فى هذه الذكريات غابت اسماء كثيرة بسبب خيانة الذاكرة

الدخول إلى الوطن

عندما عبرنا نهر دجلة، استقبلنا ادلاء الطريق لإيصالنا إلى أقرب قاعدة للرفاق. كنّا اربع أو خمس رفيقات على ما اذكر . الطريق وعر جدا، وكنا نمشي على حافة المنحدرات. فى بداية المسير كنا فخورين وفرحين بانفسنا، تأخذنا الحماسة ونحن نجري خلف الدليل. ساعة بعد أخرى، كانت سرعتنا تقل وأرجلنا تثقل، وكان الجميع يمشي ويسأل: متى نصل وكم بقي من الطريق الذي نسلكه ؟. بدأ صوت يعلو (رفاق ما شوفن)  (ما شوفن)! قال لها الدليل أمسكى يدي حتى لا تسقطين فى الظلام ، فى الواقع لم يكن يمسك بيدها بل كان يسحبها من يدها (رفيق خوية ما شوفن عل كيفك)، سألها بعد ان نفذ صبره (لماذا اتيت إلى هنا وأنت ما تشوفين بالليل)؟!، فردت عليه الرفيقة ولو اريد اخدم الرفاق وأساعدهم،  صمت الدليل ولم يرد وأوصلها من يدها إلى الرفاق فى اول قاعدة.

زهير الجزائري

فى قاعده ناوزنك فى مقر الإذاعة، اقترح أبو نصير ان نبني لنا تواليت متحضر أفضل من الذهاب إلى شعاب الجبال والتعرض لخطر الافاعي والعقارب. اختير موقع التواليت على حافة الجبل كي تسقط الفضلات فى الوادي . وضع له الرفاق عمودين من خشب وبطانية قديمة سوداء تستخدم كـ(باب).

عندما رأى الرفيق أبو نصير الهاوية خلفه خرج علينا باقتراح جديد حفاظا عل ارواح الرفاق من السقوط، وهو ان يوضع على الجانبين حبل نتمسك به حتى لا نسقط من شدة الانحدار فى الهاوية، وفعلا جرى الأخذ  بالمقترح التكميلي  ووضع حبل على الجانبين.

أنا وزوجى

فى احدى المرات دخلت مفرزتنا ليلا الى قرية، ولما اردنا المبيت في الجامع، رفضوا مبيت النصيرات هناك ووزعونا على البيوت!.

فى البيت الذي أخذونا اليه، كانت الزوجة قد ولدت قبل يوم أو يومين وكانت لاتزال طريحة الفراش وبجانبها فى المهد طفلها، اعطونا لحاف ونمنا بجانب غرفتهم. عند الفجر لم نجد احدا في البيت، خرجنا عل عجل ونحن نفكر أين ذهبت هذه المرأة وطفلها، هل هناك تقدم للجيش أو للجحوش، لماذا تركونا وحدنا وهربوا من البيت؟!.

خرجنا بسرعة والقرية مازالت نائمة ورفاقنا في الجامع. عندما اشرقت الشمس، جاء اهل البيت واعتذروا منّا وقالوا: (اعذرونا لم نستطع النوم ليلا من شدة شخير الرفيق فذهبنا إلى جارنا ونمنا هناك)!.

الساق المكسورة

كانت معنا فى القاعدة رفيقة عازبة، جميلة وذكية ولبقة ولطيفة وفي عمر الزهور .فى احدى المرات وهى تجلب الماء من العين سقطت وانكسرت ساقها. جلست فى القاعة لمده شهر تقريبا، ساقها ملفوفة بالخشب. كانت تشعر بمعاناة حقيقية خاصة الذهاب إلى الحمام أو الاستحمام، فاختير اكبر الرفاق سنا لأخذها إلى التواليت، يضعها فى المكان المخصص وينتظر بعيدا، ثم يعيدها الى القاعة أما حاملا لها أو متكأة عل كتفه.

بعد عدة أيام من هذه الحادثة، صرخ احد الرفاق ان ساقيه لم تعد تقوى عل حمله وتمدد فى القاعة أمام الرفيقة صاحبة الساق المكسورة!!.  تحدث معه الجميع، وفحصه الطبيب، فلم يعثر على اي عارض مرضي يجعله طريح الفراش، فراح الرفاق يتهامسون ويضحكون ويغنوان (احب من يكَعد اكَبالي..................).

فنانة محترفة

كانت معنا فى القاعدة فنانة محترفة ومبدعة ولها الكثير من غرائب المواقف. كانت دائما توحي لمن يراها انها قلقة من دون سبب محدد .

كنّا نقتسم القاعة حيث ننام، فى احدى الليالي قريب الفجر نهضت من نومها وذهبت إلى الحرس وسألته (كم الساعة الان)؟!، تفاجأ الحرس من سؤالها!. فى اليوم التالي قدم الرفيق الحرس شكوى عليها عند امر الفصيل متهما إياها بانها كانت (تعاكسه وتتحرش به) فلا يوجد سبب يجعلها تسأله عن الوقت وتعود الى النوم!.

