خلال فترات طويلة من تاريخه الموغل في القدم، تعرض الشعب العراقي الى القمع والاضطهاد والظلم الاجتماعي، بسبب نزعته الى التمرد، وعدم الاذعان للعسف الذي كان يمارسه الحكّام المستبدون، أو المدججون بنظرية التفويض الإلهي، للهيمنة على مقدراته وسلب خيراته. ولم تختلف دوافع حكّامه في العصور الحديثة، بل إزدادت ضراوة، وإرتبطت طرديا بتعاظم دور العراق إقليميا ودوليا، وإرتفاع منسوب الغنى في ثرواته وموارده الطبيعية والاقتصادية، الأمر الذي دفع الشعب العراقي للدفاع عن مصالحه وتطلعاته المشروعة، فطرّز سجله النضالي بالكثير من الثورات والانتفاضات البطولية.

ولكي لا نثقل على القارئ، سنبدأ بثورة العشرين، التي إجترحت بطولات ومآثر مازالت أهازيجها ترددها الأجيال، وكبّدت الانكليز خسائر فادحة، إضطرتهم الى إستبدال الحكم المباشر بالانتداب وهي صيغة تمويهية للاستمرار في إستعمار العراق.

وبالمقابل أفرزت العشرينات من القرن الماضي، جمهرة من الشباب المثقف، لعبت دورا مهما في توجيه قاعدة شعبية جديدة لمقاومة الاستعمار البريطاني، وبلورت إتجاهات اجتماعية، أثرت بشكل كبير في مسارات الأحداث اللاحقة، وأدخلت أفكار الاشتراكية والمساواة الى العراق عبر طرق مختلفة.

كانت إضرابات عمال السكك المتتالية في 1927 و1930، والاضراب العام ضد قانون رسوم البلديات سنة 1931، بمثابة مدرسة نضالية أثرت كثيرا على وعي الطبقة العاملة العراقية، وعلى استعدادها للنضال والانتظام في منظمات نقابية جريئة، ثم تجذر هذا الوعي في تأسيس حزبها السياسي (الحزب الشيوعي العراقي)، الذي إرتقى بالنضالات الجماهيرية، وقاد الغالبية العظمى من الانتفاضات والثورات، التي إندلعت في تلك الفترة، وصولا الى ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.

في مطلع عام 1935 حدثت إنتفاضة فلاحي سوق الشيوخ والفرات الاوسط، وقمعت بقوة الحديد والنار، وسجن العديد من الشيوعيين، بينهم قادة حزبيون بتهمة التحريض عليها.

وقد إستمرت الانتفاضات والهبّات الجماهيرية طيلة السنوات اللاحقة، خصوصا في سنتي 1946 و 1947، وفي كانون الثاني 1948 إندلعت وثبة كانون المجيدة، على خلفية قمع التظاهرات السلمية، وأزمة الخبز الحادة، ومحاولة إستبدال معاهدة 1930 الاسترقاقية، بمعاهدة لا تقل سوءا عنها، وشارك الشعب فيها بكل فئاته الاجتماعية وأطيافه السياسية، واستطاعت الحركة الثورية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي أن تفرض قدرا من الحريات الديمقراطية، وإيقاف القمع ولو مؤقتا، وإجبار حكومة صالح جبر العميلة على الاستقالة.

ولم تأتِ إنتفاضة تشرين الثاني 1952 كحدث مفاجئ، فقد تكررت الاضرابات العمالية في القواعد العسكرية البريطانية رغم مواجهة المضربين بالرصاص، وصودرت الحريات العامة والخاصة، ونشأ جو إرهابي أرادت به الفئة الحاكمة القضاء على أي معارضة شعبية، ولجأت الى آخر ورقة تملكها وهي الجيش، الذي سارع الى إعلان الأحكام العرفية، وإنزال المصفحات والدبابات الى الشوارع، وفرض منع التجول والتظاهر والتجمع.

وعلى صعيد الريف، نهض الفلاحون في عربت وهورين وشيخان ووارماوة ضد الأغوات والسراكيل الذين إضطروا الى تسليم الارض للفلاحين، فتعززت هيبة الحزب الشيوعي العراقي في أعين فلاحي تلك المناطق، وتمسكوا بالجمعيات الفلاحية التي أسسها، ورفعت التجربة من وعيهم كثيرا.

وبعد أربع سنوات إنتفض الشعب العراقي مجددا، تضامنا مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي (بريطانيا، فرنسا، اسرائيل).

ويمكن إعتبار هذه الثورات والانتفاضات البطولية وغيرها الكثير، بمثابة بروفات للحدث الأكبر في تاريخ العراق الحديث، وهو ثورة 14 تموز 1958، حيث كان الثالوث المشؤوم (الفقر، المرض، الجهل)، قد هيمن على حياة العراقيين، وزادت شراسة الحكام وتبعيتهم للانكليز، فحققت الثورة خلال عمرها القصير إنجازات ومكاسب كبيرة للشعب العراقي وكادحيه.

وفي زمن الدكتاتور، ورغم الاساليب الفاشية التي إتبعها لتصفية الشيوعيين والقوى الوطنية الأخرى، بل لكل من عارضه، الاّ انّ الشعب العراقي تحدى جبروت النظام، وقام بانتفاضة بطولية في سنة 1991، حرر فيها 14 محافظة من قبضته، ولولا الأخطاء الجسيمة التي رافقتها، والمساعدة الامريكية له، لكان النجاح حليفها.

ان هذا الإرث النضالي الثوري، وجد إمتداده البطولي في إنتفاضة تشرين 2019 والتي أضحت من المفاخر الكبرى للشعب العراقي، ورفعت شعارها العتيد (نريد وطن)، خالٍ من الارهاب والفساد المالي والاداري والسياسي، ومن المحاصصة المقيتة التي جعلت العراق اسيرا للجهلة وفاقدي الضمير، لصوص المال العام والخاص، ومحترفي الطائفية والتبعية للأجنبي، وتخريب مؤسسات الدولة، والاستقواء بالميلشيات المنفلتة، وحرمان العراقيين بمن فيهم جماهير مكوناتهم التي يدعون تمثيلها زورا وبهتانا، من كل الخدمات الضرورية، فضلا عن البطالة وإفقار الملايين.

والأنكى من كل ذلك، انهم مازالوا متشبثين بالسلطة كتشبث القراد بالبهائم، لأنّها السبيل الوحيد للاستحواذ على السحت الحرام، والثراء الاسطوري، بعد أن كانوا لا يملكون شروي نقير.

لا يخامر أحد الشك، بأنّ الأمور اذا بقيت على حالها دون تغيير، فسوف تتجدد مأثرة تشرين بعنفوان أكبر، ونضج سياسي أعمق، لتكنس سقط المتاع هؤلاء، وتعيد بناء العراق على الأسس الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية.