إليكم رفاقي الشهداء...بهاء - سلمان - نمير ......

نهاية آب 1982، وبالتحديد في التاسع والعشرين منه، غادرت مدينة براغ التشيكية مع مجموعة صغيرة من رفاقي الطلبة الشيوعيين، قاصداً دمشق سوريا في الطريق للوصول صوب حدود الوطن العراق.. كنا مجموعة من الطلبة الدارسين من الذين اتخذوا خيارهم الأصعب في ترك مقاعد الدراسة طواعية والتوجه صوب الوطن العراق لأنبل غاية وهي الانضمام لصفوف حركة الأنصار الشيوعيين في كوردستان العراق، التي بدأت بالتشكل والانتشار وبعد توارد الأخبار عن تزايد واتساع نشاطاتهم وفعالياتهم، وتوزعها على مساحات واسعة.. ومع اصوات هدير محركات الطائرة القديمة وهي تحلق عالياً وسط عكر ومنغصات الجو والغيوم والطقس، كنت أحلق معها في سياحة روحية متصفحاً ورقات دفاتر ذكرياتي ومسحة الدراما والمغامرة التي هبطت علي فجأة ودون استئذان، ومنذ اضطراري لترك مقاعد الدراسة في كلية الادارة والاقتصاد التابعة لجامعة الموصل، صيف عام 1978، واضطراري للعيش متخفياً في منطقة النبي يونس في الموصل، وبعدها في أزقة منطقة الحيدرخانة في بغداد، متخفيا عن أعين رجال السلطة والأمن، ثم مغادرتي الوطن في تموز 1979 قاصدا استانبول تركيا باتجاه براغ التشيكية، بعد أن ضاقت السبل وتقطعت الأوصال..وعادت صور وأحداث ومواقف وأشخاص ساعات وأيام العام الذي مضى على اقامتي هناك في تشيكوسلوفيا، متنقلا بين عامل صباغة في مصنع ضخم وسط براغ، وبين عامل بناء عند الحدود الألمانية التشيكية، ثم العام الذي تلاه 1980-1981 الذي مرسريعا في دراسة اللغة عند تخوم منطقة زهرادكي التشيكية الخلابة استعداداً لدخول الجامعة بعد قبولي طالباً فيها، وبعدها في صيف عام 1982 حين أتممت وبتفوق وبعلامات حمر كما تسمى في التقييم الدراسي التشيكي، دراستي للسنة الأولى في جامعة كارل للاقتصاد في مدينة براغ التشيكية.

 في المساء وصلنا مطار دمشق بعد رحلة طيران متعبة لساعات، وشرع المسافرون بالنهوض وفتح نوافذ أماكن حقائبهم وحاجاتهم لتهيئتها استعداداً لمغادرة الطائرة..وصادف ان رافقنا في السفرة أحد الطلبة الخريجين من رفاقنا الشيوعيين السوريين العائدين لوطنهم بعد اتمامه الدراسة وقد أسرف في شراء قناني عرق الفودكا والهدايا، والتي كلفتنا فشخا وجرحاً في رأس رفيقة من رفاق مجموعتنا، بعد سقوط أحد القناني على يافوخ رأسها حين هم الرفيق الذي جاورها في المقعد انزال حاجاته.

 واستقبلنا الموقف بالألم وشد رأس الرفيقة بالعصابة، وبالتندر والضحك، حيث علق احدنا :

- الله اليستر... يا فتاح يا رزاق، بدأ الدم يسيل ونحن في بدايات الرحلة، ولم نعبر حدود الوطن بعد ....

ولم يمض أسبوع على اقامتنا في دمشق وسط فندق قديم ورخيص في منطقة المرجة وسط المدينة، حتى غادرناها في باص كبيرة قاصدين مدينة القامشلي السورية المحادية للحدود التركية والعراقية...

