تشكيل مفرزة النقل الأولى

في عام 1979 حين بدأ حزبنا الشيوعي الكفاح المسلح ضد السلطة الديكتاتورية، أسست قيادة قاطع بهدينان في وادي يدعى "ﮔلي كوماته" مقرا لها، ويقع على جزء من نهر الخابور الذي يفصل العراق عن تركيا. وعلى مسافة قريبة، يقع أيضا مقر الفرع الأول للحزب الديمقراطي الكوردستاني. في ذلك الوادي تم بناء غرف وقاعات من الحجر والطين لإيواء البيشمرﮔﻪ (الأنصار). وكان الموقع يموج بالحيوية بسبب حركة المفارز القادمة من خارج العراق أو من داخله.

وشملت النشاطات الأنصارية في ذلك الوقت، حركة المفارز التموينية من وإلى القرى التركية، وحركة المفارز القتالية والاستطلاعية إلى الداخل. ولم تكن جميع التجهيزات يتم الحصول عليها من القرى التركية والعراقية، بل كان على كل رفيق قادم من الخارج أن يجلب معه إلى القواعد الأنصارية بطانية ورزمة أدوية وكتاب في بعض الأحيان.

وبسبب الحاجة الماسة لتنظيم حركة التنقل من الخارج إلى الداخل وبالعكس، قررت قيادة الحزب تشكيل نواة لتواجد مفرزة مسلحة من الأنصار بالقرب من الحدود السورية ـ التركية ـ العراقية، لكي تكون حلقة الوصل بين الداخل والخارج، وان تعمل على تعزيز التعاون المشترك مع بعض الأحزاب الكوردية التركية، والاستفادة من إمكانياتهم في تسهيل وصول الأنصار الجدد إلى كوردستان، إضافة إلى نقل البريد الحزبي والأسلحة والمعدات الضرورية للقواعد الانصارية.

وفي أوائل عام 1980 تشكلت مفرزة النقل الأولى بقرار من قيادة الحزب للقيام بالمهام سالفة الذكر، وتكونت من الرفاق الأنصار الشباب الذين لديهم خبرة وقابلية للقيام بمهام غير تقليدية. وأُشترط فيهم مواصفات خاصة منها: الكتمان، الصبر، سرعة الحركة، المهارة القتالية وتحمل المصاعب.. الخ.

في البداية استدعى الرفيق أبو عائد (ملازم خضر) المسؤول العسكري لقاطع بهدينان آنذاك، مجموعة من الكوادر الحزبية في القاطع لاستشارتهم وإبلاغهم بقرار الحزب حول تشكيل مفرزة خاصة للنقل، وتكون مهمتها ذات طابع سري، ثم شرح أبعاد تلك المفرزة ومهماتها وأهميتها في حياة الحزب. بعد الانتهاء من اللقاء، شخَّص أبو عائد ثلاثة كوادر وأبلغهم قرار الحزب بتشكيل مفرزة خاصة للنقل.

جرى تحديد قيادة المفرزة: (مسؤول عسكري، وسياسي، وإداري). ولأغراض المراسلة الحزبية سميت باسم لجنة (لسع) نسبة إلى الحروف الأولى من أسماء الرفاق الثلاث ((أبو لهيب، أبو حربي ( سلو) وعلي)). ومن ثم تم اختيار خمسة عشر رفيقا من الأنصار الشباب لهذه المهمة، وأصبح تعدادهم بعد ذلك أكثر من خمسة وثلاثين رفيقاً، أتذكر منهم (أبو لهيب، أبو جهاد، علي، أبو وسن، أبو هدى، أبو خولة، أبو بسيم، أبو زهرة، أبو حربي وآخرين)، وأعتذر لمن لم أعد أتذكر أسماءهم، ولكن سماتهم وصورهم أمام عيني.

أثناء تبليغ الرفاق للتهيؤ للحركة صوب الشريط الحدودي التركي العراقي السوري، كانت الفرحة بادية على وجوه الرفاق لكونهم اختيروا لمهمة تتعلق برفد قوات ألأنصار بالدماء الجديدة والأسلحة والمعدات الضرورية والبريد ومهمات سرية أخرى. في اليوم التالي بدأ التحرك باتجاه الغرب عبر ذلك الوادي الحدودي"ﮔلي كوماته"، الذي يقع فيه مقر قيادة بهدينان. استغرق الطريق حوالي ساعة ونصف للوصول إلى قرية" يك ماله". وبعد استراحة قصيرة واصلت المفرزة مسيرها عبر الجبال الوعرة والوديان، مرورا بالقرى الكوردية المهجرة، المحاذية للحدود التركية.

