كان ذلك في ربيع عام 1983، وكانت نار الإقتتال الداخلي تتوهج أكثر فأكثر ويزداد أوار سعيرها يوما بعد آخر، وقرقعة السلاح تُسمع من بعيد، انها مفرزة جود المشتركة والكبيرة العدد، تتحرك شمالا رويدا رويدا، ولا نعرف شيئا من التفاصيل عما يجري في المناطق الأخرى!. الشيء الوحيد الذي نعرفه هو اننا في طريقنا الى بشت آشان، ولا أخبار من هناك!؟. وحدتنا الصغيرة تتجه يسارا وأخرى أكبر عددا يمينا، في طرق ومسالك غير مألوفة بالنسبة لنا!.

بالأمس القريب كنّا في ضواحي أربيل، واليوم نتسلق قمما عالية ونسير في وديان وعرة.! نتجه شمالا ونجد أنفسنا في وادِ عميق وبين عملاقين، انهما جبلا كاروخ وهندرين. في الجانب الآخر تقع قرية درگلة الشهيرة، احدى معاقل الثوار الشيوعيين في الستينيات!.

في هذه الرقعة الجغرافية الضيقة نوعا ما وقعت قبل حوالي 20 عاما أحداثا تأريخية جسام!، عند هذه السفوح جرت أحداث معركة هندرين الشهيرة والذائعة الصيت، التي كان للشيوعيين دور أساسي فيها! تلك المعركة التي كسرت شوكة الجيش العراقي في المنطقة وعززت مكانة وهيبة الحركة الثورية الكوردية آنذاك! إنها مأثرة مسجلة ومنقوشة ومطرزة في صفحات الثورة الكوردية. 

نقترب من نهاية الوادي، أمامنا الآن قرية "سران" الرابضة هناك!، ننتشر حولها بسرعة فائقة وندخلها بيسر وبدون قتال يذكر، اذا صح القول..! في القرية يقع عدد من مسلحي أوك أسرى في أيدينا، ويُنقلون حالا سالمين الى الخطوط الخلفية! فتتوضح الصورة لنا شيئا فشيئا، نحاول أن نوسع دائرة حركتنا، ونتسلق الفسحة المطلّة على القرية من الجانب الأيمن، جانب جبل كاروخ الشاهق!.

نشوة الإنتصار السريع هنا تعزّز ثقتنا بأنفسنا. بِتنا نشرف كليا على الوادي في الجانب الآخر. نُحكم سيطرتنا التامة على أي تحرك لمسلحي أوك هناك أثناء النهار.! ما هو في حوزتنا من عتاد ومؤونة وغذاء قد لا يكفينا أمدا طويلا..! وقد تنفذ كلها في المساء..! يسدل الليل سدوله ويخيّم الظلام الدامس في كل مكان! أضوية بعيدة نراها ونتذكر، انّ "كل ظلام الدنيا لا يقوى على اطفاء ضوء شمعة واحدة".! 

هدوء غريب ومشوب بالحذر يسود المنطقة! وفجأة، يتطاير الرصاص فوق رؤوسنا ومن كل الاتجاهات! ما هذا، وهل أنهم هنا..؟ وهل وصلت الامدادات لمسلحي أوك المتواجدين في جانب جبل هندرين من القرى القريبة من هناك!.

لقد أرسلنا الرفيق زيرك عند بزوغ الفجر الى القرية طلبا للنجدة، حيث كانوا رفاقنا في مفرزة جود..! ولا جواب..!؟ يا ترى، ماذا جرى له..؟؟؟ 

ننتظر وصول التعزيزات او البدلاء من قوتنا المتواجدة في القرية وضواحيها..! وعبثا نحاول ان نقتنع بذلك..!؟ فنحن في عزلة تامة عن التطورات السريعة على الساحة..! ولا علم لنا بالموقف هناك..!؟ 

في تلك اللحظة الحاسمة تصل قيادة المفرزة المشتركة معلومات تؤكد استيلاء مسلحي اوك على مقراتنا في بشت آشان! فتتخذ قيادة القوة قرارا سريعا بالانسحاب فورا من المنطقة الى الوراء، بإتجاه وادي ملكان، والى منطقة باليسان الأمينة نسبيا. 

