وصلتُ الى كردستان العراق ضمن مجموعةٍ من الرفاق زادت على الستين رفيقاً، قادمينَ من سوريا وعبر سلسلة الجبال التركية في الشهر التاسع من عام1981، بمسيرةٍ طويلةٍ دامت لأكثرَ من ثلاثة أسابيع، مشياً على الأقدام، وكانت أول قاعدة وصلنا إليها هي قاعة (بهدنان).  وبعد استراحة دامت أسبوعاً، واصل بعضُنا المسيرة نحو قاعدة (ناوزنك) الواقعة في سلسلة الجبال التي تفصل العراق عن ايران، حيث توجد إذاعة الحزب. وبعد مسيرة اسبوع وصلنا الى (ناوزنك)ً. بعد شهر من وصولنا إلى القاعدة إتصل بي الرفيق (مهدي عبد الكريم) أبو قيصر، وهو عضواللجنة المركزية للحزب ومسؤول الإذاعة بعد انتقال الرفيق (بهاء الدين نوري) الذي كان مسؤولاً عن الإذاعة الى مَهمةٍ عسكريةٍ في قيادة مفرزة من الأنصار. سألني (أبو قيصر) عن إمكانية مساهمتي بالإذاعة كمذيعٍ أو محرّر، فوافقتُ على ذلك وقد ملأني السرور بأن أساهمَ في هذا الصرح الثقافي والتحريضي الهام، والذي بدأ ينشرُ آراء الحزب وسياساتهِ بين الجماهير التي كانت تستمعُ الى الإذاعة وتوافينا بتقارير كاملةٍ عن نضالات الجماهير ضد النظام الدكتاتوري الفاشي.

إنضممتُ إلى هيئة تحرير (إذاعة صوت الشعب العراقي) كمحرّرٍ ومذيع، وكان يعملُ في الهيئة قبلي كلٌ من الرفاق (عواد ناصرأبو نصير وكاظم الموسوي أبو بشير وأبوواثق) الذي لا أتذكر اسمه الصريح الآن. كنا أنا وعواد ناصر وكاظم الموسوي مذيعين ومحررين، وكان أبو واثق مخرجاً، وقد كُلّفتُ أيضاً بالإشراف اللغوي على المواد وتصحيحها لغوياً. واستمر عملنا بعقد إجتماعٍ يومي في الساعة العاشرة من صباح كل يوم لهيئة تحرير الإذاعة بقيادة الرفيق (أبو قيصر) تُقرُّ به المواد التي كنا نحرّرُها بالإضافة الى كلمة الإذاعة التي كان يكتبُها المكتب السياسي. وبعد توزيع المواد علينا نبدأ التمرين عليها للتسجيل. كنّا نسجل المواد على كاسيت بمساعدة أحد مهندسي الإذاعة صباحاً ويتم البث مساءً عند حلول الظلام، لعدم تمكننا من البث صباحاً خوفاً من رصد الطائرات العراقية لمحولات الإذاعة وأبراجها، وكان يوجد في الإذاعة أربعة مهندسين، وهم: (صارم، الشهيد عمار، أبوسهيل وأبو دجلة) وهذه أسماؤهم الحركية لعدم معرفتي بأسمائهم الصريحة لحد الآن. وبعد عدة أشهر انتقل الرفيق (كاظم الموسوي) أبو بشير إلى قاعدة أخرى وأخذ يبعث إلينا بتقارير عن نشاطات القواعد الأخرى. إعتدنا أنا (أبوجاسم وعواد ناصرأبو نصير) بكتابة المواد وتسجيلها يومياً صباحاً، في استوديو هو عبارة عن غرفة من الطين وضعت على جدرانها بطانيات سميكة لكي لا يتسربُ الصوت الى الداخل. وكان أحد المهندسين يرافقنا للتسجيل وضبط الصوت ومسح الأخطاء التي تحصل أثناء الإلقاء، بواسطة جهاز تسجيل كبير وعلى كاسيتات عادية. في صيف عام 1982 غادرنا الرفيق عواد ناصر الى سورية عن طريق إيران، وقبل هذا الوقت التحق بالإذاعة الرفيق (جاسم طلال) والذي سمّى نفسهُ بالإسم الحركي( جاسم) إمعاناً بالسرية كما يُقالُ. فأصبح في الإذاعة أبو جاسم وهو أنا وجاسم.

