بعد ساعات من السير وفي خط مسير المفرزة وعند خطوط انابيب النفط العراقي عبر تركيا والمحروس بشكل جيد من قبل القوات التركية غمر المزارعون أراضيهم الزراعية استعدادا" لزراعتها في الموسم القادم وغمر معها طريق سير الأنصار الوحيد المار وسط هذه المزارع بالمياه واصبح الطريق موحلا" والسير فيه مستحيلا" وهذا الأمر لم يكن في الحسبان، تم توجيهنا بخلع أحذيتنا الجبلية وجواريبنا ورفع الشراويل الى ما فوق الركبة، حقيبة الظهر تشدنا الى الخلف وكأنها صخرة اسطورية، بدأنا السير حفاة وسط الأوحال لمسافة تقدر بنصف كليلومتر حاملين أحذيتنا حول رقابنا وسط نباح الكلاب ومشاهدة المزارعين للمفرزة وغالبا" ما يكون هؤلاء من المتعاونين مع المخابرات التركية وهذا الأمر زاد من قلقنا.

تم تجاوز هذه المرحلة بصعوبة وبسلام، معظم الرفاق قد أنهكهم التعب بسبب السير في الوحل، لكن الحماس والإصرار على مواصلة السير منحهم القوة للتغلب على التعب، خصوصا" وأن المكان الذي سنجتازه بعد قليل هو الشارع الدولي المرتفع قليلا" والموازي لخط أنابيب النفط والذي يعتبر من اخطر الأماكن في مسيرة تلك الليلة بعد دخول الحدود وعادة ما تسّير عليه دوريات الجيش التركي في اوقات منتظمة، جلسنا متخفين على جانب الطريق وسط العتمة نراقب الشارع لفترة طويلة للتأكد من عدم وجود دوريات عسكرية أو كمائن في احد زواياه، الجميع مشغول بتنظيف اقدامه من الوحل ولبس جواريبه وحذائه وهم يصغون بانتباه وترقب في وضع الانبطاح مع حمولتهم والأنفاس تتسارع والعيون مفتوحة في هذا الظلام، ليس هناك من ضوء سوى الضوء الباهت الذي كان يأتي من الربيئة البعيدة المشرفة على ذلك الجزء من الشارع الدولي المحاذ لأنابيب النفط .. الكل ينتظر نتيجة الاستطلاع الذي يقوم به (صوفي) ورفيقه وبدورهم ينتظرون مرور عربة الدورية للتأكد من خلو الشارع من الكمائن. لم يمض وقت طويل حتى علا في الأفق ضياء عربة الدورية وهي تسير نحونا، وبعد دقائق  وقفت لفترة وجيزة بالقرب منا ثم واصلت طريقها، فتبين للمستطلعين أن الطريق أصبحت آمنة.

جاء الإيعاز من الدليل للمجموعة ببدء الصعود إلى الشارع والعبور بخفة وهدوء خوفاً من انتباه عملاء النظام في المنطقة. في دقائق تم عبورنا الى الجانب الثاني وواصلنا المسيرة، وعلينا في هذه المرة عبور الجسر الذي يقع على أحد الأنهار التي لا يبعد عنا كثيرا" وعادة ما تكون هناك كمائن للجيش التركي على جانبي هذا الجسر، تم اٍستطلاع الجسر من كافة الجهات ثم اعطيت الأوامر بعبوره بسرعة واتخاذ مواقع على الضفة الأخرى من النهر، ثم واصلنا السير الى الأمام، بعد لحظات سمعنا صوت محرك احدى العربات يأتي من بعيد، فأخذنا مواقع قتالية وكان كل ظننا انها دورية عسكرية للجيش التركي وصلها خبر تواجدنا في المنطقة، ولكن عند اقترابها تبين انها تراكتور زراعي يحمل العديد من المزارعين متوجهين للعمل، خرج لهم الدليل صوفي وتكلم معهم بعيدا" عن مواقعنا وأستطلع منهم عن سلامة الطريق القادمين منه وان كانت هناك كمائن للجيش التركي في الطريق ام لا ؟.

