النصير الراحل عادل ميزر عمارة (عدنان...)، الذي غادرنا قبل ان يكمل تدوين ذكرياته

لحظة عبور الحدود صوب العراق

بعد إنتظار طويل في احدى المدن السورية، تم إبلاغنا بالاستعداد للحركة، فوصلنا الى الحدود بعد ساعتين، وكنّا فتيانا محملين بالسلاح والأمل والخوف والقلق. كان علينا إجتياز الكمائن التي عادة ما تكون في منطقة عبور الشارع الدولي الرابط بين تركيا والعراق، واتفقنا على انّ مسؤولية الرد ستكون من قبل الأدلاء فقط (ثلاث شبان من حزب كوك).

ما أن وصلنا الى الشارع حتى بدأت كاشفات المدرعة تُضيء نقطة تواجدنا، ثم بدأت ترمي بسلاحها المرعب (دوشكا 14 ملم)، فأنبطحنا جميعا تحت حافة الشارع. كانت المدرعة تتوقف عن الرمي قليلا ثم تعود لتمشيط المكان مرة اخرى، ولكنها في الاخير اطفأت اضواءها واقفلت راجعة، فأسرعنا بعبور الشارع، الذي ما ان عبرناه حتى أطلقوا علينا رشقات كثيقة من الرصاص ردّ عليها الأدلاء.

اكتشفنا بعد اقل من ساعة، بأن المشي وسط الظلام امر غاية في الصعوبة، فالصخور والاحجار الصغيرة تغطي الطرق، ومنحدرات السفوح حادة وخطيرة، وبسبب تلك الوعورة اخذ كل واحد منا نصيبه من العثرات والسقوط على الارض. كان العبور في شهر حزيران، حيث الحر شديد، والمسافة أربعة أيام متواصلة، والطرق التي سلكناها جرداء لا حياة فيها، واستمرت مسيرتنا في الليلة الاولى حتى الفجر لكي نصل الى محطة استراحة عبارة عن كهف مظلم، كانت أقدامنا الناعمة متورمة والسيقان والركب تنتشر عليها الخدوش وتسيل منها الدماء، وكنّا في حالة من الاعياء والتعب بسبب قلة النوم وشحة الاكل، وهكذا حتى وصلنا الى اول قاعدة في بهدنان التي استرحنا فيها ثلاتة ايام، بعدها واصلنا طريقنا باتجاه بشتاشان مرورا بقاعدة روست التي استرحنا بها قليلا، وعندما وصلنا الى هناك، بدأنا نتآلف مع الحياة في الجبل ونتعود على قسوتها وصعوباتها.

سكن الانصار

لكي تستمر الحياة بشكلها الاعتيادي والمألوف، لابدّ ان يكون للانصار سكن لائق، وبالرغم من ان العمل الانصاري يتطلب الحركة السريعة والتنقل من مكان الى اخر من اجل القيام بالمهمات العسكرية والاستطلاعية والدفاعية وغيرها، الا انّ عودة المفارز الى قواعدهم الخلفية والاستراحة فيها والتزود بالسلاح والعتاد والمؤن، يفرض ان يتوفر فيها سكن ملائم.

يقوم الانصار بأنشاء السكن في القواعد الخلفية الشبه مستقرة بعد استطلاع جيد للمنطقة ومعرفة تضاريسها المختلفة ومدى اهميتها العسكرية عندما تتعرض الى هجوم، وكذلك الطرق المؤدية اليها والخارجة منها، وقربها من ينابيع الماء والاشجار ومصادر التموين ايضا.

البناء يتكون من قاعات كبيرة للانصار وغرف صغيرة للاستخدامات المختلفة وحمام ومطبخ، ويولي الانصار اهمية استنثائية لبناء التنور (في بعض المواقع هناك اسطوات لبناء التنانير!)، ولطالما يُنسى او يُهمل بناء تواليت بسبب الطبيعة الشاسعة. اما مواد البناء، فتتكون من قطع الصخور الكبيرة والطين المخلوط مع التبن، وجذوع الاشجار للسقوف واعمدة ترفع السقف الذي يُغطى عادة باغصان الاشجار واوراق شجر البلوط (الجلو)، ومن ثم النايلون وفوقه التراب ويرص جيدا وبعد ذلك يأتي دور (الباكردان) وهو عبارة عن رولة صخرية لرص التراب وغلق الفراغات.