عمل جاسم مذيعاً وبالإخراج الإذاعي، إذ كان يتمتع بصوت جهوري سجّلَ لازمة الإذاعة بصوتِهِ والتي تفتتحُ بها الإذاعةُ يومياً ،وهي تقول (هنا صوت الشعب العراقي، صوت العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين الخ).

في هذه الصورة الرفيق (عواد ناصر أبو نصير وأنا محمد حسن الشرقي أبو جاسم) ونحن في الإستوديو إستعداداً لتسجيل بعض المواد بغية إذاعتها في المساء  صيف عام 1981.

في هذه الصورة أنا (محمد حسن الشرقي) في غرفة التسجيل وأثناء تسجيل احدى المواد .

ويوجد في الإذاعة أيضاً القسم الكردي إذ كانَ فيه بعض الرفاق المذيعين والمحررين المسؤولين عن تسجيل المواد وإذاعتها باللغة الكردية، ويكون بثُّها بعد بث المواد العربية مباشرةً. وأذكر من رفاق القسم الكردي الرفاق (شاخوان وآوات والرفيق العقراوي). أما عن المواد التي تُذاع فكنا نبتدأُ الإذاعة يومياً بكلمة الإذاعة ويحرّرها المكتب السياسي ثمّ نعقُبُها بنشرة الأخبار التي كانت تتضمن نشاطات قطعاتِنا العسكرية وأخبار نضالات جماهيرنا في الداخل ضدَّ الطغمة الحاكمة. كما كنا نذيعُ الأشعار التحريضية واخبار رفاقنا في غياهب سجون النظام ورسائل التضامن التي تردنا من الأحزاب التقدمية في العالم. كما كنا نذيعُ برنامجاً باللغة العامية إسمهُ (حچاية لخوتنا الفلح) وكان يقدمُهُ الرفيق (محمد القيسي). وقد أعددنا برامجَ خاصةً نساندُ بها انتفاضات جماهيرنا مثل إنتفاضة (قلعة دزه) البطولية، كما كنا نذيعُ مواداً ضد الحرب التي بدأها (صدام حسين) ضد إيران والأطماع الإيرانية وراء استمرار الحرب وعدم قبول ايران بمطلب إيقافها.  كانت الخدمة الرفاقية توزع حسب جدولٍ خاص على الرفاق، إلا أن الرفيق الفنان (حمودي شربة) أبو سنان الذي كان يُمتعُنا بأماسيه الغنائية الجميلة، كان متميزاً بإعداد الوجبات اللذيذة، وكنا نستنجدُ بهِ عند قدوم الضيوف، وأذكر مرةً كُلّفَ بالطبخ عند استضافة (جلال الطالباني) في القاعدة إذ كانت مقراتهم تقع قرب مقراتنا، وللأسف لم (يغزّر) به ملح طعامنا ولا كرمُ ضيافتِنا.

كانت الأجواءُ التي تسود الإذاعةَ رفاقيّةً مبنيةً على التعاون والإيثار. وقد كنا نشيعُ روح الفكاهة بيننا حتى نتغلب على الظروف القاسية التي نعيشُ بها. وأذكرُ مرةً إتفقنا على تأليف أغنيةً اشتركنا بها أسميناها نشيد الإذاعة، وقد أسبغنا عليها لحن أغنية سميرة توفيق (بيت الشعر يلمبني) وأغنيتُنا الفكاهية تستوحي ظروف الحرب العراقية الإيرانية، التي كنا نسمع دوي مدافعها  يتردّدُ في أرجاء القاعدة، وهي تقول مخاطبةً الرفيق (أبا العباس(( لا تهتم يابو عبّاس  باچر صدّام يولي.. بالليل ياعيني بالليل..  ونعيش بحكم الآيات وأنعل جدّه الميصلّي.. بالليل يا عيني بالليل  .. طارق حمد العبد الله  على درب الشرده  يدلّي.. بالليل يا عيني بالليل.. وما يرجع لكردستان   إلاّ العقله  ترلّلي..  بالليل يا عيني بالليل..).

والطريف بالأمر، دعونا المكتب السياسي على وجبة عشاء طبخها (أبو سنان) واتفقنا أن نغني لهم الأغنية، وفعلاً عند حضور الرفاق بدأنا بالغناء وبلحنٍ واحد وكنا خمسة رفاق،مما أثارَ الضحك لفترة طويلة، وأذكر أنّ عيون الرفاق عزيز محمد وثابت حبيب العاني وماجد عبد الرضا ومهدي عبد الكريم قد أشرقت بالدمع على الموقف الفكاهي هذا.

