حكايتي مع اسم يوسف حزينة ومؤلمة، مختصرها: انّ لي ثلاثة رفاق يحملون نفس الاسم الحركي استشهدوا جميعًا في قاطع سليمانية/ سهل شهرزور وهم: كاظم وروار من السماوة، وعبد المحسن لفتة من الكوت، ومثنى جاسم مثنى (يوسف عرب) من بغداد، وجميعهم يسكنون القلب والوجدان، وتوفى لي ابن اخي يوسف فارس الأعسم وهو شاب وخريج صيدلة جامعة (kingston)  وبمجرد انه باشر بعمله، اصابه مرض عضال ورحل عنا.

إلتقيت مثنى في شهرزور بعد ان توزعنا على السرايا المتواجدة هناك واقصد نحن جماعة التنظيم المدني، فكان تعييني مع سرية شهرزور، فوجدت مثنى في جامع قرية ئالان وهو يتحدث الى بقية البيشمركة بلغة كردية سليمة وبطلاقة فحسبته كرديا على الرغم من سماره الشديد، والأمر الذي زاد من يقيني بأنه كردي هو، أهل شهرزور وبالذات عشائر الگلالين الذين يمتازون بسحنتهم السمراء، والأكثر من ذلك فهم يربون الجواميس وتساعدهم على ذلك بيئتهم حيث يقطنون السهل الملاصق لبحيرة دربنديخان .

بعد ساعات، توزعنا على البيوت المتواجدة في القرية لغرض تناول وجبة العشاء والعودة الى الجامع للمبيت، فذهبت مع مثنى ورفيق اخر الى احد البيوت الذي كان صاحبه محاميا ومثقفا ودخلنا معه في نقاش ممتع، فأبلى صاحبي مثنى بلاء حسنا وهو يتحدث عن المنطقة والوضع العسكري فيها مبينا لصاحب الدار قتامة الايام القادمة حيث ان الحرب ستنشب وان شهرزور بالذات ستكون ساحة لها.

فأخبرت مثنى بان يخفف عليه توقعاته بعض الشيء، فقال لي: ولك خايب شمالك هي هيج راح تصير، ضحكنا وصرنا لا نفترق وأحاديثنا كلها عن بغداد وخصوصًا بعد ان ظهر لدينا أصدقاء مشتركين، سألته يوما: شلون تعلمت كردي هيچ، فأجابني مبتسما: هسه قابل تعلمت فرنسي وزعل احد رفاقنا الأكراد واعتبرها مزحة ثقيلة، واستطرد مثنى بقوله انه كان العربي الوحيد بهذه السرية، وقضيت ساعات طويلة لوحدي في جوامع القرى اقرأ الكتب الدينية باللغة الكردية، فمثلًا الفاتحة وترجمتها الى الكردية مع الشرح وهذا ما يتوفر  آنذاك . وصار الشباب الكرد يسألوه عن معاني بعض الكلمات الكردية ويجيبهم بأسلوبه المحبب وخلقه الرائع و تواضعه الجم فكانوا يجلّون شخصه ويعتبروه الأخ الكبير لهم .

في احدى مهماتنا ذهبنا الى قرية مالوان، وكانت هذه القرية على خط التماس مع اليكتي وكان القتال بعد احداث بيشتاشان مستمرا، فوضعنا حراسة مشددة بعد ان قررنا المبيت بإحدى فناءات القرية قرب الجامع حيث الجو كان حارا. وما ان وضعنا أفرشتنا، حتى بدأ الرمي علينا بكثافة، فبادلناهم الرصاص ونحن نركض باتجاه الرمي محتمين بحائط الجامع. وعندما تمكن الحرس الذي كان فوق سطح الجامع من إسكاتهم، عدنا للمبيت بعد التأكد من هزيمة المعتدين. 

في صباح اليوم التالي عثرنا على احد الجرحى من اوك (اليكتي)، وقصة هذا الجريح تصلح ان تكون سيناريو لفيلم كوميدي وتراجيدي في آن واحد، فقد جرح مرتين وتأسر مرتين على أيدي رفاقنا، الاولى كان جنديا في ربيئة للجيش اقتحمها رفاقنا وتوسط له الاتحاد (اليكتي) بان نفك أسره ويلتحق بهم مقاتلا، وتم ذلك دون قيد او شرط. !وهذه المرة الثانية جاء ليرد الفضل والعمل الصالح، فقام بغدرنا، ولسوء حظه مرة أخرى سقط أسيرا وكان جرحه بليغا حيث استقرت الرصاصة بركبته وصاحبها نزيف وقضى الليلة بطولها يأن في العراء بعدما تركه رفاقه (الشجعان!) لا يلوّن على شيء.

