طالت فترة أنتظارنا في القامشلي أكثر من المتوقع بسبب تراكم الثلوج على قمم الجبال وحشود القوات العراقية والجحوش على طرق عبــور الأنصار والظروف الأمنية على الحـدود السورية التركيـة ومجزرة بشت ئاشان الدمويــة، الجميع يعيش في بيت واحد ولا يسمح لأي شخص بالخروج والأختلاط مع آخرين إلا بموافقة خاصة.

في بداية شهر آب / 1983 وقبل بضعة أيام من السفر وزعت الأسلحة على مجموعتنا، علمنا عندئذ أن موعــد تحــركنا نحـو الوطن قـد أصبح قريبا" ممـا زاد من فرحنــا، الجميع مشغول بالتهيئة للرحلة الطويلــة، أختيار الملابس الكردية المناسبة، تفكيك السلاح وتنظيفه وتزييته، ملئ مخازن العتاد، ربط النطاق والعتاد على خصر النصير، كيفية لف البشتين على البطن، ثم أخذنا نحسب الساعات بأتجاه ساعة الصفر لبدء الرحلة. في يوم الثاني عشر من شهر / آب / 1983 وفي ليلة حالكة الظلام وغياب القمر ورؤية لا تتجاوز عدة أمتار اصبح الوقت الملائم لتوجه الأنصار نحو قرية المالكية السورية الحدودية مع تركيا متجهين نحو الوطن يرافقنا الدليل الكردي التركي المعروف من قبل الأنصار الشهيد يوسف بايرام/ صوفي وأحد رفاقه الأتراك.

تحركت مفرزتنا المكونة من الأنصار الشهيد خيري، والفقيد عباس طالب كاظم / عايد، وجماهير امين الخيون / ياسين، أبو مازن، وقيس الصراف / أبو هلال، كفاح، ابو ميادة، أبو سوزان والنصيرة أم سوزان. توجيهات مشددة وتعليمات كثيرة، المسيرة شاقة جدا"، الطريق يستغرق على الأقل أسبوعين سيرا" على الأقدام وسط طرق جبلية وعرة، لا يسمح بحمل أكثر من 2 كغ من معلبات السمك واللحوم ورغيفين من الخبز والحاجـات الشخصية البسيطة في حقيبـة الظهـــر المصنوعة من القماش أضافة الى السلاح الشخصي المكون من بندقية كلاشنكوف وخمسة مخازن عتاد وقنبلتين يدويتين والأستغناء عن كل شئ غير مهم، التوجيهات تشدد علينا السير بنسق واحد وخطوات مدروسة، نزع الساعات اليدوية والخواتم الذهبيـة، رفع بطاريــات الراديو أن وجـدت، عـدم التحدث مع أي نصيـر إلا في الحـالات القصوى، عـدم التدخين، كل نصير يتبع النصيـر الذي أمامه ويعتبــره دليــلا" له، إتبـاع تعليمات الدليل صوفي بحــزم.

طريق مسير الأنصار بأتجاه الوطن يمر داخل الأراضي التركيــة عبر الأسلاك الشائكة وبين أبراج المراقبـــة الحدودية التركيــة والموزعة على طول الشريط الحدودي والتي لا يبعد أحدها عن الآخر سوى 200 متر في الغالب، وهي أخطر مناطق العبور التي تواجه الأنصار.

بدأت حركتنا من قرية المالكية بنسق جيد دون حدوث أي طارئ وألتزم الجميع بالتعليمات، وفي الخطوات الأولى لتحركنا أنهال علينا الرصاص فجأة من أبراج المراقبة، الرصاص يئز فوق الرؤوس كأنه معزوفة موسيقية خرافية وبعدها سلطت الأضواء الكاشفة، أتخذ الجميع موضع الأنبطاح أرضا" وسط الأدغال، وألتزم الجميع الهدوء التام وسط الرصاص الذي يمر فوق رؤزسنا وعلى بعد أقدام منا، واصلنا الهدوء والزحف على الأرض، الرصاص الكثيف لا زال مستمرا من أبراج المراقبة، أنتظرنا عدة دقائق ونحن على هذا الحال، لم تصل أي تعزيزات عسكرية، ومن تجربة الأنصار في العبور لا يبدوا أننا وقعنا في كمين لرجال الحدود الأتـــراك حيث عــادة ما يقــوم الجندرمة الأتــراك بأطلاق النار على أي مصدر لصوت يسمع وبشكل عشوائي لأنعدام الرؤية بسبب الظلام وتأدية للواجب العسكري المكلفين به دون أن يكون هناك هدف معين أو تحديد لمكان عبور مفارز الأنصار التي عادة ما تعبر الحدود في فترة غياب القمر وأشتداد الظلام، وسبق وأن أستشهد وجرح العديد من الأنصار بعد وقوعهم في كمائن لرجال الحدود الأتراك عند محاولاتهم دخولهم الأراضي التركية كما وعادت مفارز أخرى الى داخل الأراضي السورية مع عدد من الجرحى لنفس السبب. 