البشتين

للبشتين عدة فوائد واستخدامات، بشتين الرفيقات كان دائما اقصر طولا من بشتين الرفاق، فى حالات كثيرة يُقطع كحفاظات لايام الدورة الشهرية.

فى الشتاء القاسي والثلوج غطت كل شيء، يصعب تنظيف الحافظات وتجفيفها، فقررت الرفيقة التخلص منها بدفنها تحت الثلج الكثيف. بعد اقل من ساعة نبح كلب، فاجتمعت الكلاب وعلا نباحها وراحت تنبش الارض بحثا عن رائحة الدم!.

معركة بشتاشان

على جبل قنديل اثناء الانسحاب المر، كانت ملابس الرفيقة المسرعة امامي ملطخة بالدم، كان الشروال ينز دما  وهى تمشي مسرعة، وكان الجميع يحاول ايقافها وسؤالها عن بقع الدم هل انت جريحة مصابة برصاصة أم ماذا!؟. قالت: لا تخافوا، انها الدورة الشهرية، ليس وقتها الان، ولكن ربما من الصدمة، من الخوف، من الارتباك!!.

قبل أيام من الأول من آيار ولدت الرفيقة لينا ابنها طارق، على سفح قنديل رفيقان يسحبونها من يديها، وهى بالكاد تستطيع الوقوف. كانت تبكي طوال الطريق، والطفل يبكي، لونه اقرب إلى الأخضر المزرق من البرد والجوع، حليبها كان قد جف، الشهيد أبو ظفر قريبا منا أخذ الطفل وعمل له مساج ولفه بقمصلة احد الرفاق، أخذ حفنة ثلج من الطريق فركها بكفيه ونفخ فيها لإزالة الشوائب ووضع قطرات الماء فى فم الطفل.

حمل احد الرفاق الطفل وسار به، وبين ساعة وأخرى يعيد الشهيد أبو ظفر فرك الثلج وتقطير الماء فى فمه حتى انقذ حياته!.

كانت معنا على قنديل عائلة  قادمة من منطقة النبي يونس، أم وطفلان. انسحبت الزوجة والطفلان اللذان كانا بعمر سنتين واربع سنوات وتركوا والدهم في ساحة المعركة. الأطفال لا يستطيعون المشي والأم كانت مذهولة لا تعرف ماذا تفعل، وقفت فى بداية الطريق وقالت: لا أستطيع الصعود ولا استطيع العودة إلى القاعدة!. الرفاق الذين كانوا معها اتفقوا على حمل الاطفال، كل رفيق يحمل طفلا لمدة ساعة ثم يسلمه الى الاخر وهكذا....!!. كلما صعدنا نحو القمة، كلما تقلصت الساعة حتى اصبح حمل الاطفال كل نصف ساعة!، لقد انهك الرفاق الجوع والبرد وحمل الاثقال!، وكانت الام النحيفةتركض خلف وبين الرفاق الذين يحملون طفليها حتى السفح الاخر من قنديل الذي وصلناه في اليوم الثاني.

أم خولة (لها الذكر العطر)

عبرت قنديل قبل يوم مع زوجها، ولكنها لم تستطع السير والصعود، لذلك رجعت إلى القاعدة، ثم عبرت معنا فى اليوم الثاني. كانت صامتة كما لو انها واثقة من انها ذاهبة للموت أو المجهول، حتى وصلنا إلى سفح نهبط منه الى قرية آمنة. السفح الذي ننزل منه كان مغطى بالثلوج، فكانت مسيرتنا صعبة ومرهقة جدا. جلست ام خولة على الأرض ووضعت يدها عل عينيها ودفعت بنفسها إلى الأسفل متزحلقة!. لحسن الحظ ان اندفاعها لم يكن سريعا، ولم تصطدم بحجر ، فكسبت نصف طريق!!.

الشهيد أبو كريم

فى بهدينان إلتقينا بشخصية فريدة، عندما يُذكر اسمه، يبتسم الجميع. النكتة عنده موقف، لا يتجاوز على احد أو يمس مشاعر احد. كانت الرفيقة تخبز عل الصاج فى وسط القاعدة ومنهمكة بفتح العجين بالعصا ويلفح وجهها لهيب نار الصاج وحرارته. أبو كريم يراقب حركاتها، وفجأة صاح: (رفيقة حركاتك تسوا كل حركات التحرر فى العالم)!.

ذهبنا معه إلى ناوزنك، كان يحمل فى (عليجته) بعض أنواع الهدايا مثل علبة نيفيا، صابونة، أزرار... الخ. دخلنا الى احدى القرى، فخرج أهلها فرحين ب(أبو كريم)، الذي أوقفهم في طابور واخرج علبه ا(النيفيا) وراح يضع قليلا منها على وجوه النساء والاطفال!.