 ومن أجل احكام السيطرة على الحدود، زرعت السلطة مئات ألآلاف من الألغام والمئات من الربايا العسكرية. وخلال تلك المصاعب والأخطار واصلت المفرزة مسيرتها لتنفيذ المهمة الملقاة على عاتقها بمساعدة الأدلاء ألأصدقاء، منهم الشهيد صوفي يوسف الذي استشهد في معركة بطولية أثناء تصديه مع رفاق الطريق لقوات الجندرمة. وأتذكر أيضا (حسن حياة ورؤوف المختار وأحمد بلكي وهم من جماعة عبد الرحمان ﮔوندكي القيادي في أحد هذه ألأحزاب الصديقة). عادة يبدأ المسير من المساء حتى الصباح، لكن المفرزة واصلت المسير في الصباح حتى قرية" بيجه" التركية حيث تم تثبيت أحد الركائز فيها وهو الصديق درباس من أهالي القرية وكان خير عون لنا. ولزيادة الأمان اصطحبنا درباس إلى "شكفتة "(مغارة) في أعلى قمة جبل، وبقينا فيها إلى المساء. ومن جديد بدأ المسير حتى صباح اليوم التالي، فوصلت المفرزة إلى قرية "صناط" العراقية المهجرة وكانت بحق مجازفة كبيرة، لان الربايا العسكرية فوق القمة ونحن في الوادي، قرب نبع الماء. وبعد استراحة قصيرة انتشرت المفرزة بين الصخور والأشجار مع التنبيه بعدم إشعال النار والاكتفاء بالمعلبات وعدم الحركة طوال النهار. وعند حلول المساء بدأنا المسير من جديد. قبيل الفجر وصلنا إلى نهر" الهيزل" الهائج في مثل ذلك الوقت من السنة وكان بحق مصدر قلق. فكيف العبور إلى الجانب الآخر والتيار بارد وجارف؟. وبعد حوار مع الأدلاء توصلنا إلى ضرورة البحث عن أعرض نقطة في النهر للعبور منها، لأن جريان الماء فيها يكون أبطأ وكذلك عمق النهر يكون أقل، مع الاستعانة بالبشتين (قطعة قماش تلف على الخصر، وهي جزء من الزي الكوردي) والأحزمة والحبال الموجودة لكي يمسك بها الرفاق أثناء العبور. في البدء عبر أحد الأدلاء مع المسؤول العسكري خوضا تارةً وسباحة تارة أخرى ومعهما طرف الحبل، ومن ثم عبر الرفاق جميعا إلى الجانب الثاني. بعد عبورنا بسلام أشعلنا النار لتجفيف الملابس وتهيئة وجبة شاي للفطور. وطالت الاستراحة قرب الهيزل حتى المساء، وبعد خمس ساعات من المسير وصلت المفرزة إلى أحد بيوت الرعاة ألأكراد الذي استضافنا وقدم لنا خبز صاج وشوربة عدس. 

وبعد ثلاثة أيام بلياليها، وصلت المفرزة إلى قرية تقع بين ثلاثة جبال عالية يؤدي إليها طريق واحد ضيق ومتعرج لا يمكن اجتيازه إلاّ بصعوبة، تسمى " بلكة ". لم نتوقف فيها خوفا من مداهمة الجندرمة الأتراك، فصعدنا الجبل. بعد وصول المفرزة إلى قمة الجبل، تقرر أن يقوم المسؤولان العسكري والسياسي بزيارة القرية للاستطلاع واللقاء مع وجهاء القرية وإبلاغهم بتواجدنا.  

في البداية لم تكن المهمة واضحة تماما، لأن المهام متداخلة، إلى حين استقرار المفرزة في محيط عملها واختيار مكان كمقر مؤقت في أعلى قمة جبل. بعد الاستطلاع الجيد للمكان، قامت المفرزة بتنظيفه من الأعشاب البرية وروث الحيوانات والتراب. ومن ثم بدأ أول اجتماع لتوزيع المهام (الحراسات الليلية والنهارية، التموين والطبخ، ومجموعة النقل التي تم تقسيمها إلى مجموعة الاستلام ومجموعة الإرسال).