كانت الإذاعة تعمل بواسطة (ماطور) ضخم لتوليد الطاقة يشتغل بالبانزين الذي كنّا نجلبهُ من إيران  ويدوم وقت الإذاعة ساعة كاملة.

هذه الصورة أخذت أثناء وجبة الغداء إذ كنا نأكل كل ثلاثة رفاق بصحنٍ واحد. في يسار الصورة (للناظر) ألمهندس أبو دجلة وبجانبه حمودي شربه وأمامه أنا أبو جاسم وجنبي الرفيق عقراوي من القسم الكردي وأمامه آوات من القسم الكردي. أُخذت عام 1982 .

هذه الصورة في إحدى غرف الإذاعة يبدو فيها على يسار الصورة الشهيد (عبد المطلب كمال العزاوي أبو سعيد) وقد حلَّ عليَّ ضيفاً عزيزاً. تربطني بالشهيد علاقة صداقة وثيقة، إذ أننا كنا سويةً مدرسينِ في الجزائر قبل تطوعنا في الأنصار، وقد قدمنا الى سوريا من الجزائر على نفس الطائرة مع عدد من الرفاق. أخذت عام 1982

كان الرفيق (جاسم) المخرج مبدعاً في اختيار الأغاني الحماسية الثورية كفواصل بين مواد الإذاعة وتبعاً لطبيعة المادة، إذ كان يبث لنا أغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام وغيرهم من الفنانين الثوريين، مستفيدا من عمله السابق بإذاعة إحدى المنظمات الفلسطينية قبل التحاقه بالأنصار.

كان تفاعل الجماهير مع الإذاعة كبيراً، إذ كانت تردنا رسائل كثيرة تُظهرُ التفاعل الكبير مع الإذاعة والمواد التي تذاع فيها، كما كانت الرسائل تطالبنا بإضافة بعض البرامج التي تتضامن مع السجناء والمختطفين وإذاعة أسمائهم وتحذير النظام وأجهزته الأمنية من إلحاق الأذى بالسجناء وتحميل النظام كامل المسؤولية عن ذلك. وبعد سقوط النظام عام2003 وسفرنا الى العراق أخبرنا الرفاق والأصدقاء بمدى تأثير الإذاعة ودورها التحريضي بين الجماهير، وقد ذكروا لنا بأنهم كانوا يسجلون موادها ويوزعونها  على الناس.

في نهاية عام 1982 وفي الشهر العاشر على ما أتذكر، جاءنا أمرٌ من القيادة بوجوب الإنتقال من قاعدتنا هذه (ناوزنك) التي أصبحت قريبةً من ساحات المعارك الدائرة بين الأكراد الإيرانيين والنظام الإيراني وأصبحت محاطةً بالمخاطر، إلى (بشتاشان) التي تبعد عن هذه القاعدة مسيرةَ يومٍ كامل. وفعلاً حملنا أثقالنا ووضعنا الإذاعةَ على البغال وتوجهنا راجلين الى (بشتاشان). وصلناها فجراً واتخذنا أماكنَ معدة لنا مسبقاً كغرفة التحرير وغرفة التسجيل. واستمررنا بالإذاعة في هذا الوادي البهي الذي تحيط به عيون الماء والأشجار المثمرة من كل جانب.

استمرَّ عملنا في بشتاشان بعد أن التحق بنا رفاقٌ جدد. وفي الأول من أيار ١٩٨٣ حصلت جريمة بشتاشان المشؤومة من قبل الإتحاد الوطني وبأمر مباشر من المجرم (جلال الطالباني) وتنفيذ المجرم (ناو شيروان). وهنا جاءنا أمر من قيادة الحزب بحرق الإذاعة حتى لا تقع بأيديهم والإنسحاب عبر جبل قنديل الى إيران. وقد تمّ ذلك وانتهى الفصل الأول من تاريخ إذاعة صوت الشعب العراقي بعد بث يومي استمرَّ لأكثر من ثلاث سنوات. في الحلقة القادمة كيف جلب الحزب إذاعةً جديدة وكيف تمَّ العمل فيها والأماكن التي تواجدت بها الإذاعة.