يعطى الإيعاز لنصيرين، حسبما قيل لنا فيما بعد، لكي يتم تبليغنا بالتفاصيل والانسحاب من مواقعنا! ولم نتأكد الى يومنا هذا من صحة ذلك من مصادر مستقلة، " وأنا في شكٍ من ذلك! الجبن والتخاذل والاهمال الكلي من جانب قيادة القوة، كلها معا تسببت في عدم وصول الخبر إلينا. 

في الصباح نقرر، نحن المتبقين هناك في القمة، النزول الى القرية، متأكدين نوعا ما من الأمان حولنا..! ونتحرك نزولا بإتجاه القرية! فلا زلت أتذكر كل ذلك وكأنها أحداث جرت قبل أيام فقط! ولا زال المشهد يتراقص أمام عينيّ بكل وضوح. 

نباغت بإطلاق الرصاص علينا وجها لوجه، وتأتينا رشقة مفاجئة من مسافة قريبة جدا!، يطير اليشماغ من رأسي ويصاب رفيقي في كتفه في نفس اللحظة..! يسقط بجانبي واسقط معه، أمسك احدى يديه وأحاول أن أجره الى الوراء، أسحبه بضعة أمتار وبصعوبة خلف صخرة!. 

يطوقوننا من كل الجوانب ويقتربون منا شيئا فشيئا! أسمع صراخا من الجانب الآخر..! أين أنتم، أيها الكلاب؟ ارموا السلاح وارفعوا أياديكم..! لقد نفذت آخر الإطلاقات في قتال الليل، وسلاحنا الخالي منها بات عبئا علينا..! 

نقع أسرى في أيديهم وتأتيني ضربة من فوهة البندقية، تُلقيني أرضا ويتدفق الدم من جبيني! ومن ثم ينقضّون على رفيقي الجريح كالذئاب..! شتائم واهانات توجه لنا وتتكرر مرارا..! انها أسلحة الجبناء..! 

قوتنا الصغيرة كانت تضم حوالي 18 مسلحا من مفرزة جود المشتركة، ولا أتذكر بالضبط كم كان عددنا نحن الشيوعيين، أربعة، خمسة أو أكثر... لست متأكدا من ذلك...!؟ فما أتذكره، كنّا - أنا وملازم سيروان وسربست وزيرك. 

يجمعوننا معا ويتهيأ أحدهم أن يطلق علينا الرصاص، فيقفز عليه آخر من أهل القرية ويمسك ببندقيته قائلا – لا تفعل ذلك، لا تفعل، سيقتلون أسرانا الذين في حوزتهم..! فيفصلوننا عن بعضنا البعض..

أسمع أصواتا أخرى من جهة اليمين- انهم أنذال وجبناء...أنه كلب عربي أسود!؟ لا لا، أرجوكم وأنا أصرخ عاليا، انه من قومكم، انه من قومكم..! لا لا، انه من أهلي، من شقلاوا...اسألوه، انه سربست، رجاءً اتركوه معي!، يأخذونه بعيدا ومن ثم يطلقون النار عليه فيما بعد، أسيرا لديهم وجريحا بين أيديهم! وأمام أنظار الرفيق زيرك، الذي كان قد دخل القرية مطمئنا من انّ رفاقنا لازالوا هناك، ووقع قبلنا في اسرهم عند منبع الجامع!.

نعم، لقد تركونا رفاقنا في ساحة القتال وحدنا وفروا هاربين، خوفا وتحسباً لهجوم محتمل عليهم من جانب قوة اوك القادمة من جانب قرية ورتي ...!!وهكذا تم نقلنا في اليوم الثاني الى "سجن ورتي" لنلتقي هناك بالرفاق الأسرى من بشت آشان، فتباً للجبناء وتباَ للأوغاد، تباً للقتلة المجرمين، وتباً للوحوش الكاسرة، وتباً لأشباه البشر، الذين باعوا كل شيء بسعر بخس في سبيل مصالحهم ولإشباع رغباتهم المريضة!.