في نفس اليوم جاء د. أبو عادل لعلاجه واستئصال الرصاصة من ركبته، وجاءت والدة الأسير من السليمانية تولول وتنحب وتتوسل بأن لا نقتله كما فعل اليكتي مع رفاقنا الاسرى في بيشتاشان والكلام للام وهي شهادة بشيوع أمر إعدام رفاقنا الأسرى، ومثنى يترجم لي فورا، وتتوعد الأم بأن تأخذ ابنها ويترك الاتحاد والبيشمركايتي وتبكي وتردد لا تقتلوه رجاءًا، اعرف أنكم إنسانيون وكل سليمانية تعرف ان الشيوعيين إنسانيون، عندها اخبرها د. ابو عادل (له العمر الطويل) بأن ابنها سينجو من الموت والرصاصة مستقرة ولا يستطيع اخراجها بالوسائل المتوفرة آنذاك، ولكنه أوقف النزيف مما أعطى فرصة لنجاته واستكمال علاجه فيما بعد، استدركنا انا ومثنى الموقف، فهذا الوغد جاء ليغدر بنا ونفذ ما أراد ولم يحالفه الحظ  وهنا أوقفني مثنى بل حالفه الحظ وحضى بعلاج ورعاية و سيخلى سبيله، كتمنا غيضنا واقترح علي ان نترك المنطقة ونتجه الى البحيرة ونشتري سمك من بعض القرى القريبة من قلبزة قرب ناحية سيروان، وهكذا اخبرنا مسوؤلنا العسكري احمد كومنست ووافق وحصلنا على سمكة مناسبة وذهب مثنى الى احد البيوت وجلب لنا مقلاة ودهن وخبز وجلسنا جنب الجامع في تلك القرية. مثنى تذكر والدته وعصفت به موجة الاشتياق الى لمة الأهل والأحباب وقال- في بيتنا نجتمع كل يوم، وتقوم الوالدة بإعداد سمكة نهجم عليها، وعند الانتهاء من الطعام يقول والدي ها شفتهمتوا؟ وكان يقصد ما شبعوا ويعلو ضحكنا، ولكن كانت الوالدة تنزعج  فالمسكينة تتعب وتبذل قصارى جهدها لارضائنا - أجبته ان حال الأمهات هكذا دائما.

بعد ايام قليلة كان علينا التصدي لتقدم المرتزقة الجحوش من محور احمد برندا، فقال لي مثنى تدري اخاف عليك تستشهد، أجبته وما الغريب، ولكن لماذا  تعتقد هكذا، قال لانك تركض باتجاه الرمي، وكان يقصد عندما دوهمنا في قرية مالوان وركضت باتجاه الرمي ولكن للاحتماء بحائط الجامع، أجبته بان علينا الالتحاق برفاقنا في أحمد برندا تلك القرية النائمة على سفح اعلى جبل في شهرزور ومطلة على الشارع الموصل من دربنديخان الى سليمانية. وجدنا رفاقنا من سرية كرميان قد سبقونا وتحصنوا بالقمة ولم يتركوا فراغًا ووجدناهم قد تصدوا لغارات السمتيات يوميا، بقينا أسبوع كامل نقاتل ونتصدى للغارات وكان أهل القرية قد تركوها. 

كانت السلطة مصرة على جعل منطقة شهرزور ساحة حرب، وجائنا قرار بالانسحاب الى كرجال وجبال سورين، ذهبت الى هزارستون عندما كان مقرا للتنظيم المدني وبَقى مثنى بسرية حلبجة، وبعد ايام قليلة وصل ستة رفاق وهم (خه بات، ئاسو، مثنى (يوسف عرب)، سنكر، رفيق، جلال)، وكانت نيتهم تنفيذ عملية تتطلب عبور السهل نحو منطقة بنجوين، وسبق ان اجتازوا تلك المنطقة مرات عديدة، ولكن بعد تحولها الى ساحة حرب زرعوا فيها الألغام بكثافة، الأمر الذي لم نعلم به.

انفجرت الألغام تحت اقدامهم، ولم ينجو منهم الّا جلال الذي استشهد بعد أسبوع من هذه الحادثة في معركة سويلميش خريف 1983، وجرح سنكر ورفيق فيما استشهد الثلاثة: ((خه بات ذلك الشاب الذي لم يتجاوز العشرينيات من عمره، ئاسو النائب عبد الله،(هناك منشور عنه وعن وفاة والدته)، مثنى جاسم مثنى عداي الساعدي، الشهيد يوسف عرب، طالب الإدارة والاقتصاد  في البصرة... جميعهم في الذاكرة والوجدان.