كنت في حيرة معه. لهُ ستّ روايات واحدة لا تشبه الأخرى لا بالأسلوب ولا باللغة ولا بالثيمات، كما لو أن كل واحدة لكاتب مختلف. حازت على اهتمام الجانب الأكاديمي، حيث قُدمت عنها اطروحات للماجستير والدكتوراه. كما يكتب القصة القصيرة والسيناريو، وتكاد كل رواياته متضمنة للسيناريو بنوعيه الأدبي والفني. كنت أعرف عنه أنه إلتحق بتشكيلات الأنصار الشيوعيين 1983 وشارك بمهام عسكرية وسياسية كثيرة حتى انتدب آمراً للسرية الثانية للفوج الأول. وما زاد في حيرتي، أني سمعته في إحدى الندوات يقول (أنه تعرف على المدرسة لأول مرة في الصف الرابع الابتدائي، قادماً من مراكز محو الأمية). مازحته بالسؤال: أنت شنو؟! من أنت..؟!

رد عليّ وهو يضحك: هل تعرف أن هذا أصعب سؤال..؟ من هذا الذي يمتلك مهارة الادعاء: هذا أنا.. دون أن يقع في مطب الخيال والكذب..  اعبر على هذا السؤال..!

ـ إذن، لنقل متى بدأت الكتابة.. ما الذي حفزك.. ماهي الظروف والعوامل التي ساعدت في ذلك..؟

ـ علاقتي بالكتابة جاءت من الطريقة التي كنت أكتب بها الرسائل إلى أصدقائي حين كنت ضمن تشكيلات الأنصار في الجبل. لم نحظ حينها كما تعرف بترف الموبايل وما معروف الآن من وسائل التواصل. وبسبب تشتت الأصدقاء في قواطع عمليات مختلفة، المسافة بين قاطع وآخر تحسب بالأيام لا بالساعات، فكانت الرسائل التي تنقلها البغال مع الأحمال وسيلة تواصل لا غنى عنها. وجد بعضهم في تلك الرسائل التي كنت أكتبها اشياء أكثر من كونها رسائلاً، وجدوا فيها نصوصاً أدبية لها طعم خاص. أغلبهم مثقفون وقراء لم تنقصهم الذائقة الأدبية والفنية. قالوا أنت لا تكتب رسائلاً بل نصوصاً أدبية نستمتع بقراءتها. وهذه كانت المرة الأولى التي اكتشفت أن لي قدرة على الكتابة الأدبية. أكثر من هذا وهو المهم، كنت أشعر خلال الكتابة بمتعة وشغف لم أتعرف عليهما بأي وسيلة أخرى. شيء يشبه التعويض عن قسوة وجفاف حياتنا في تلك الجبال المنقطعة عن الحياة. سأفهم فيما بعد أن متعة الكتابة هي متعة الخلق، بالنسبة للفنان والأديب. متعة لا تشبه أي متعة أخرى من متع الوجود. وهي سبب الإدمان عليها. ظللت أكتب لنفسي ولبعض الأصدقاء، حتى جاء من دلني على وسائل النشر.

* جميل. لكن ما لفت انتباهي في رواياتك الست وأنا قرأتها كلها، كذلك في النصوص المتفرقة التي تكتبها؛ الاختلاف بين واحدة والأخرى ليس فقط في المواضيع والثيمات، بل بالأسلوب واللغة كذلك. هل أقول غياب البصمة التي تميزك عن غيرك..؟

 

ـ ربما يكون هذا من أهم اسئلتك. الاختلاف الذي أشرت له يتعلق بفهمي للغة الرواية. ما المقصود بلغة الرواية.. هل هي لغة الكاتب.. هل هي لغة الشعر.. هل هي لغة الثقافة المتداولة.. هل هي لغة الصحافة التي يُراد لها أن تكون (لغة ثالثة) بين العامية والفصحى..؟ من هذه الأسئلة أنطلق الناقد الروسي الكبير (ميخائيل باختين) في تعريفه للغة الرواية؛ وأنا معجب بمدرسة هذا الرجل، قائلاً؛ أنها نظام لغوي كلي يجمع في داخله مجموعة أنساق كلامية فرعية هي لغات ولكنات كثيرة؛ يدخل ضمنها لغات (لكنات) الشخصيات، لغة الشعر، الدين، الغناء، الرسائل، كلائش مؤسسات الدولة الرسمية، المهن والحرف المختلفة..إلخ ولن تكون لغة الكاتب سوى فرع من تلك الفروع.

وإذا الخيال وسيلة كاتب الرواية الأرأس في الكتابة، فلهذا الخيال شكلان متمايزان، الأول خيال الكاتب نفسه والثاني وهو الأهم هنا؛ خيال المفردة. المفردة كائن حي. لها ماض وحاضر ومستقبل، إضافة إلى ارتباطها بمن ينطقها. دلالة نفس المفردة حين ينطقها هذا تختلف عن دلالتها حين ينطقها آخر. كل هذه الانساق وغيرها داخل النص تفقد طهارتها لصالح النص. عملية تهجين شاملة مقادة بحرفية الكاتب القادر على خلق الانسجام من هذا التنوع. يحدث هذا لأن حياة البشر الذين هم أعمدة النصوص الروائية، ما زالت تُخاض بلهجات ولكنات ولغات كثيرة ليس من بينها لغة القراءة (لغة الكاتب). وبالتالي ومن باب الصدق الفني؛ أن يحترم الكاتب شخصياته ويدعها تعبر عن ذواتها بطرقها ولكناتها، لا أن يسلبها هذا الحق ويمنحها لغته هو (لغة القراءة). إن فعلها يكون قد حكم عليها بالموت داخل النص. كما جعل من نفسه الشخصية الوحيدة داخل الرواية. وهذا ما حاولت الابتعاد عنه في كل أعمالي. جعلت معيار نجاحي بكتابة رواية، هو مدى تمكني من خلق نظام لغوي منسجم وله جماليته وإبهاره من مجموعة أنساق كلامية تبدو متباعدة وحتى متنافرة.

