لا يمكن ربط تجربة الأنصار الشيوعيّين بجبال كوردستان العراق (1978-1988) بأية تجربة مماثلة لها في الدول التي عانت من حكّامها، على الرغم من التشابه العام في نضال الشعوب ومعاناتها. ولكنها، تجربة الأنصار، قد تماثل تجارب اخرى من زاوية ان احداثها دونت في وقت متأخر من انتهاء الاحداث، بعد ان هدأت النفوس وبانت الاسرار والمواقف. شفاها كانت الحوادث يجري تداولها داخليّا بين الأنصار، ثم أدركوا انه لا ينبغي التعامل مع التجربة كذكريات فقط، الذاكرة ليست بديلا عن الكتابة، فهي قد تهرم ويزحف عليها النسيان. ومع الظهور المبعثر للكتابات الانصاريّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ بدأت عملية توثيق واسعة، غير محصورة فقط بالقادرين على صف الكلمات. أعاد ذلك ربط خيوط العلاقات بين الأنصار الذين شتّتهم المنافي، وساهم في ظهور لوحات تشكيليّة وعروض مسرحيّة وقصائد شعريّة وأفلام سينمائيّة ونصوص روائيّة ودراسات سياسيّة وتاريخيّة تعتمد تجربة الأنصار في موضوعاتها. أشار ذلك إلى ان الحادثة الانصاريّة في عمقها، كمادة خام، محمّلة بتفاصيل ثرية تجعلها منفتحة على التاريخ والثقافة والفنون، وقادرة على الوصول إلى مناطق مغايرة، قد لا يكون صنّاع الحادثة ورواتها هم فقط القادرين على اكتشافها والوصول إليها.

اللقاءات والحكايات الشفاهيّة أبقت الانصار أعوام طويلة في قيد الأمل، ولم يحدث ان اختلفوا بحدة على طبيعة الحوادث المروية، وكانوا يحذفون ويضيفون المعلومات وسط ابتسامات ودموع ساخنة. ولكن الخلافات بدأت بالتبلور حين تحوّلت حكاياتهم الشفاهيّة إلى نصوصٍ منشورة، ثم صارت الخلافات أكثر عمقا مع تعقيد الوضع السياسيّ وانهيار الدولة العراقيّة بعد الاحتلال الامريكي وتراجع دور الحزب الشيوعيّ العراقيّ وظهور صراعات جديدة فيها القوميّ والطائفيّ والقبليّ، والشخصيّ أحيانا. وسط هذه الازمة الوطنيّة المستحكمة استمر الانصار في توثيق حكاياتهم، بأسماء مستعارة وأخرى صريحة. منهم مَنْ يظهر في الحادثة المروية، ومنهم من يقف خلفها تواضعا، وكأنهم ما زالوا يمشون مع القرار الذي اتخذوه في ثمانينيّات القرن الماضي، التضحية والبقاء في الظل.

