لينافا قريه تابعة الى محافظة دهوك ويفصلها عنها جبل وممرات متصلة بالبلدة عبر قرية كرمافه ذات النبع الكبريتي. كانت حياتنا شاقة نحنُ الأنصار، فخلال العشرة اعوام اللتي قضيناها في كردستان العراق كانت دليل لحب الشيوعين للديمقراطية والسلام في وطننا، وأذا اردنا السلام يجب ان نناضل من اجله وهكذا كان الموقف؟. 

كان عدونا الدكتاتور عدو جبار ويتفوق علينا بالعدة والعدد، ونحن نتفوق عليه بالعزيمة وعدالة قضيتنا، قضية الشعب. وفي هذه الظروف استطعنا ان نتغلب على الكثير من الصعوبات المحيطة بنا والمواقف اللتي بدت لنا بلا مخرج تقريباً، حتى اصبحت لكل واحد منا رواية خاصة به، وكان في عام 1984 بداية صعبة من خلال المعارك المفروضة من النظام الدكتاتوري في بغداد على القرى المحيطة بمدن كردستان الجميلة وفي منطقة الدوسكي وبرواري باله والسندي والكلي كانت لها الحصة من مغامرات فاشية اغلبها فاشلة. ومن خلال هذه المعارك جمعنا الخبرة والحصيلة من هذه الجولات لنحتفظ بها قصص للأجيال القادمة. وكان للسرية الثالثة نشاط في هذه المعارك المسلحة والراقية في النضال وقضيت فيها ست سنوات متواصلة، ست سنوات لا نملك فيها شيئا سوى البندقية وعدالة القضية. 

في ذات يوم من عام 1986 -1987 كان الطقس معتدل والسماء يشتد ازرقاقها وأجواء الفرح على وجوه الشيوعين وهم في جولة مشتركة مع رفاقهم في السرية السابعة القادمة من مناطق زاخو، كانت لقاءات احبة لم نر بعضنا منذ سنوات بحكم الظروف، احاديث جميلة وامنيات وتصورات، نكات واغاني وتعلمنا الصبر من صبرنا، اتجهنا جميعاً الى القرى المحيطة بجبل دهوك في منطقة الدوسكي وحددنا الوجهة الى قرية لينافه وباخرنيف بقيادة ملازم سردار ابو ميسون، تتميز لينافه بموقعها الجميل وهي على شكل حوض تحيط بها مرتفعات صخرية انه جبل يحتضن حبيبته لينافه ويحيط بها نهر موسمي ويبلغ عدد بيوت القريه 40 بيت تقريباً اغلبهم يقتربون من اليسار ولنا كمفرزة علاقات طيبة مع سكان القرية. وفي لينافا عندما يحل الظلام تجد نفسك وكأنك اتصلت مع السماء عبر النجوم المتلألأة تتهيئ للأقلاع بصحنك الطائر والمسافة التي تفصلنا عن مركز مدينة دهوك لا يتجاوز الكيلو متر وهو الجبل، وهناك مدخل قرية كرمافه، سلكنا الطريق من قرية صندور الأثرية الجميلة طريق مكتظ بأشجار البلوط واللوز والعرموط البري وكنا نمزح مع ضيوفنا في السرية السابعة لنقضي معهم ليلة حامية حتى وصلنا الى لينافا الحب لقضاء ليلتنا فيها. كنت مطمئناً لهذه القرية طول الوقت لكني لم اكن مرتاح البال بعد ان سمعت خبر تمركز لقوات عسكرية وجحوش في ممر كرمافه. كانت لي علاقة طيبة مع ملازم سردار وكنا نصغي لبعضنا، دخلنا معاً الى بعض البيوت للتأكد من صحة المعلومات. تبين لنا حقيقة الخبر. 

توزعنا على البيوت لتناول وجبة العشاء وقضينا مساء جميلا مع العوائل رغم القلق المرسوم على وجوه البعض. حان وقت النوم، اصطحب كل واحد منا فراشه ليتجه الى مكان خلوده الجزئي. كانت ليلة يشوبها الحذر، ورغم كل هذا كنا نمزح ونضحك ونتحدث معاً ونسأل بعضنا البعض عن كيف كان الأستقبال وما هي وجبة الطعام وهل يوجد تلفزيون في البيت وما موقفهم من البيشمركه، اسئلة تتكرر في كل القرى تقريباً، كانت ثلاث مواقع للنوم ليتوزع عليها الشيوعين، ومن حسن الصدف كان مكاني في غرفة واسعة تطل على النهر الموسمي الذي كان خالياً من الماء، كنا في هذه الغرفه ثلاثة عشر نصيراً حسب ما اظن وما اتذكر ومنهم كان ابو عوف وجميل توما توماس وملازم رياض، والشهيد امين باروشكي. 