في هذه المدينة القامشلي الجميلة بنكهة طيفها السكاني المزخرف وبساطة الحياة فيها، أقمت لأيام قليلة في غرفة صغيرة مع مجموعة من الرفاق ضمتنا دار كبيرة بممشى طويل وبحديقة كان عشبها كريماً منحنا فرصة الجري الصباحي مع طقس ممارسة تمارين الرياضة التي كان الرفيق فارتان (أبو عامل) يحرص على ممارسة الجميع لها... وكنت متحرقاً مكثراً من السؤال عن موعد توجهنا صوب الوطن، ولم يكن هذا هاجسي لوحدي، بل كان الشغل الشاغل لمجموع الرفاق الذين توجهوا للكفاح المسلح تاركين مقاعد دراستهم وإعمالهم ومنهم من ترك عائلته والقريبين منه..

وكدت اطير من الفرحة حين أخبرني الرفاق بدنو موعد اللقاء بالوطن، وتيقنت من ذلك كثيراً حين تبليغنا بالانتقال من سكننا الى سكن آخر وقلت في قرارة نفسي ان الموضوع ربما يستغرق بعض الخطوات ولكنه في نهاية المطاف سيوصلني لتراب الوطن. الدار التي انتقلت اليها لا تشبه كثيراً تلك التي سكنت فيها حين قدومي..هنا تزاحم عدد كبير من الرفاق في السكن في غرفتين، وتقاسمت الرفيقات السكن مع عائلة صاحب الدار وهو رفيق كوردي من الحزب الشيوعي السوري.

المفاجأة التي هزتني بعد لحظات دخول الدار، كانت أثناء السلام ومصافحة الرفاق، وأنأ أتطلع لملامح رفيقي بهاء و نمير القادمين مثلي من دولة تشيكوسلوفاكيا ولم أكن اعلم بمغادرتهم براغ، ولا بوصولهم لدمشق ومن ثم القامشلي...

الانطباع الأول الذي يخلفه مشاهدة ومراقبة سكان تلك الدار في تلك الساعات، كان يتيقن على وجه السرعة من أن المجموعة تدبر وتعد وترتب وتخطط لحدث مهم لا يحتاج المرء لفراسة كبيرة من الحدس من أن الأمر يتعلق بمصيرهم وبمصير وطن..واندمجنا نحن المجموعة الصغيرة مع الجميع من سكان البيت وسط الصخب والنقاش والأحاديث وقصص الوطن وأحيانا الأغاني العراقية الحزينة والأناشيد، وهكذا مرت الليلة الاولى لمكوثنا هناك..صبيحة اليوم التالي استيقظ الجميع مبكرين لتناول طعام الفطور وشرب أقداح الشاي السيلاني الأسود، لتبدأ دورات التدريب السريعة على استخدام السلاح البسيط، وبعض المعلومات العسكرية التي لابد للمقاتل من تعلمها وفهمها على الأقل نظريا قبل خوض المعركة.. كانت المرة الاولى في حياتي وانأ امسك بسلاح الكلاشنكوف الروسي، ووجدت الأمر أقرب الى التسلية أكثر من الحقيقة والجد وأنا منهمك في فك وتزييت وشد السلاح والتدرب على حفظ أسماء أجزائه، والتي كان الرفيق المكلف بشرح الدروس مبالغاً في تحفيظنا لها..ولم يكن الأمر بنفس القدر من السهولة في تعلم استخدام سلاح قاذفة الأربي جي سفن الروسية وحشواتها، ولم استوعب تماماً موضوع الحساب الرياضي لشدة التدقيق في التصويب عند هبوب الرياح..ساعات تناول الطعام والراحة كانت فرصة لذيذة وممتعة لنا نحن القادمون من بلاد التشيك، ونحن نستذكر أيام براغ والدراسة التي جمعتنا سوية...

بهاء الدين احمد الأسدي، وكان قد اختار له اسماً (أبو فاتن)، بعد طلب الرفاق منه ذلك قبل التوجه للوطن. وكنت أخمن ان الاسم ربما يعني له بعضا من الذكرى التي خلفها في منطقة الحرية في بغداد قبل أن يتركها هاربا من جحيم البعث في 1978، وكان حينها طالباً في السنة الأخيرة يدرس الاقتصاد في الجامعة المستنصرية في بغداد..في براغ وبالتحديد في السكن الطلابي للطلبة الدارسين في كلية الاقتصادي (الياروف) تعرفت عليه وصار صديقي الأقرب والأحب، وقد تقاسمت معه العمل والنشاط الطلابي والشيوعي...بسيط وطيب ومتواضع وذكي وشهم وكتلة من النشاط والحركة والمبادرة..