إنّ نشاط الأنصار في سياق الروابط السياسيّة والثقافيّة، التي بقيت فاعلة حتى بعد عقود على انتهاء التجربة، لم يصنع بعد استراتيجية شاملة تفكّك التجربة وتضعها في سياقها التاريخيّ. ومع ان تجربة الأنصار الشيوعيّين لها زمان محدد (1979-1989) ولها مكان معلوم (جبال كوردستان العراق) ولها موضوع مهيْمن يتمحور في مواجهة بضعة ألاف من الشيوعيّين العراقيّين لديكتاتوريّة النظام الحاكم، ولكن يبدو ان هذه العناصر غير كافية لوضع حركة الانصار في أطار تاريخي وطنيّ عام يكون جزء من ثقافة المجتمع ومؤسسات الدولة وحياة الناس اليوميّة. في الحقيقة لا نريد الذهاب بعيدا في مركون التاريخ الشائك، وسنبقى في موضوع الكتابات الانصاريّة المتقطعة، التي غلب عليها الطابع الفرديّ. فالكتابة الفرديّة عن ظواهر جماعيّة حالة شائعة في الادب السياسيّ، ولكن السرديّة الانصاريّة تتميّز في انها توثيق جماعيّ لحادثة واحدة؛ بمعنى ان الحوادث الانصاريّة جماعيّة وليست فرديّة، وهو انعكاس لحياتهم المنظمة في فصائل وسرايا وأفواج. وإن صادف وجود راو واحد لحادثة واحدة فذلك إيذان بعزلتها واندثارها. إنّ عدم اكتمال السرديّة، أو دخولها مجال التاريخ، لا يقلل من حقيقة ان الانصار ما زالوا ينشطون في هذا الاتجاه، وما زالوا يلبسون نظاراتهم للبحث عن عفريت في نصوص رفاقهم المنشورة، وما زالوا يفضلون رواية مَن شهد الحادثة على تلك التي تروى عن بُعد، بغض النظر عن طبيعة الرواية إن كانت قادرة على التوصيل والبقاء أم لا. نحن كذلك نميل إلى رواية الشهود، ونغبط أصحاب الذّاكرات الحيويّة، ولكن ما حدث بكردستان يومذاك أكثر من "شهود يروون" وأعمق من قتال وسلاح، ما حدث مرصوصة من الصراعات والأفكار والمعارك والاسماء والقصائد والمواقف الإنسانيّة التي تجعلها منفتحة وقادرة على ان تؤثر بعضها ببعض، حتى لو تباعدت الأمكنة. وإذا كان من مهمات السرديّة الانصاريّة هو التوثيق ونشر الأفكار واضاءة الحوادث التي وقعت بأكثر من مصباح، فذلك يعني ضرورة حضور الآخر، وليس فقط مَنْ شهد الحادثة، ونعني بذلك القراء والأنصار الذين سمعوا بالحادثة ورووا عنها. فالحوادث الانصاريّة، حتى لو وقعت في جبال بعيدة، تروى مشفوعة بسياسة حزب له برامجه ونشاطه، وتبقى مفتوحة على تجارب الأنصار الرابضين في مواقع أخرى. فالمقاتل لا يستمع لحوادث القتال وهو جالس على كرسيّ وثير امام شاشة التلفاز، بل يستمع لها وهو ممسك ببندقيته ويتوجس من ذات الاخطار التي حدثت لرفاقه في جبال بعيدة، وبالتالي فإن تفاعله معها هو تحصيل حاصل. أردنا القول ان كل مقاتل هو جزء من السرديّة الانصاريّة، وأن مضمون الحادثة غالبا ما يكون شائعا بين المقاتلين، وكلٌّ منهم له مجساته في فهم ما يحدث حوله، حتى لو كان بعيدا عن وقوع الأمر. فالتأمل القصدي هنا جزء من الابداع الذي يأخذ الحادثة إلى مستويات أخرى تغني العلاقة بين المقاتل وبين رفاقه المقاتلين في جبال بعيدة. وتساوقا مع ذلك لا يجوز اهمال دور الأنصار الذين سمعوا بالحوادث ولم يشهدوها. فهم قد لا يروون بالتفصيل كما يفعل شهود الحادثة، ولكنهم ابناء التجربة، عاشوا حوادث مشابهة. وسيكون موقع هؤلاء الرواة خارج الحادثة وداخل التجربة العامة للأنصار، يفتحون حدود الحادثة مع المحافظة على عناصرها الداخلية في الزمان والمكان والشخوص. نجدهم تارة رواة، وتارة أخرى معلقين على الأوضاع العامة، وصولا إلى ان يكونوا صوتا فاعلا في السرديّة الانصاريّة. فليس من المعقول التفكير في جعل حركة الأنصار جزء من تاريخ البلد بالاعتماد فقط على مَنْ شهد الحادثة، أو الاستعانة فقط بأصحاب الذّاكرات "النشطة" خصوصا وان الحركة امتدت عشرة أعوام، شارك فيها آلاف المقاتلين المنحدرين من شرائح اجتماعيّة متعلمة وتمتلك خبرات مشهود لها.

