إن تجربة الأنصار مرحلة تاريخية مميزة ومهمة في المسيرة النضالية للشيوعيين العراقيين .

والحديث عن مآثر الأبطال الأنصار لا تغنيها هذه السطور والعبارات القليلة والغير منتظمة. إنهم حقا أسطورة عراقية يتذكرها كل من عاش تلك التجربة عن قرب رغم مرور السنين وصعوبة هذا الزمن، لكن صور وهمسات وأحاديث الرفاق الشهداء متعمقة في الذاكرة .

وعندما نختصر الحديث عن شهداء هيركي، فتكون صورة الرفيق سليم امامي، هذا الإنسان هو العراق الحزين وصاحب الجرح العميق، يبتسم لكنه في تردد، واصبح الصمت ابرز ما يميزه، بحيث تستطيع ان تعرف ما يريد ان يقوله وهو صامت. كان قليل الكلام، كثير العمل، وقد استلم مسؤوليات عديدة واكتسب حب الرفاق في مبدئيته وحرصه وإخلاصة بالعمل .

وكان سليم اداري للسرية، ومن خلال عمله حرص على توفير ما يحتاجه الرفاق من السكاير والمعلبات ووجبة اللحم التي تكاد تكون نادرة، وحافظ على ميزانية تكفي لسداد مستلزمات العمل العسكري . وبهذا الصدد اذكر طرفة صغيرة تنم عن ذكاء وحسن التصرف للرفيق سليم .

في احدى أيام الشتاء القارس، في بداية العام 1982، كانت السرية في جولة لقرى (دشتة زيه) وهي قريبة من الشارع والمواقع العسكرية الحكومية، وقد غادرنا القرية كالعادة في الظلام قبل الفجر لأسباب امنية ومعروفة للانصار في ذلك الوقت ، وفي الصباح جاءت مجموعة من شباب القرية يحملون (جدور) فيها أكل (من تمن وخبز)، وقد استلم الرفيق سليم (الجدورة)، وفي هذه الأثناء وجد احد الرفاق بيضة بأحد (الجدورة) وخبر الرفيق سليم عنها، هذا الخبر انتشر في السرية، فجاء صاحب العفاروف الثقيل وقال البيضة لي: لاني اتعب اكثر، وبعده جاء صاحب (ار بي جي) وأيضا ابو الدكتريوف وقالوا نفس الكلام، يعني البيضة تكون لواحد منهم، وكان الكل ينتظر جواب الرفيق سليم ، فاخذ الإداري الرفيق سليم البيضة، قشرها وقطعها قطع صغيرة وخلطها مع التمن وصارت للكل فضحك الجميع والكل راضي. في هذه الأثناء نظرت اليه باعجاب فضحك ضحكته الجميلة الممزوجة بالحزن .

وعن الجانب العسكري، شارك الشهيد باغلب العمليات العسكرية، وكان من ابرزها عملية اقتحام سرسنك بأسلوب التسلل والمباغتة على ضوء المعلومات الواردة للسرية من الأصدقاء المتعاونين، وذلك في منتصف 1982، وكان العمل صعب وجديد ضمن الإمكانيات والخبرة البسيطة، حيث تحركت السرية في السادسة مساء ورجعت لمواقعها صباح اليوم الثاني. ومن خلال المداهمة لبيوت عناصر الاستخبارات حدثت مقاومة شديدة من بعضهم، وكان سليم في موقع يتوسط المعارك، واستمر القتال لفترة معينة، بعدها انسحبت السرية بالكامل ووصلت الى مكان الاستراحة والكل فرحان وسعيد بنجاح العملية، وكنا نتفقد بعضنا ولم نجد الرفيق سليم، فتحول الفرح الى حزن وخوف من ان يكون الرفيق سليم قد أستشهد، وانتاب الجميع القلق حتى وصلت المجموعة الأخيرة من الرفاق ومعهم سليم، فهرع الجميع له واخذوه بالاحضان والتقبيل، وقد عكس ذلك احترامنا وحبنا الكبير له رغم الاعتزاز الذي نكنه للرفاق الآخرين.

الرفيق سليم رغم كونه هادئ وقليل الكلام، لكنه لا يقبل على الخطأ، وكان يكبت في داخله الكثير من الملاحظات، وبحكم علاقتي به والتي تعززت بحكم العمل وتوافق الطباع، اكد لي في احدى الاستراحات ونحن نشرب الشاي وأمام النار، انه سوف لن يسكت بعد اليوم على التجاوزات في العمل داخل السرية وسوف أتحدث عنها مع المشرف القادم من القاطع للمشاركة في عملية واسعة لحصار مدينة العمادية مع حدك، التي تم الاعداد لها بشكل جيد، ولأول مرة السرية تستخدم مدافع الهاون 82 و60 وقد تم محاصرة العمادية لمدة يومين، وكان الرفيق سليم في مجموعة الهاون 60 المشتركة مع حدك وفي اليوم الثاني من العملية مساء طلب مني احد الرفاق ان ارافقه الى موقع مجموعة سليم، فوجدت ان احدى القذائف انفجرت قبل اطلاقها استشهد على اثرها الرفيق سليم واحد بيشمركة حدك في منظر مؤلم وحزين لجميع الرفاق.

وقد قمنا بدفنه في مقبرة هافندكة. رحل عنا الرفيق سليم، مجدا وخلودا للشهيد ولجميع الشهداء.