في بداية فصل الخريف من عام 1984  .. في شهر أب بالتحديد كنت مع الرفيق صباح كنجي ننوي النزول إلى قرى بن كند وخصوصاً قرية ختارة . بالنسبة ليٌ كنت سأنفذ بعض مواعيدي الحزبية في نفس المنطقة ، أما صباح فإنه وجد هناك حلقة وصل مع بعض الخطوط الحزبية في الموصل وغيرها من القرى الصغيرة المحيطة بالمدينة.

أثناء استعدادنا للمهمة من مخبأ في "هه رفطه"* وجدنا هناك تحركات مكثفة لسرية أنصار يقودها الرفيق الشهيد "أبو نصير الصغير"* مع  وجود الرفيق  صباح ياقو صادق "أبو ليلى" القائد الأنصاري المعروف  في المنطقة ، حيث كانت قوات الأنصار تستخدم منطقة وعرة بالقرب من مخبأنا عند تواجدها في المنطقة.

تساءلنا أنا وصباح فيما بيننا عن سبب هذه التحركات.. لكننا لم نصل إلى نتيجة، فتوجهنا إلى أبو نصير للاستفسار منه عن سبب هذه التحركات.. لكنه قال إن الأمر طبيعي جداً وخصوصاً نحن نتواجد في منطقة تستطيع قوات النظام الوصول إليها.. قلنا له مستفسرين: 

ـ ألا تنوون القيام بعمل عسكري..؟ أنكر ذلك بالمطلق، فقلنا له إنْ حدث ذلك فإنه يؤثر على طبيعة مهمتنا .. وقد يشكل خطراً علينا.

وثمة حاجة إلى القول أن الحرب العراقية الإيرانية كانت تستنزف المزيد من شبيبة العراق، بما في ذلك شبيبة مناطق التماس، والتحقت أعداد منهم في صفوف أنصارنا والقوى الأخرى، وزجت السلطات بكل طاقاتها من شرطة عسكرية ومدنية وعناصر حزبية وما يسمى بالجيش الشعبي في ساحات الحرب مع إيران.. كانت السلطات في المنطقة تمر في أضعف أوقاتها وفصائل أنصارنا  تخترق العديد من مواقعها وتنفذ فيها عمليات عسكرية نوعية علاوة على كثافة حركة الكادر الحزبي ( التنظيم المحلي ) على نطاق واسع في المنطقة وفي العمق وحصول إمكانيات إضافية للوصول إلى مناطق ومدن جديدة بما فيها الانطلاق من الموصل إلى العمق في بقية مدن العراق.

كنا نعتبر هذا الوضع وضعاً "مريحاً" لممارسة مختلف أشكال العمل الحزبي و العسكري. قررنا النزول لتأدية مهامنا دون أن نشك بحركة ونشاط لسرية الرفيق أبو نصير واحتمال قيامها بتنفيذ عملية عسكرية في المنطقة.. وحتى لو كنا متأكدين أن السرية ستنفذ عملا عسكرياً، فإننا لم نكن نتوقع أن يكون هذا العمل بالقرب من قرية ختارة التي نتواجد فيها، إذ أن ما حصل كان مفاجأة للسلطات ولجماهير الحزب وحتى لنا.

المهم بعد وصولنا.. نفذنا مهامنا، ثم انطلقنا من ختارة لتنفيذ بعض المهام الأخرى في مناطق قريبة. في عصر اليوم الثاني في بيت من بيوت رفاقنا في القرية ارتبك الوضع داخله بعد سماع لعلعة صوت الرصاص من البنادق الرشاشة مع إنفجارات RBG 7 من جهة الشرق  بشكل واضح..  ثم توالت الأخبار التي مفادها  إن أحد أهم عناصر الجيش الشعبي في المنطقة المدعو "أبو رسالة"* قتل مع أحد رجال حمايته في كه ر كاميش في كمين نصبته مفرزة تابعة  لقوات الحزب الشيوعي العراقي.