مرّة أخرى نؤكد على ان الذين شهدوا وقوع الامر لا يمكن الاستغناء عنهم في عملية التوثيق، ولكن لابد من الاشارة إلى ان الشاهد بعد عدة عقود من النفي والعزلة لا يروي حقيقة ما حدث، وقد يروي ما يتذكره عن الحادثة. ولذلك نجد الكثير من الأنصار يستعينون برفاقهم لسد الفجوات وجعل الموضوع أكثر مصداقية. هنا الراوي الأول هو الأساس، بعد ان بادر ولملم أطراف الحادثة وتبأر مكانا داخل موضوعها، مع ادراكه المسبق انه ليس الراوي الوحيد. وكان كلما كثر رواة الحادثة الواحدة كثرت التفاصيل الجديدة، وارتبك تتابع السرد. فمع الحذف والاضافة تتعرض الحادثة إلى عملية مونتاج قد لا تبقي من رواية الشاهد الأول للحادثة سوى اطارها العام.  وبالتالي فإن رواية من شهد الحادثة عن قرب، ومن رواها عن بُعد، كلاهما يلجأ إلى المونتاج، بعد عقود على نهاية الاحداث. 

في مقاله (ما بعد بشتاشان) يتناول الكاتب "زكي رضا" طبيعة المعاناة والتضامن عند العراقيّين الذين يعيشون في إيران، بعد سماعهم بالأحداث المؤسفة لرفاقهم في الجبال. فتح فيها الكاتب نافذة على حياة المنفيّين والمهجّرين، واستطاع نقل حادثة بشتاشان من زمان ومكان وقوعها إلى السياق الوطني العام. كشف الكاتب في مقاله عن التغييرات والتنقلات التي اجراها "أوك" لكوادره في إيران بقوله ان (احد نتائج جريمة پشتاشان ونحن في إيران هي زيارة عناصر الإتحاد الوطني المقيمين في طهران الى العراق وعودتهم منه بسلام بعد فترة من الزمن) ليصل الكاتب إلى نفس النتائج التي وصل إليها الأنصار بالجبال، فيقول ان (جريمة پشتاشان عربون منهم (أوك) للسلطة البعثية في إقامة علاقات معهم، وهذا ما فتح بابا لأعضائهم في زيارة العراق). مثال آخر على حضور الآخر في السرديّة الانصاريّة نجده في رواية سلام إبراهيم التسجيليّة "في باطن الجحيم" وهو يروى شهادة جندي عراقي متجحفل مع القوات الحكوميّة، كان قد شاهد بعينيه ما حدث للعوائل المؤنفلة عام (1988) من اعتداء وانتهاك لإنسانيتهم، قبل ان يغيبوا للأبد. وهناك رواية منشورة للكاتب راسم الحديثي "غيمة آمال" تناول فيها عملية اعدام لنصيرة "حامل" في سجون الديكتاتور. المؤلف له ظروف حياتيّة مختلفة، ولكنه تناولها كجزء من الهم الوطني العام.

ونختم بالقول ان موضوع مَنْ شهد الحادثة، ومَنْ رواها عن بُعد، ما زال عويصا وغير متفق عليه بين الانصار، بسبب كثرة الرواة وتضخم الحوادث بمعلومات يعتبرونها زائدة. وليس مصادفة ان يثير ذلك حفيظة أصحاب الذّاكرات "النشطة" والرواة الأوائل، ويدفعهم للبحث عن خطوط فاصلة بين (كتابات الانصار، وكتابات عن الأنصار). وهذا ليس جديدا في سوح النضال، فبعد انتهاء التظاهرات المصريّة التي اسقطت نظام "حسني مبارك" وانتشار الكتابات التوثيقيّة عنها، لجأ الذين شاركوا بنشاطٍ في التظاهرات إلى الفصل بين (كتابات الثورة، وكتابات عن الثورة) وجد الوطنيون المصريون في هذا الفصل نتفة من الحساسيّة والنرجسيّة، يأخذ من الفعالية أكثر مما يعطيها.