ومع نمير رمزي يوسف، ابن منطقة حي البنوك في بغداد،، تعود بي الذكريات الى أيام الموصل وجامعنها منتصف سبعينات القرن الماضي، حيث تعرفت عليه خلال السفرات والفعاليات التي كان الشيوعيون يحيوها هناك. وقد شاهدته لأكثر من مرة مع الفرقة الفنية التي شكلها الشيوعيون في جامعة الموصل، خلال الحفلات التي كانت تقام في مقر الحزب عند منطقة الدواسة في الموصل، وكان يغني فيها تارة، ويعزف على العود أحياناً..هناك في الموصل كان يدرس هندسة الري والمكائن قبل ان يتركها متوجها لبراغ في تشيكوسلوفاكيا بعد اشتداد هجوم مرتزقة البعث ورجال الأمن نهاية عام 1978..وفي تلك الدار التقيت أيضا بصديقي وابن مدينتي الكوت نعمة الشيخ فاضل (أبو سليم) الذي استشهد لاحقا في احداث جريمة بشت ئاشان أيار 1983، وبالصديق حسين السوداني، وكانا قد قدما مثلنا من تشيكوسلوفاكيا بعد خيارهما  في ترك الدراسة...

عند وصولي مدينة القامشلي طلب مني الرفاق أن أختار اسماً بديلا لأسمي. ولا أتذكر بالتحديد الدافع الذي حفزني لاختيار اسم (رياض)، وربما كان مبعث ذلك حبي وتعلقي بالورد والعشب والرياض.

ولم أكن أعلم بأن هناك أكثر من رفيق قد سبقني واختار هذا الإسم. وصار اسمي مركبا في وقت لاحق في وسط الأنصار ( رياض قرجوغ) بعد اضافة كلمة (قرجوغ)، لكوني من أنصار سرية قرجوغ في قاطع أربيل، ولتمييزي عن الرفاق الذين يتشابه اسمي مع أسمائهم.

في المساء الذي سبق تحركنا باتجاه الحدود صوب الوطن، تحلقنا جميعاً مستمعين لتوجيهات ونصائح  الرفيق المسؤول عن ترتيب موضوع المفرزة والعبور والتأكد من توفر جميع الحاجات المطلوبة، ومنها بالذات السلاح، وقد تكرر التوجيه لأكثر من مرة بعدم الرمي أو استخدام السلاح حين التعرض لنيران الجنود الأتراك خوفاً من انكشاف الطرق التي كان الرفاق يسلكوها في المفارز الذاهبة صوب الوطن، وان نترك التقدير في الأمر لمسؤول المفرزة ولدليلها...

ظهيرة يوم 23 أيلول 1982 وبعد تناول وجبة غذاء، توجهنا وبسرعة للصعود الى سيارة الزيل العسكرية التي كانت تنتظرنا قرب باب الدار باعتبارنا أنصاراً من فصائل المقاومة الفلسطينية، وهكذا كان يتم التمويه على تحرك رفاقنا في كل المناطق والذي كان يتم بمعرفة الجهات الأمنية السورية.

كنا حوالي الخمسة عشر رفيقا ومن كل الطيف العراقي الجميل تحملنا عربة الزيل العملاقة مجتازة عكر وطسات وحفر الطريق الطويلة المتجهة صوب الحدود السورية التركية، وقد ساد الصمت والترقب في انتظار الخطوات القادمة والتي بدت مجهولة التفاصيل. الذي شغلني كثيراً في تلك اللحظات هو الشعور بثقل متاعي وحاجاتي، خصوصاً حقيبة الظهر التي ضمت أشيائي الصغيرة، وإصرار الرفاق على أن تحتوي على بعض الكتب للمتعطشين للقراءة حسب الوصف، والمسدس التشيكي الثقيل الذي كلفنا الرفاق بحمله اضافة لسلاحنا بندقية الكلاشينكوف، والغاية ايصال ما أمكن من السلاح للرفاق في حركة الأنصار...