بعد مسيرة الليل بكامله بطريق وعرة وجبلية ثم الى سهل مفتوح وصلنا قبل شروق الشمس الى نهر الخابور متأخرين عن الموعد المخطط له بساعتين بسبب المشاكل التي واجهتنا في بداية الطريق وعلينا في هذه الحالة عبوره على الكلك المصنع يدويا" والذي لا يخلوا من الخطورة خاصة وقت ارتفاع مناسيب النهر وسرعة تياره، ثم تم تأمين مكانا" ملائما" لتهيئة وتركيب الكلك. إنهمك الجميع بنفخ الإطارات بأنفاسهم المتعبـة، حيث ُربطت الإطارات إلى بعضها بالحبال بشكل جيـد وبسرعة، أخذ ذلك منا ساعة ونصف من العمل الدؤوب حتى أصبح الكلك جاهزا" لعبـور النهر وكالمعتـاد يجب وضع الحمولـة على الكـلك ويصعد عليها الأنصار تباعا" وعلى وجبات حسب حجم الكلك وتحمله وهم يواصلون الجذف بالأيدي للمساعدة في دفع حركته نحو الطرف الثاني للنهر بأســـرع وقت، وهكذا تم عبورنا الى الضفـة الأخرى من النهـر بسرعـــة وعلى ثلاث وجبـات، الشمس سـبق وأشرقت قبل أكثر من ساعة وهذا يضعنا في موقع خطير جدا" ومكشوف أمام دوريات السمتيات التركية التي عادة ما تجوب المنطقة بعد شروق الشمس. بعد مسيرة اكثر من ساعة في طرق جبلية معقدة، كان في أنتظارنا رفاق الطريق من الأنصار بموقعهم داخل الأراضي التركية ومهمتهم استقبال الأنصار الجدد القادمين من سوريا وقيادة مفارزهم الى مواقع الأنصار المتقدمة والتي تبعد مسيرة عدة أيام أخرى سيرا" على الأقدام.

يعتبر الأنصار أن مسالة عبورهم الحدود التركية بإتجاه الوطن من أخطر المهمات التي تواجههم، وفقدت الحركة الأنصارية العديد من الشهداء في هذا الطريق منهم: الشهيد (حسن جميل علي)، وهو من أهالي بامرني الذي أستشهد أثناء عبور مفرزة الطريق من تركيا الى سورية في قرية باب الهوى السورية عام 1982 ودفن في مدينة القامشلي، كما وأستشهد الرفاق( نمير عبد الجبار)، (بهاء الأسدي)، و(سلمان جبو) في عام 1982 خلال عبورهم من قرية معشوقية مع أولاد ( د. د. ق. د) وجرح الرفيق (نجم خطاوي)، كما جرح العديد من الأنصار خلال عبورهم النهـــر وآخرها كان إستشهاد ستة رفاق من رفاقنا في مفرزة الطريق بعد وقوعهم في كمين محكم من قبل الجحوش وقوات النظام .

هذه هي محطتنا الأولى المسماة محطـة (ابو حربي)، وهي احدى محطات الطريق التابعـة للحزب لأستقبال الأنصار الجدد القادمين من سوريا ويشرف عليها الرفيق (درمان سلو) الملقب (ابو حربي)، وسبق ان تغير أسم المفرزة من مفرزة النقل إلى مفرزة الطريق بسبب تنوع  المهام وأصبح لها مقر شبه دائم في أحدى ممرات سفح جبل (ﮔلي كورتك) التركي، وهو عبارة عن شكفته (مغارة) بسيطة لا تسع لأكثر من عشرة افراد، ويتذكر كافة الأنصار تلك المحطة التي تقع على سفح الجبل وكيف كان يجري استقبالهم وفي بعض الأحيان تجري حفلات ترفيهية بسيطة لهم، وبعد يوم أو يومين من الاستراحة يتم مرافقتهم مع بعض رفاق المحطة نفسها وإيصالهم إلى قواعد الأنصار المتقدمة الداخلية من خلال المرور بموقع (كيشان) ومقر الفوج الثالث للأنصار ومن ثم قاطع (بهدينان) والقواطع الأخرى.

