاه الحدود مع تركيا أو إيران ولكننا لم نتوقع أن ننسحب على الأقل في الأيام الأولى دون أن نتصدى فيها للقوات المتقدمة أو إشغالها لكي لا نضطر إلى الإنسحاب تحت ضغط الهلع والخوف وتوفير الفرص اللازمة لقواتنا الأخرى على الانسحاب بسلام وهم بدورهم يعملون على تغطية انسحابنا أيضا في المناطق الحدودية ..وهكذا كان أنصارنا التقوا لعدة مرات بمفارز الحزب الديمقراطي  الكوردستاني المتواجدة في المنطقة و مفارز المقاومة الشعبية (به ركرى ملى )* ووضعوا خططا حسبما عرفت منهم ، مفادها كيفية مقاومة القوات المتقدمة وتشخيص مواقع المعارك المحتملة و المفارز التي تتصدى للقوة التي تتقدم من كل جهة ، والأمر كان إلى هنا يعد جيدا وهو أن تتوحد جهود جميع المفارز للتصدي لهذا الهجوم الشرس ، ولكن الأمر الذي عكر صفوة كل هذه الخطط هو الاختفاء التدريجي لمفارز حدك والمقاومة الشعبية التي صرنا نسأل عنها و لا نجد إلا القليل من أفرادها  يتوزعون بين هذه القرى لا يعرفون الكثير عن ما يدور غير القلق والحيرة حتى صرنا لا نجد أحدا قبل يومين من انسحابنا .