ألقيت بنفسي على الفراش بكامل قيافتي ووضعت حذائي تحت الوسادة كي لا يحدث سوء ويتبدل الحذاء لأنها كانت اغلبها من نوع واحد وهي السمسون مصنوع من اللاستيك التركي. حاولت النوم في ذلك اليوم رغم التعب بعد مسيرة متعبة، لابأس اغمضت العيون بعد صراع وأنا على يقين ان المعركة ستقع على الأقل في الخامسة صباحاً والمعركة ليست عرساً لنرقص فيه، انها حرب ضروس في اي لحظة تودع فيها اخر شريط للذكريات ومن تحب؟، تحدثت للرفاق بحكم معرفتي لظروف الحرب وتجربتي الخاصة في المنطقة، قلت رفاق اليوم الأهتمام بأحذيتكم، ضعوها تحت الرأس والتأكد من الحراسات وأستخدام الناظور ليقرب لنا المسافة في الرؤية وعسى ان لا يصيبنا مكروه، وعند ظهور خيوط الفجر وهي تشق طريقها الى صباحات لينافا وفي تمام الخامسة والنصف صباحاً اطل علينا رجل من شباك قاعة النوم ليقول لنا انهضوا ان القرية مطوقة من الجيش والجحوش. وفي هذه اللحظة شعرت ان اذني وقعت في فم الرجل المنادي ونهضت مسرعاً وأنا في كامل قيافتي العسكرية همست بهدوء انهضوا رفاق ان القرية مطوقة، فنهض الجميع. 

كان موقع النوم لا يبعد اكثر من ثلاثين مترأ عن النهر الموسمي الذي تسلل من خلاله العدو، وهذا الموقع لا يصلح للمعركة، فقذيفة اربي جي واحدة في باب القاعة يمكن ان تقضي علينا جميعاً. حاولنا ان نتسلل واحداً تلو الأخر على مرئى انظار العدو بصفتنا مواطنين عاديين من القرية ولسنا ثوارا شيوعيين. خرج من المكان اغلب الرفاق وبقينا اربعة انا وجميل تومى توماس وهو دكتور السرية انذاك وامين باروشكي ورفيق اخر كان يحمل بي كي سي لا اتذكر اسمه، قذفت الحقيبة (العليجه) من الشباك بأتجاه القرية وخرجت بعد ان اسدلت البندقية على يميني ويدي على الزناد واتجهت لليمين، فصاح بي احد الضباط يا اخ، وكأني لم اسمعه، وفي لحظة اختفيت خلف الموقع لألتقط حقيبتي ووجهت الرفاق ان يسلكوا نفس الطريق دون ان يتجهوا الى اي مكان اخر، مع الأسف الشديد توهم الرفيق امين وظن انه سيخرج من القرية، فركض بسرعة يحمل سلاحه التكتريوف ومعه الرفيق توما ليتخذا موقعاً مناسباً لخوض المعركة من جهة اليسار بأتجاه المقبرة، وعندها صاح العدو توقفوا وفي اللحظة انطلقت اول قذيفة اربي جي في المعركة من العدو لتصيب جميل توما توماس في ذراعه وفخذه ونتيجة اصطدامها بالصخور تشظت لتخترق احشاء الرفيق امين باروشكي وتلقيه مغمياً على الأرض في احدى السواقي القريبة من مقبرة القرية، وهنا بدأت المعركة، واشتد القتال ونحن لم نحصل بعد على موقع مناسب، ولا نعرف هل طوق الجيش القرية بالكامل؟ ام هناك منافذ للخروج، وفي اللحظة بدأت القرية تتعرض للقصف المدفعي المكثف، وكان علينا ان نخرج من القرية فالبقاء فيها يعني مزيداً من الخسائر في صفوف المواطنين والبيش مه ركه. انسحبت اول قوة بأتجاه المقبرة لتغطي الانسحاب، وحدثت مقابلة شرسة كلفتنا سبعة جرحى، اطلقنا النار من القرية بأتجاه النهر لغرض تغطية خروجنا من القرية للمرتفعات المحيطة، وكان دخان قذائف المدفعية كثيفاً والبارود يملأ الأنوف، حدثت اصابات هنا وهناك بين المواطنين والمعركة تشتد شراستها بين الشيوعين والعدو الحاقد. وبعد اطلاعنا على معظم المناطق المحيطة بالقرية، قررنا الأنسحاب من اتجاه القرية المجاورة باخرنيف لنلتقي برفاقنا في الأتجاه الثاني من المعركة وتركزت المعركة اخيراً في المقبرة. كان الجيش يريد التقدم اكثر ليطوق القرية بكاملها والسيطرة عليها ؟، ونحن كان لنا جريح نحاول منع وصول الجيش لهذا الموقع كي لا يعثروا عليه عند الساقية.

تسللنا لسحبه فوراً وتمت العملية بسلام رغم اشتداد القتال في المنطقة المحصورة من المقبرة، وما ان توقف القصف المدفعي اشتركت الطائرات الهليكوبتر في المعركة وهي تحلق في سماء القرية لتصب حممها على الأبرياء. وفي تمام السابعة مساءً انتهت المعركة وهدأ ازيز الرصاص وبدأ الجيش يسحب جرحاه وقتلاه من ارض المعركة متبعثراً خائباً بعد ان تركوا دماراً في القرية وفي بيوتها وحرقت قسماً منها، ولم تقع اصابات خطيرة عند المواطنين وهذا ما أفرحنا اما رفاقنا فكانت اصابة الرفيق امين بليغة ونقلناه بالسرعة في تركتر من قرية دركلي الشيخ الى مقر الفوج الثالث في كلي هصبه اي (وادي الخيول) وسمعنا مع الأسف الشديد بأستشهاد الرفيق امين. هكذا كانت الحياة انها شاقة ومتعبة ونضال من وزن ثقيل لا يمكن لكل مرء ان يتحمله، الف تحية لرفاقي اسماً اسماً وتحية حداد لكل شهدائنا والورد على قبورهم، انها دروس في وطنية الشيوعين وتواضعهم النبيل.