المهمة الأولى لمفرزة النقل 

بعد أن استقرت المفرزة في محيط عملها في الـ " شكفته" وهي مغارة في أعلى قمة جبل شاهق قرب قرية بلكة (منطقة سلوبيا) الجبلية الصغيرة ذات البيوت الطينية المتفرقة هنا وهناك، قرب عيون الماء، حيث أن لكل بيت عين ماء خاصة به.  ومن على مرتفع بسيط كان بالإمكان مشاهدة " ده شت أتخي" المحاذي للحدود العراقية- التركية- السورية. 

ذلك (الده شت) كان سابقا يضم عددا كبيرا من القرى التابعة إلى زاخو، قبل أن يهجّر النظام الدكتاتوري ساكنيها ويحشرهم في مجمعات قسرية، ومن ثم زرع فيها آلاف الألغام والربايا ألعسكرية للحيلولة دون تسلل الأنصار "البشمركة" إلى العمق العراقي لتنفيذ العمليات العسكرية.

إلتقى المسؤولان العسكري والسياسي للمفرزة بوجهاء القرية (حجي صالح وشعيب محمد ونور الدين وأحمد بلكي)، وبعد الترحيب بالضيوف البيشمركة من قبلهم تم التطرق إلى موضوع بقاء المفرزة في محيط القرية ومساعدتها في توفير التموين والأدلاء والأخبار..الخ. 

في اليوم الأول تم استضافة المفرزة من قبل أهل القرية احتفاءا بهم. وكانت المفاجأة والاستغراب بادية على وجوه أهل القرية لأن قسم من الأنصار لا يتكلمون اللغة الكوردية ويتم التفاهم بلغة الإشارة. ولتوضيح الأمر، إلتقى المسؤول العسكري بأهل القرية وشرح لهم بأن وجود ألأنصار الشيوعيين في كوردستان جنبا إلى جنب مع أنصار الأحزاب الكوردستانية الأخرى هو دليل على وحدة وتضامن كافة قوى المعارضة العراقية والخيرين من الشعب العراقي للنضال ضد سلطة البعث في العراق وان الشيوعيين العراقيين يدافعون عن الفقراء من الكورد والعرب وباقي أطياف الشعب العراقي، وأن هؤلاء الأنصار الذين هم الآن بينكم، هم أبناء العراق بينهم الكوردي والعربي والتركماني والكلدواشوري والأيزيدي والصابئي وكلهم مثقفون وقسم منهم موظفون وأساتذة....الخ. 

وبعد الانتهاء من تلك المراسيم وشراء بعض المواد التموينية (سكر، شاي، طحين، تمن، برغل، وملح ومعجون..الخ ) توجه الرفاق إلى مغارتهم بانتظار المهمات القادمة. في النهار كانت المجموعة منشغلة بجمع الحطب والاستطلاع والتدريب على الخبز والطبخ. وكان بينهم الرفيق أبو هدى الذي لا يفارقه مجلد قصائد سعدي يوسف. 

في بداية شهر آيار 1980 تسلمت اللجنة المسؤولة عن النقل رسالة بالتوجه إلى محيط قرية ﮔوندك التركية التابعة لقضاء شرناخ للقاء مع أحد الموفدين من قبل الحزب. عقدت اللجنة المسؤولة عن النقل اجتماعا رشح فيه المسؤول العسكري للقاء الرفيق القادم. فتحرك برفقة رفيقين آخرين وأحد الأدلاء إلى مكان اللقاء في عمق الأراضي التركية مرورا ﺑ"ﮔلي كورتك" الوادي القصير، وهو وادٍ متعرج ويستغرق قطعه نحو ساعتين!. فيما بعد أصبح هذا الكَلي أحد المقرات الأساسية لمفرزة النقل لاستقبال الرفاق والرفيقات من الأنصار الجدد.  

وكان اللقاء في" بنافيا"، وهي منطقة قريبة من قضاء شرناخ التركية فيها مجموعة من "الرشمالات" بيوت الشعر للرعاة من أهل قرية ﮔوندك، منها بيت المختار وأقاربه وهم أقارب عبد الرحمان ﮔوندكي. ومنطقة بنافيا عبارة عن مرعى، ولا يوجد فيها سوى ثلاثة بيوت متفرقة مبنية من الطين. تلك المنطقة تقع خلف جبل جودي الذي يمتد حتى نهر دجلة على الحدود السورية.  