العمل في بناء المقرات عادة ما يكون مجهدا وثقيلا، لذلك فانّ جميع الانصار يشاركون به من دون استثناء. اعمال كبيره لكنها تنجز بأوقات قياسية بسبب الحاجة لها وبسبب العمل الجماعي الذي يرافقه الغناء والطعام والشاي. الف تحية لكل من ساهم بهذه الاعمال.

في ذكرى معركة هناره 18/11/1983

كانت معركة كبيرة ضد أزلام النظام وجحوشه، جرت احداثها في قرية هناره الواقعة على طريق مدينة كويسنجق، حيث دخلتها مفرزتنا المتكونة من 55 نصيرا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل من اجل الاستراحة في جامعها والتزود بالخبز والماء، وكان الاتفاق ان نترك القرية قبل بزوغ الفجر لادراكنا خطورة وجودنا في هذا المكان ولقربه من المعسكرات والربايا والافواج الخفيفة.

لكنّ احد ابناء القرية غادرها ليلا للابلاغ عنا، فما ان بدأنا بالخروج منها حتى وجدنا ان القرية مطوقة من قبل القوات العسكرية والجحوش باعداد كبيرة، 21 فوجا خفيفا مع لواء آلي قوات خاصة ودبابات ومدرعات وطائرات هليكوبتر وراجمات صواريخ.

جرت معركة غير متكافئة، لكن معنويات الانصار كانت عالية خلال فترة المعركة التي استمرت من الفجر حتى اختلاط الظلام، استشهد فيها النصير ابو شهدي (جاسم عطية) وهو طالب جامعي من مدينة البصرة، وجُرح عدد اخر من الانصار.

كان للشهيد البطل علي حاجي آمر السرية الشجاع دورا بارزا في قيادة المعركة، وكذلك شجعان التنظيم الحزبي واهالي القرية الذين كان لهم دورا مشهودا بإيجاد الطرق الآمنة لانسحاب المفرزة وسحب الجرحى وأخفاؤهم وارسالهم للعلاج في المدينة، ولا انسى دور الضابط الشريف الذي أخذ جثة الشهيد بعد أن تعرف عليه من خلال هويته التي كان يحملها. كانت للجيش والجحوش محاولات عديده لإقتحام القرية، لكنها باءت بالفشل على ايدي الانصار البواسل، المجد للشهيد ابو شهدي ولشهداء الحزب.

على نهر الشين

في عام 1988 وبعد عبورنا نهر الشين وتجاوز الصعوبات العسكرية، رافقتنا الكثير من العوائل الهاربة من عمليات الانفال والهجوم العسكري الوحشي على المناطق الحدودية. ومازالت امام مفارزنا مسافة ثلاثة ايام مشيا على الاقدام حتى نصل الى المثلث التركي العراقي الايراني، كما انّ كمائن الجيش والجحوش مازالت تشكل خطرا على خطوط الانسحاب.

بعد عبور النهر، عثرنا على طفلة ضائعة في احدى القرى المهجورة الواقعة على خط انسحابنا. كان اسمها فوزية، نحيلة القوام وترتدي ثوبا بسيطا وشعرها اشقر وخائفة وتبكي، رافقتنا لمدة ثلاثة ايام بعد ان ابدى النصير الشهم والشجاع (بوتان) استعداده بتحمل مسؤولية حملها على ظهره، كانت المهمة شاقة وصعبة على بوتان الذي حملها في طرق جبلية وتضاريس قاسية لاترحم، حتى وصلت الى بر الامان، فوزية الجميلة وصلت سالمة الى الحدود التركية، وسلمت مع العوائل والمرضى الى الصليب الاحمر التركي. اما الانصار وبقيادة النصير الشجاع مام خضر روسي فاستمروا بالمسير حتى الحدود العراقية الايرانية، وهناك بدأ مشوار جديد. الف تحيه لبوتان وللجميلة فوزية.

وكتب الراحل عادل عمارة (عدنان) ايضا عن الاعلام والالقاب والزراعة وغيرها الكثير.