بعد ساعات من حركتنا وصلنا عند مشارف قرية سورية حدودية (معشوقية)، ودون ان يشعر أحداً من فلاحيها او رعاتها بتواجدنا.. هناك كان في انتظارنا عدد من رفاق منظمة القامشلي للحزب المكلفين بالإشراف على حركة عبور المفارز، وكان من ضمنهم الرفاق عادل أمين (أبو حسن)- فارتان شكري مراد (أبو عامل) - سلام جعفر (أبو سامر)، والرفيق خالد سليمان (أبو هزار) من رفاق الحزب الشيوعي السوري...

تعرفنا على اسماء بعضنا البعض الحركية، وعلى الرفيق الذي سيقود مفرزتنا وكان طويل القامة قوي البنية أو هكذا كما بدا لي، ولم اكن أعرفه من قبل، وعلمت لاحقاً ان اختياره جاء بسبب خدمته في الجيش العراقي...وهناك أيضا تعرفنا بالشاب الذي سيكون دليلا لمفرزتنا، وهو شاب يافع لم يبلغ العشرين من العمر ضعف ونحيف البنية ويكثر من تدخين السجائر وقد بان سنه الذهب وهو يتحدث بلغة كوردية كرمانجية سريعة ومتداخلة الكلمات... ويبدو أن دليلنا (مستو)، وهكذا سمعت الرفاق وهم يحادثوه، والاسم تصغيراً لاسمه الحقيقي مصطفى، قد خبر كل خفايا الطرق العابرة للحدود والتي عبرها لمرات كثيرة، ناهيك عن كونه من رعاة أحد القرى فيها...

أرض شاسعة على مد البصر ترابها يميل نحو الحمرة قليلا ويبدو أنها قد حرثت للتو وربما كان الفلاحون يمنون النفس بقليل من المطر سوية مع شمس الله الحارقة..سكون وصمت يلف المكان والفضاء قطعته أصوات حشرات وضفادع تأتي من حوافي السواقي الصغيرة التي رتبت بعناية واضحة، امتزجت مع أصوات بعيدة لحمامات في الطريق لأعشاشها..

شرعنا بالسير الحذر والشمس تعلن من الأقاصي وداعها ليوم تمازجت فيه سخونة الصيف وبدايات قدوم الخريف..كانت أقدامنا الحذرة تغوص في التربة الهشة التي يزداد في كل مرة عبق رائحتها مع تفاصيل ومشاعر المشهد وعلى يمين مسيرنا لاحت ليس بعيداً بعض بيوت القرية التي كنا نسمع أحيانا أصوات اطفالها...المساء يفرش ثيابه وظلمته ونحن نحث الخطى البطيئة حذرين في السير..وفي همس وكلمات مقتضبة ساعدنا أحد الرفاق على ترجمتها من الكوردية للعربية، أشار الدليل بيديه للمكان الذي نقصده والذي علينا عبوره ويعني ذلك السياج الترابي العالي قليل والممتد دون نهايات. ثم عرفنا في تلك اللحظات بان علينا الانتظار قليلا حتى غياب القمر وحلول الظلام تماماً..هذه السدة الترابية هي الخطوة الأولى في ملحمة عبور الحدود العصية، ثم تليها خطوة عبور جادة الطريق الدولي، وبعدها انبوب النفط، ثم عبور نهر دجلة العريض والسريع الجريان، واجتياز الكثير من المرتفعات والقمم والهضاب، وحتى وصول أول موقع لرفاقنا الأنصار..

هناك في الجهة الغربية من السدة الترابية تلوح من البعيد مصابيح الربيئة العسكرية التركية، ومثلها أيضا مصابيح وضوء ربيئة اخرى في الطرف الشرقي منها..تمددنا تماماً فوق تراب الأرض المحروثة وكأننا نريد التيمم بها ومسح وجوهنا بترابها النقي، مشرعين بالزحف البطيء واحداً بعد الآخر...

ومع اقترابنا بدت اصوات محرك المدرعة العسكرية التي تحمي السدة الترابية وتسير ببطء على طريقها الترابي ذهاباً ومجيئاً بين الربيئتين.

الفتى الدليل مصطفى أشار للجميع بحركة يديه أن نتوقف عن الزحف ودون النهوض، ونهض هو قليلا متقدماً للأمام في أصعب وأعسر مهمة وهي استكشاف الطريق واحتمال وجود الكمائن، وصار مصير المجموعة كلها في تلك اللحظات رهناً لما يراه ويقرره.. لم تمض دقائق قليلة حتى عاد مصطفى بحركته الخفيفة التي بدا فيها كالنمر النافر حواس الشم في انتظار الوثوب، ليأمرنا بالنهوض والصمت والشروع بالحركة والسرعة، ولم تكن السدة الترابية تبعد عنا سوى مسافة قصيرة جداً..

المكان والمنطقة التي كنا نريد العبور منها، كانت معروفة ومعلومة من قبل قوات حرس الحدود الأتراك، فقد شهدت عبور عشرات المفارز من حزبنا ومن الأحزاب الأخرى، وكانت أيضاً طريقاً للمهربين من الجهتين السورية والتركية..وكانت أغلب خطط وتفاصيل العبور مكشوفة ومعلومة بحكم التشابه والتكرار، وبحكم المعلومات التي تتوفر لهم والتي يتم الحصول عليها من الذين يتم اعتقالهم، وأيضا من الرعاة والفلاحين المنتشرين على طول الحدود....

لم يكن استطلاع وحدس دليلنا موفقاً، اذ لم تسعفه كل حواس الشم والخبرة والحنكة في استطلاع وكشف عشرات الجنود وحراس الحدود الذين كمنوا لنا في الجهة الأخرى من السدة الترابية، وقد حبسوا انفاسهم لوقت طويل في انتظار مفرزتنا التي بدت لهم في تلك الليلة كصيد سمين سهل المنال، خصوصاً وقد اقتربنا لأمتار قليلة منهم....من منتصف الطريق بين الموقعين العسكريين للجنود أسرعنا في الحركة ونحن نقترب من منحدر سدة التراب أملا لتجاوزها، وكان الدليل مصطفى يتقدمنا في الحركة...لم تمض ثوان على بداية عبورنا للسدة حتى بدت قيامة القيامات من رصاص ونيران انهمرت علينا من الجهة الثانية حيث الكمين المحكم الطويل وعلى طول المسافة بين الربيئتين...

استدار الدليل (مستو) على الفور ليأمرنا بالاستدارة والانبطاح لثوان، ثم النهوض والركض لأمتار والانبطاح سريعاً، وقد ضاع صوته وسط لعلة أصوات الرصاص وصراخ الجنود الذين أناروا عتمة وظلام المكان بطلقات التنوير التي أحالت الليل نهاراً كي نبدو لهم مكشوفين يسهل ابادتنا...