أما الأسلوب الذي سألت عنه؛ فوفق هذا الفهم للغة الرواية، من المفترض أن يكون لكل رواية أسلوبها المختلف عن غيرها. يأتي الأسلوب هنا ليس بوصفه أسلوب الكاتب، بل جزء لا يتجزأ من النظام الكلي لهذه الرواية أو تلك. الأسلوب حسب (باختين) شيء مضمر داخل اللغة. لهذا حين أقرأ لكاتب عدداً من الروايات مكتوبة بذات الأسلوب واللغة إلى الحد الذي يجعلني أتعرف عليه دون أن أرى اسمه مكتوباً على صدر الكتاب.. سأقول أن هذا الكاتب قد توقف.. قد مات كمبدع وها هو يكرر نفسه. وللأسف هذا يحدث كثيراً، لأن مفهوم الأسلوب وصلنا عبر النقاد بطرق مشوهة ومزيفة أحياناً، منها القول أن الأسلوب هو بصمة الكاتب الشخصية وهذه لا تتغير. في الحقيقة ستكون للكاتب بصمة وهذا مؤكد، لكنها ليست في الأسلوب، بل في إدارة العمل، في الكيفية التي يجعل فيها المضمون يخلق شكله. المتن يشكّل إطاره، وليس العكس.

* بعض رواياتك حضيت باهتمام الجانب الاكاديمي انجزت حولها اطروحات للماجستير والدكتوراه هل من الممكن توضيح ذلك ولو باختصار ؟

ـ صحيح. هناك ثلاث أطاريح للماجستير ورابعة للدكتوراه تقدم بها طالبات وطلاب في جامعات عراقية مختلفة. أثنان منها اقتصرت على أعمالي فقط، وواحدة اعتمدت على رواية حصار العنكبوت من بين روايات أخرى لعراقيين وعرب، والدكتوراه كذلك اتخذت من رواية حصار العنكبوت نموذجاً للرواية التي تتضمن لسيناريو فني في داخلها، من بين روايات عراقية وعربية أخرى تضمنت السيناريو الأدبي فقط.

* على ذكر السيناريو.. أنا الآخر جلب انتباهي وجود السيناريو حاضراً في كل رواياتك وليس فقط في حصار العنكبوت.

ـ هذا لأني أعشق كتابة السيناريو ربما أكثر من الرواية. لقد درسته بشكل شخصي دراسة متأنية. ألممت بالتجارب العالمية عبر مصادر مهمة، الأمريكية، الفرنسية، الإيطالية، والمصرية. لي تجارب عملية في كتابة السيناريو. أصلاً رواية (حصار العنكبوت) كتبتها في البدء على شكل سيناريو لمسلسل من أربعين حلقة. كذلك رواية (قرابين الظهيرة) كتبت منها قرابة 120 مشهد، قبل أن أحولها إلى رواية. لكن لأسباب شخصية تتعلق بافتقاري لمهارات الانسجام مع الشللية في العمل السينمائي المحكوم بعصبويات واخوانيات مقيتة، منحت جهدي كله للرواية والقصة القصيرة والنص المفتوح. عمل يعتمد الجهد الفردي غير مرتبط بأمزجة غيرك.

* وما هي حكاية محو الأمية التي ذكرتها في الندوة..؟

أنها حكاية تخص أبي. كان اسمه الحقيقي من الأسماء المطلوبة أثناء إنقلاب شباط 1963. كان شيوعياً. بحث عن وسيلة للهروب من الاعتقال والموت؛ فاتخذ لنفسه وثائقاً ثبوتية باسم مختلف عائد لشخص آخر. مناورة أنقذته مرتين من الاعتقال. لكن، لا أدري لماذا هو استمر على استعماله لذاك الاسم. وحين قارب عمري العشر سنوات وأنا بلا وثائق وبلا مدرسة انتبه إلى جنايته بحقي. أخرج لي أخيراً جنسية بالاسم الجديد. قبلوني في البدء لكبر سني في مركز لمحو الأمية خلال العطلة الصيفية لتعلم القراءة والكتابة، ومع بدء العام الدراسي الجديد، نسبوني إلى الصف الرابع. بفضله لم أمر بمرحلة (دار دور وقدري قاد بقرنا).

* أخيراً؛ ما الذي تركته تجربة الأنصار من أثر على كتاباتك الابداعية..؟

 

ـ كتابة الرواية بلا تجربة حياتية حقيقية لن تكون سوى خواء مضروب في نفسه. تجربة الأنصار بالنسبة لي كانت تجربة استثنائية، هي حتى أكثر استثنائية من تجربتي حين كنت جندياً على جبهات الحرب العراقية الإيرانية. شحذت في داخلي الأحاسيس إلى مدياتها القصوى. كأن أشعر بالخوف المرعب قبل القتال ليعقبه استعداد مذهل للإقدام على الموت. أو أن ينهش الجوع أحشائك من الداخل، ثم ينقلب إلى سعادة بمجرد حصولك على رغيف خبز. أو تعطش خلال المسيرات الجبلية الطويلة إلى حد إحساسك أن عروقك نشفت لينقلب هذا الإحساس إلى سعادة ما أن تصل إلى عين ماء جبلية. ولا أريد الحديث عن قسوة الحرمان الجنسي وما يخلقه من أخيلة مجنونة لكيفيات التعامل مع جسد المرأة. هذه وغيرها شكلت لي ذخيرة هائلة في الكتابة