وكان الرفيق هو أبو علي التركي، محمد شيرواني" مسؤول عن الطريق الذي يأتي من خلاله الرفاق بشكل أصولي، أي السفر بواسطة الجوازات، هو الموفد من قبل الحزب. وبعد التحية والتعارف سلم الرفيق أبو علي رسالة إلى المسؤول العسكري جاء فيها:

((في الطريق إليكم مجموعة من الأنصار الجدد عن طريق الجوازات يرجى اللقاء بهم واستلامهم وإيصالهم إلى الطرف ألآخر، يقصد قواعد الأنصار، وكذلك مجموعة من قطع الأسلحة المفككة وعددها 80 قطعة كلاشينكوف مع 320 شاجور و20 صندوق عتاد وأحزمة وأدوات تزييت البنادق عن طريق آخر، إضافة إلى بريد حزبي هام جداً، عن طريق المراسل الصديق "محمود بنافي")).  

كل تلك المهام في وقت واحد؟ يا الله! كيف السبيل إلى تنفيذ تلك المهام وكل واحدة تختلف عن الاخرى في طريقة ومكان استلامها وخاصة تلك هي أول مهمة فعلية للمفرزة!.  

غادر المسؤول العسكري وتوجه إلى موقع المفرزة للتشاور مع اللجنة والرفاق الآخرين، فالتقى مع الأصدقاء الأدلاء، أتذكر منهم "الشهيد صوفي يوسف وسليمان الملقب "عمو جم" وهو والد الشهيد "خه بات" الذي استشهد مع صوفي يوسف في نفس المعركة، وكذلك مع أحمد حاج حسن لتوفير الحيوانات لحمل السلاح وحقائب الرفاق الجدد.

وبعد المناقشات مع اللجنة والرفاق تقرر أن يتم تقسيم المفرزة إلى ثلاث مجموعات مع بقاء ثلاثة رفاق

 في المقر وأن يتم الاستعداد والحركة بسرعة لإنجاح المهمة.

لم يعد التقسيم السابق، مجموعة الاستلام ومجموعة الإرسال مجدية، فالمجموعات الثلاث هي نفسها للاستلام والإرسال بالتنسيق مع الأصدقاء الأدلاء من الأحزاب الكوردية التركية الصديقة.

تحركت المجموعة الأولى في وضح النهار، بعد القيام ببعض التمويهات، لاستقبال الرفاق القادمين من الخارج. رغم المخاطر على الشارع العام الذي يربط قضاء شرناخ مع قضاء "أولود ره" التركيين، طالت فترة الانتظار ومرّ زمن ليس بالقصير على الموعد المقرر، فقرر مسؤول المجموعة إرسال أحد الأدلاء بالملابس المدنية لتعقب الرفاق بواسطة شبكة المتعاونين معنا مع التراجع قليلا عن الشارع إلى أحد المرتفعات القريبة والانتظار. 

أما المجموعة الثانية، فمهمتها جلب أحد المعروفين من قبل المراسل إلى نقطة أتفق عليها لاستلام البريد من المراسل محمود بنافي، لأن المراسل لم يتعرف على المجموعة بعد.           

والمجموعة الثالثة تحركت إلى قرية "سني" وعليها أن تقطع الشارع المذكور، رغم المخاطر، إلى منطقة تبعد مسافة ثلاث ساعات وهي تمتاز بأشجار الفستق وكذلك بمزارع العنب التي يجنى محصولها في فصل الخريف، قسم منه يصنع زبيباً والقسم الأخر يتم صنع الدبس منه. وبعد وصول المجموعة إلى القرية المذكورة، تبين أنها تتألف من خمسة بيوت فقط، وكلهم أقارب وأخوة يتزعمهم المرحوم "عبد الجليل" ابن عم عبد الرحمان ﮔوندكي. وبعد الاستفسار عن عبد الجليل تبين أنه غير موجود في البيت فقالت زوجته؛ بأنه غير بعيد. تفضلوا ارتاحوا إلى أن يأتي. في تلك الأثناء جاء شقيقه عز الدين وأبلغ المسؤول بأنهم استلموا الأسلحة وبإمكان المجموعة استلامها. 

غادرت المجموعة معه إلى مكان تواجد الأسلحة والعتاد وبعد التحية والتعارف مع عبد الجليل، وأثناء الاستلام تبين أن عدد الكلاشينكوفات هو 79 قطعة أي هناك نقص قطعة و4 مخازن وصندوق عتاد.. فأكد عبد الجليل أن تلك القطعة هدية له من الحزب، من الرفيق "أبو عا ئد". 