أصيب الجميع بالأرتباك، لا نعرف ماهي الخطوة التالية فهي التجربة الأولى للمفرزة !! ننتظر التعليمات من الدليل صوفي .....مرت دقائق قبل ان تخف حــدة النيران، الدليل التركي صوفي يطلب منا مواصلة السير السريع والأبتعاد عن المنطقة تفاديا" لتحديد موقعنا، الجميع يندفع نحو الأمام في نسق واحد وليس أمامه غير شبح رفيقه في المقدمة، وكل واحد منا يسأل نفسه هل تجاوزنا مرحلة الخطر أم لا ؟ عشرات الأسئلة تدور في بال كل واحد منا وتحتاج الى جواب! ووسط هذا الأرتباك والتفكير والظلام ولسوء الحظ دخلت قدمي اليمنى بين صخرتين كبيرتين لم أتمكن من رؤيتهما عن بعد بسبب شدة الظلام وأصبحتُ مشلول الحركة كليا" ولم أتمكن من تحرير قدمي رغم المحاولات العديدة، الموقف حرج للغاية، رشقات من رصاص الأسلحة الرشاشة عادت ثانية خط سير المفرزة بين فترة وأخرى.

يا له من حظ تعيس ونحن في بدايـــة الطريق، ما العمل الآن ؟ حاولت بطرق عديـــدة تحرير قدمي دون جدوى، رشقات الرصاص وأزيزها يصم الآذان ولا زال يمر فوق رؤوسنا، حملّت نفسي ما حدث ؟ كان عليّ الأنتباه الى هاتين الصخرتين الكبيرتين؟ كيف دخلت قدمي بهذه السهولة ولا أستطيع أخراجها الآن؟ زوجتي النصيرة أم سوزان بجانبي تساعدني وفي عيونها الحيرة والأرتباك وهي تحاول عمل شيء ما ونحن في هذا المكان الخطر، أبتعد عنا بعض رفاق المفرزة، ووصل الخبر الى الدليل صوفي وتوجه ألينا مسرعا"

ـــــ ما الذي يحدث هنا يا رفاق ؟ هيا أسرعوا قليلا" .

ـــــ رفيق صوفي لا أستطيع الحركة ... أحتاج الى المساعدة، يا له من حظ تعيس هذه الليلة، عاد صوفي الى الأمام وهو ينظر أليّ محتارا" وطلب من مساعده قيادة المفرزة نيابة عنه ومواصلة السير وعاد ثانية بأتجاهي وسأل :

ـــــ ماذا حدث يا رفيق أبو سوزان ؟

ـــــ لقد علقت قدمي بين الصخرتين ولا أستطيع تحريرها !

ـــــ بسرعة يا رفاق ليس أمامنا من خيـار أتركـوا أبـــو سـوزان في مكانه وســـوف نعـــود أليه حالمـــا يتوقف  أطلاق النار ونطمئن للوضع ... لا أستطيع التضحية بالمفرزة من أجـل نصير واحد فقـــط، لنواصل السير إننا في موقع خطر وعلينا تجاوز التلال التي تشاهدونها أمامنا في أقل من ساعتين حتى نصل الى نقطة أستراحتنا الأولى، رفضت النصيرة أم سوزان والنصير عايـد مواصة السير وأصرا على تقديم المساعدة جهد الأمكان.

ـــــ رفيق صوفي لا نستطيع ترك ابو سوزان هنا وبهذا الحال ربما يقتل لنحاول مساعدته.

ـــــ حسنا" حاولا ما أستطعتم ولكن بصمت وأنتم ملاصقين للأرض، لا ترفعوا رؤوسكم عاليا" سننتظركم عن بعد وسوف نوفر لكم الحماية كونوا حذرين .

ـــــ نعم يا رفيق صوفي سنحاول .. ولكن أنتظرونا عن قرب .. ربما نفقد أثركم لا تبتعدوا عنا كثيرا".

ـــــ الحمد لله نجحت الفكرة لنحاول اللحاق ببقية المفرزة ... وثم بادر بقوله أنها البداية يا رفيق أبو سوزان وأمامنا الكثير من المتاعب في الطريق فعلينا الصبر والتحمل .

ـــــ شكرا" رفيق عايد على المساعدة بالفعل أنها البداية وأمامنا الكثير وعلينا التحمل، هيا بنا نسرع فعلينا الأن الألتحاق برفاق المفرزة بأسرع وقت. كان الرفيق عباس طالب كاظم / عائد ، أصغر نصير في المفرزة ، لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره رياضي وأكثر نشاطا" وحركة من أي نصير آخر في المفرزة قياسا" لنا نحن الذين تجاوزنا الثلاثين من العمر، كان لطيف المعشر، مرح، عارضت عائلته في البداية التحاقه بفصائل الأنصار لصغر سنه وقلة تجربته الحياتية ولكنه أصر أصرار الرجال على مواصلة الرحلة الشاقة وخوض التجربة الجديدة مع رفاقه