لا يمكن تصور فرحتنا ونحن نلتقي بمن يستطيع أن يتكلم معنا من الرفاق ويجيب على أسألتنا، سمعنا كلام الرفاق (أبو وسـن) وتبعـه صوت (أبـو أفكار) وثم (أبـو آذار)، بعـدها شـاهدنا (أبو هـدى) ورفاق آخرين. لا يمكن وصف مشاعرنا في تلك اللحظات الرائعة ونحن نرى هؤلاء الأبطال وهم يعيشون في هذه المحطة الجبليـة النائية وخطورتها لأشهر طويلة، وبسرعة تمت تهيئة بطانيات للجلوس وعملوا لنا الشاي، ووضعـوا أمامنا الخبز وشوربة عدس وهو طعام الأنصار المفضل والمتوفر في مثل هذه المواقع، صحيح كنا نشعر بعطش وجوع وتعب، لكن وجود رفاق يمكن التفاهم معهم شيء كبير بالنسبة لنا في مثل تلك الظروف وينسينا تعبنا وعرفنا فيما بعد أن المجموعة الموجودة في تلك المحطة تسكن في خيمة نصبت في مكان مموه بشكل جيد. بعد كل هـذا الجهـد والقلق والأنهاك لليلـة الماضيـة وتناول الخبـز والشوربـة والشاي صباحا" كان بإنتظارنـا اللحم المشوي لبزن (صخلة) صغيرة لوجبة الغذاء أعده الأنصار في هذا الموقع الجبلي المعزول والخالي من أية حياة ولا تسكنـه غير الحيوانات المفترسة والأفاعي. سحب أحد الأنصار في الموقع مديته من حزامه وبـدأ يدلكهـا بلحاء شجرة الجوز وبصخرة قريبـة منهـا، ساعده آخرين على نحره وعلقـه على غصن شـجرة بجانب عين الماء، وبسبب الجـوع تم تقطيعه بسرعـة وتوزيعـه على الرفاق لكل واحد كميـة من اللحم يشويهـا بطريقتـه الخاصة. تحركت مجموعـة من الرفاق لجمع الحطب وإشـعال النار اسـتعدادا" لشوي اللحـم، لا يوجد حل آخر سوى الشواء على طريقة البيشمرﮔة، لا وجـود لأساليب التحضر وسـط الجبال، تعلمنا كيف نستعمل قطع أغصان الأشجار الغضـة وإزالـة الأوراق منهـا لجعلهـا بمثابة شـيش طويل لغرز اللحم، كانت وجبـة دسمة أمدتنـا بكثير من الراحة والطاقة تبعها عدة أقداح من الشاي الأسود وتمدد أثر ذلك عدد من الرفاق بعد تعب الطريق ودسم الغذاء وصعوبة عملية الهضم.

في هـذا الموقع كهـوف عديـدة منتشرة على جوانب الجبال اضافـة الى العديد من الكبرات التي بنيت من سيقان وأغصان الأشجار وهي أماكن نوم وأستراحة المفارز وهم في طريقهم لمواقع الأنصار المتقدمة في العمق العراقي، وبعد هذه الأستراحة جاء أحد رفاق الموقع  ليقول: رفاق امامكم مسيرة طويلـة وشاقـة يوم غد وسط طبيعة قاسية ومياه قليلة فعليكم أخذ قسطا" كبيرا" من النوم والراحة والتزود بالأكل والماء من الأن وستغادرون في الساعة الرابعة عصر يوم غد لتواصلوا المسيرة طول الليل وعلى ضوء القمر.  قضينـا طوال اليـوم نقـوم بالواجبـات الأنصاريـة، النزول الى النهـر وملء الماء، عمل الخبز بالتنور لليوم الثاني، تنظيف السلاح وتزييته، تنظيم الحراسات اليومية والليلية، التأكد ان كل شيء على ما يرام للمشوار القادم، وبعد العشاء دخلنا في نوم عميق حتى صباح اليوم التالي لنواصل مساء رحلتنا الصعبة بإتجاه الوطن