أتذكر أن مكاني كان في منتصف المفرزة التي تبعثر نسغها حين استدرنا في تلك اللحظة التي انكشفنا فيها والتي استدار فيها الدليل باتجاه الجانب السوري وسط قيامة الرصاص، وقد شعرت بوخزات خفيفة في رجلي اليسرى في منطقة الفخذ القريبة من الركبة، ولكن الوخزات لم تمنعني من مواكبة ما تبقى من رفاق المفرزة وأوامر الدليل مصطفى بالانبطاح مرة والركض أخرى...ابتعدنا قليلا عن سدة التراب ولم يتوقف انهمار الرصاص وصراخ الجنود الذي يبدو انهم قد لاحقونا وسط الراضي السورية، وصرت أشعر بأن بنطال بدلتي العسكرية قد ابتل تماما بالدم وهو ما فسر لي سر الوخزات التي ما عادت كذلك مع اشتداد الألم..في منخفض بسيط توقفنا وسط الذهول والصمت والألم الذي لف الجميع، خصوصاً بعد تفرق عدد من الرفاق ودون ان نعرف مصيرهم..دليل المفرزة يسأل عن أحوالنا وهل الجميع في سلام وشرع يعد الرفاق متفقداً أحوالنا، وقد اصيب بالذهول هو ورفاق المفرزة حين اخبرتهم بأني مصاب في رجلي وأن جرحي ينزف والدم قد غطى رجلي وبنطالي العسكري والجوراب..كان التعب والإرهاق والألم قد أخذ مني الكثير ولم تعد لي طاقة على حمل حقيبة الظهر، خصوصاً وأني كنت أنزف طوال فترة الجري والانسحاب وأنا في كامل عدتي وسلاحي كما يقولون...لم يكن الألم يؤرقني كثيراً بقدر القلق على مصير بقية الرفاق الذين تفرقوا عن المفرزة..ولتخفيف حملي والمساعدة على السير تكلف رفيقي ابو حازم وبنخوة وشهامة الشيوعي، في مساعدتي على حمل حقيبة الظهر وتخفيف اثقالي...وصلنا القرية منهكين وتعبين والحزن والوجع يلف الوجوه، ويبدو أن أهل القرية والرفاق المكلفين بمهمة ايصالنا لمكان العبور، كانوا على دراية بالذي حصل وقد تابعوا مشاهد قيامة الرصاص والتنوير. وقد علمنا أن اكثر أهل القرية قد غادروها في الليل خوفاً من اقتحام الجنود الأتراك لها...وبدأت صورة الرفاق المفقودين تنجلي قليلاً حين طمأن أهل القرية أحد رفاق المفرزة (علي زنكنة) الذي سبقنا بالوصول اليها وكان يحمل قاذفة RBG7، من أن القادمين ليسوا من الجنود..ولم تمض دقائق وملامح فجر 24 ايلول شرعت تلوح مع خيوط الضوء، حتى قدم رفيق آخر من المفقودين وتبين أنه الرفيق نعمة الشيخ فاضل (أبو سليم)، وحسب ما رواه في حينه فأن السبل قد تقطعت به بعد انهمار الرصاص وأضاع بقية المفرزة وظل يركض ويسير ليجد نفسه قريباً من موقع عسكري قريب في الجهة السورية من الحدود، تبين له انهم جنود سوريون وقد خففوا الصدمة عنه وأوصلوه الينا في القرية...في القرية تولى رفيق من الشيوعيين السوريين معالجة جرحي وشده بعصابة ولفاف، وقد خفف ذلك من الوجع خصوصا بعد زرقي بأبرة مع حبات الأسبرين..

الوقت يمر سريعاً ثقيلاً، والرفاق، سلمان، بهاء، نمير، ليس من خبر يدل على مصيرهم، وبدأ الرفاق وبمساعدة بعض من أهالي القرية في البحث والتحري عند أطراف القرية ومن كل الاتجاهات ولم تفلح مساعيهم...وفي محاولة لا تخلو من المغامرة قاد الرفاق سيارة الحزب التي أوصلتهم من القامشلي حين مرافقتهم لنا، ووجهوا مصابيحها الضوئية العالية باتجاه نقطة العبور التي واجهنا الكمين فيها، وبدؤوا بالصراخ وبأصوات عالية هزت سماء وفضاء المكان :

- رفاق رفاق رفاق....نمير...سلمان.....بهاء....رفاق رفاق...

وتكرر النداء لمرات كثيرة ولم يكن من جواب سوى الصدى الذي مزق أحشائي ونفوس رفاق المفرزة...تركنا القرية متجهين صوب مكاناً أكثر أماناً منتظرين أخبار رفاقنا الثلاثة..بعد حين علمنا ان طائرتي هليكوبتر تركيتين قد حطت بعد الفجر في مكان تعرضنا للكمين، وقد نقلت جثث الرفاق الشهداء، وفي وقت لاحق علمنا بتسليم جثامينهم لفلاحي القرية الكوردية التركية (بازفت) القريبة من موقع الكمين، والتي تقع في  الجانب التركي المقابل للقرية السورية التي انطلقنا من المنطقة القريبة منها، وقد دفنهم الأهالي في مقبرة القرية...

كم شهيد لنا فقيد   لم نكلله بالزهور

ضائعا قبره المجيد    ضائعة كم لنا قبور

في اليوم التالي وكان ألم وصدمة فقدان الرفاق الثلاثة يهز نفوسنا، توجهنا راجعين الى مدينة القامشلي..الرفاق ذهبوا للبيت الذي غادرناه قبل يومين، وصرت انا ضيفاً عند عائلة رفيق من الشيوعيين السوريين، وعلى أن أتكتم على الذي جرى في حال استفسارهم عن اصابتي..وفي اليوم الثاني صباحاً نقلني الرفاق الى عيادة رفيق من رفاقنا الشيوعيين السورين، وهو طبيب معروف في مدينة القامشلي. هناك في العيادة مكثت في غرفة من غرفها ليومين بذل الطبيب الشيوعي خلالها جهوداً كبيرة في علاجي وتنظيف الجرح الذي تلوث بقطع صغيرة من شفرات الحلاقة التي كنت احتفظ بها في جيب بنطالي العسكري. ثم انتقلت للسكن في الدار التي سكنتها أول مرة عند قدومي لمدينة القامشلي، وهناك بذل الرفيق الدكتور فاضل الدباغ اخ الرفيق جلال الدباغ، جهوداً كبيرة في معالجتي والسهر على شفائي. وفي وقت لاحق ساعدني كثيراً احد رفاقنا السوريين من كوادر الحزب الشيوعي السوري، الذي كان يعمل طبيباً في مستشفى مدينة الحسكة، وكان يصطحبني كل صباح من مدينة القامشلي الى الحسكة بسيارته الخاصة للتداوي هناك.

بعد فترة قليلة، وبكل الاصرار والتحدي، شكل الرفاق مفرزة جديدة ضمت رفاق مفرزتنا التي تعرضت للكمين، والذين لم يثن هول ليلة الكمين ورصاصه، عزيمتهم وإصرارهم وتشوقهم لعبور الحدود ووصول أراضي الوطن وفصائل الأنصار، واستطاعت هذه المفرزة العبور والوصول الى غايتها واللقاء مع رفاق الحزب في القواعد الأنصارية...

بعد حوالي الشهرين وبعد تماثلي للشفاء وإصراري على موقف خيار الكفاح المسلح والعبور صوب الوطن نحو قواعد رفاقي الأنصار، ودخلت مع مفرزة من الرفاق والرفيقات ومن منطقة قريبة جداً من مكان كمين الليلة المشئومة..

في السنوات السبع التي مرت علي في حركة الأنصار كانت صورة وجوه رفاقي الثلاثة لا تفارقني، ولم أتخلص من كوابيس تلك الصدمة عند المعبر الحدودي لقرية بازفت، ولسنوات طويلة..

ستبقى ذكرى الشهداء...سلمان داود جبو حيدو....بهاء الدين أحمد الأسدي....نمير رمزي يوسف

خالدة في ذاكرة التأريخ الشيوعي والوطني المجيد المعمد بالدماء الزكية لباسلات وبواسل الوطن...

الشهيد الدكتور سلمان داود جبو، ابن مدينة القوش والناصرية لاحقاً !!! كم حزين أنا لأن الزمن النحس لم يمنحني سوى فرصة أيام للتعرف بك...أيها النسر الشجاع وأنت تتصدى ورفاقك للدبابات التي حاولت اقتحام كلية التربية في بغداد عام 1967...وهل أكثر من هذا نبلاً وأنت تتخلى عن نعم العيش في قسطنطينية الجزائر التي كنت تعمل استاذاً في جامعتها لتختار طريق التضحية ونكران الذات نصيرا شيوعيا...ستبقى أيها الشهم الشيوعي النبيل خالداً في الضمائر والوجدانـ أنت ورفيقيك بهاء ونمير، وكل شهداء درب الحرية والكفاح....

المجد والخلود للرفاق الذين ضمتهم تلك المفرزة الباسلة من الذين استشهدوا في زمن آخر وأماكن نضال مختلفة....الشهيد فارتان شكري مراد (أبو عامل)...الشهيد نعمة الشيخ فاضل عباس (أبو سليم).. دليل مفرزتنا الشهيد مصطفى عزيمة (مستو)، الذي استشهد برصاص الجندرمة الأتراك يوم 15/12/1982، في مكان قريب من موقع الكمين الذي تعرضنا له، وهو من المتطوعين لمساعدة رفاقنا ومن منظمة بيشنك الكوردية التركية...

4 شباط 2022