كيف يتصرف قائد المجموعة في هذه الحالة؟ استلم الرفيق الكمية الموجودة وعهد بها الى أحد الرفاق وغادر القرية متوجها إلى الرفاق الآخرين لاستشارتهم بالموضوع.

وصلت مجموعة الرفاق القادمين من الخارج برفقة أحد الأدلاء ومعهم خمسة حقائب كبيرة محملة على بغل، وتبين أن الرفاق قد ضلوا مكان اللقاء، ولولا ذكاء المتابعين لوقعوا في أيدي "الميت" الأمن التركي. أتذكر منهم أبو حازم التنكجي وفيما بعد لقب بأبي حازم التركي لأنه ألقيَ القبض عليه في مهمة داخل الأراضي التركية مع رفاق آخرين.

اجتمعت لجنة" لسع" لتدارس الموقف وإرسال الرفاق والسلاح والبريد إلى قاطع بهدينان. تم تكليف المسؤول العسكري وتسع رفاق مع مجموعة من الأدلاء وتم تحميل الأسلحة والحقائب، كما تم تسليح بعض الرفاق من القادمين الجدد.

تحركت القافلة من قرية "سني" باتجاه المقرات في وادي كوماتة عبر القرى الكوردية التركية لتثبيت ركائز لها، مرورا بقرية "بيجه" قرية درباس إلى" يك ماله" ومنها إلى مقر قيادة بهدينان.

تحول إسم مفرزة النقل إلى إسم مفرزة الطريق وتحديد قوامها

تطرقنا إلى ظروف وكيفية تشكيل مفرزة النقل وحاجة الحزب الماسة لتنظيم حركة التنقل من الخارج إلى الداخل وبالعكس، وكذلك كيفية تكليف مجموعة من الأنصار الشباب للقيام بتلك المهمات الصعبة والسرية والشروط التي يجب توفرها والروح الحماسية المتوفرة في النصير. 

وكذلك تحدثنا عن المهمة الأولى للمفرزة، وعن الإرباك الذي حصل أثناء المهمة لكونها المهمة الأولى والمتداخلة في طبيعتها ومدى استعداد وحماس الرفاق لها، وكذلك الإشكالات التي حصلت أثناء استلام البنادق والذخيرة، ولم نتطرق إلى كيفية الحصول على الحيوانات لنقل الأسلحة والرفاق الجدد وكيفية التعامل معها، ولم نتطرق أيضا إلى المصاعب التي رافقتنا أثناء المسير أربعة أيام بلياليها وهي كثيرة بطبيعة الحال.

في أحد الأيام، أثناء المسير الطويل والمتعب، ورد مقترح بخصوص أكل وجبة لحم بعد أن نسينا طعمه، وتم الاتفاق على أن نشتري (ماعز) من الرعاة المتواجدين في الزوزان (العرائش والخيام التي تنصب عند مناطق العشب في الجبال)، المراعي الصيفية، وفعلا اشترينا (البزن) وتم ذبحه وتقطيعه وتوزيعه على الرفاق لكل شخص كمية من اللحم يشويها على طريقته الخاصة. تحركت مجموعة من الرفاق لجمع الحطب وإشعال النار استعدادا لشوي اللحم. لا يوجد حل آخر سوى الشواء على طريقة البيشمرﮔة، فكانت وجبة دسمة أمدتنا بكثير من الراحة والطاقة.

أثناء توجهنا باتجاه المقرات في وادي كوماتة، لاحظت المفرزة أن هناك تحركات غريبة من قبل بعض البيشمرﮔة المحسوبين على (حدك) وكانوا يتبعوننا بعد خروجنا من قرية"يك ماله" التركية، فأخذنا تدابيرنا تحسبا لأي طارئ. توقفنا لبضع دقائق لإعادة الانتشار، ثم بدء المسير مرة أخرى. ولحسن الحظ، لم يحدث أي اصطدام بيننا وبينهم.  

حين وصلت المفرزة إلى مقر قيادة بهدينان في ﮔلي كوماته، لم يصدق الرفاق في المقر أن هذه القافلة تعود إلى حزبنا وخاصة أنها القافلة الأولى التي تصل الى المقر وبهذا الحجم وغير تموينية، لأنّ الأنصار في المقر تعودوا على حركة المفارز التموينية من القرى الكوردية التركية، بينما هذه كانت قافلة سلاح وعتاد وأنصار جدد مسلحين، علما بأن رفاق المقر لم يعتادوا بعد على مجيء الرفاق من الخارج وهم مسلحين، بينما معظم الأنصار في المقر في تلك الفترة غير مسلحين لقلة السلاح لدى الحزب. في اليوم الثاني شاهدت بعض الرفاق وهم يحملون السلاح الجديد وهم فرحين ومبتهجين بهذا التحول النوعي في حياتهم الأنصارية. وبالمناسبة حتى أنصار القوى الكوردستانية في تلك المنطقة تفاجأوا بهذا التحول في تسليح أنصار الحزب الشيوعي. وفي اليوم التالي من تواجد المفرزة في القاطع طلب مسؤول المفرزة لقاءً مع المسؤولين لبحث أمور تتعلق بالمفرزة واحتياجاتها ودعمها.

بعد استراحة يومين، تم اللقاء مع قيادة القاطع لتدارس وضع المفرزة وتدعيمها برفاق آخرين. عدة مقترحات طرحت في ذلك اللقاء وفي الأخير تم الاتفاق على: 

1- دعم المفرزة بعناصر جديدة، على أن لا يقل قوامها عن 35 نصير. 

2- تشخيص موقعين للمفرزة؛ واحد للسلاح والآخر لاستقبال الأنصار الجدد، على أن تكون كل  المفرزة متحركة من والى القاطع وفيما بعد إلى نهر دجلة حيث الحدود السورية...الخ.   

3 – تحويل أسم "مفرزة النقل" إلى "مفرزة الطريق"، لكونها أصبحت تخص طريق السلاح وطريق استقبال الأنصار الجدد وكذلك الطرق المتعددة للبريد.

4 – دعم المفرزة ماليا، لكي تقوم بمهامها على الوجه الأكمل.. مالية مستقلة. 

بعد مناقشة هذه الأمور وإقرارها وإعطاء أمر تشخيص رفاق آخرين إلى قيادة المفرزة لاختيار عشرين رفيقا للانضمام إليها، تم اختيار عشرة رفاق من القاطع، أتذكر منهم: أبو ريتا، خه بات، حمة، كوفان، وأبو سالم وشقيقه، ورفيق آخر آشوري عذرا لا أتذكر اسمه، على أن يستكمل الباقي من الأحزاب الكوردية التركية كمساعدين للدلالة في الأراضي التركية. 

أما بخصوص أسم المفرزة فتحول أوتوماتيكيا من النقل إلى الطريق لان المهام تنوعت واختلفت حيث أصبح لدى مفرزة الطريق مقر شبه دائم في إحدى ممرات ﮔلي كورتك، وهو عبارة عن شكفته (مغارة) وفيما بعد سميت بمحطة "أبو حربي" للرفاق القادمين من الخارج. وأعتقد أن كثير من الرفاق والرفيقات يتذكرون تلك المحطة الجميلة التي تقع في سفح جبل كورتك وكيف كان يجري استقبالهم وفي بعض الأحيان تجري حفلات ترفيهية، غناء، قصائد، مسرحيات وغيرها. وبعد يوم أو يومين من الاستراحة يتم تسليحهم من المحطة نفسها وإرسالهم إلى قواعد الأنصار من خلال قاطع بهدينان. 

وكان لمفرزة الطريق مقر أخر للسلاح في قرية "سني" الكوردية في تركيا وهي قرية عبد الجليل كما أسلفنا وتبعد عن المقر الآخر حوالي ست ساعات مشيا وعبور شارع رئيسي والتغلغل في الغابات وصعود بعض القمم العالية...الخ، حيث يتم جمع الأسلحة المرسلة من عدة طرق سواء عن طريق المهربين أو عن طريق الأصدقاء والمتعاونين وحتى في بعض الأحيان عن طريق الرشاوى إلى حراس الحدود" الدستور"، يتم جمعها في تلك القرية وإخفائها وحراستها لحين تهيئة مستلزمات نقلها مع مجموعة من الرفاق الجدد. والمستلزمات هي تشخيص بعض الرفاق لمرافقتها وكذلك تهيئة البغال للحمولات والدلالة والتموين للطريق...الخ. 

وهكذا اختصت مفرزة النقل، بالطريق لنقل الرفاق والسلاح والبريد إلى قاعدة بهدينان وبالعكس، واستمر عملها طوال أربعة أعوام وعلى مر الفصول.