بالرغم من أن السلطات في المنطقة كانت تحاول في كل المناسبات إلحاق الأذى ونشر الخوف والذعر بين الناس، إلا أن معنويات رفاقنا وجماهير القرى ارتفعت كثيراً بعد تنفيذ العملية، وعكس ذلك انطباعاً جديداً عن مزاج منظماتنا وجماهير المنطقة التي كانت تخشى جبروت السلطات وانتقامها في المرات السابقة، وعادة ما كان شعور الناس الذين كنا نتعامل معهم يعبر عن قدرات السلطة بضعفها وجبروتها..

في هذا اليوم واليوم التالي أدركنا إن السلطات في المنطقة تمر في حالة ضعف ووهن شديدين، لكن رغم ذلك غيرنا موقعنا تحسباً لحدوث مفاجآت، في نفس الوقت لم يكن من الطبيعي اللجوء للجبل، كنا نتوقع صعوبة الوصول إليه، ولابد للسلطة أن تحاول استعراض ما تبقى لها من قوة ، لإيهام الناس أنها لازالت تمتلك المبادرة، هذا ما تحسبنا له..

لذلك بعد متابعة وضع رفاقنا وأصدقاءنا وتقييم الموقف اخترنا عائلة لم نلتقي بها قط خلال هذه المرحلة من الكفاح الأنصاري للبقاء عندهم لحين مغادرة القرية كي نكون في مأمن وكذلك عوائل رفاقنا، وعندما أرسلنا لهم خبر زيارتنا انتظرونا بفرح غامر..

ذهبنا للعائلة المذكورة عند حلول الظلام .. استقبلنا أفرادها استقبال المنتصرين، فشعرنا كأننا ضيوف يحضرون فرح عائلي ولسنا مطلوبين للسلطات رغم  وضعنا الحرج بعد عملية أنصارنا.. حيث وجهوا ضربة موجعة  لقوات السلطة في عقر دارهم.. التمسنا أثناء وجودنا مع العائلة ثقة عالية أشعرتنا أن السلطات بدأت تنهار.. و بين وقت وآخر  كانت تصل المزيد من أخبار العملية حتى تأكدنا فعلا إن المفرزة التي نفذت المهمة هي سرية أبو نصير الصغير، التي نزلت إلى كند دوغات في الليلة التي سبقت العملية واتخذت من  مخبأ "قه نته رى " * ملجئاً لها، إلى أن حل وقت الذهاب للشارع عصر اليوم التالي لتنفيذ عمليتهم التعبوية، التي تحولت إلى معركة عسكرية سريعة وخاطفة في المنطقة الواقعة بين قرية شرفية التي يسكنها الآشوريون وبين نقطة "كه ر كاميش "* على الشارع الذي يربط القوش بالموصل عبر الشرفية وتللسقف وباطنايا وقضاء تلكيف.. بين تلال منتشرة على جانبي طريق الهضبة نصبت المفرزة سيطرة لغرض إيقاف السيارات المارة والتحدث إلى ركابها حول سياسة الحزب وكوارث حرب النظام التي أشعلها ضد إيران، وما يترتب عليها من خسائر بشرية ومادية ودعوتهم إلى مقاطعة الحرب المدمرة ورفضها والمشاركة في النضال ضد نظام صدام حسين الدكتاتوري.. توزعت لعدة نقاط  تسيطر على التلال المشرفة على الشارع المذكور لحماية المجموعة التي تقوم بالتحدث  عبر ندوة خاطفة للجمهور المكون من ركاب الحافلات وبقية السيارات..

كانت المفرزة معدة بشكل جيد من ناحية السلاح والكادر العسكري والسياسي ومقاتليها كانوا شباب أشداء يتمتعون بنشاط وحيوية كبيرين وحماس منقطع النظير.. جرى إيقاف عدة سيارات وإنزال ركابها وتحدث إليهم احد الأنصار عن مهمة المفرزة ودعاهم إلى عدم الخوف، لأنهم لا يقصدون أية إساءة للأبرياء والغرض من نصب هذه السيطرة هو إيصال صوت الحزب إلى الناس وتحدي سلطات البعث.

من جانب آخر علمت السلطات في القوش بوجود مجموعة من الأنصار وهم يعقدون ندوة في كه ر كاميش، فاستنفرت وحشدت قواها التي تقدمت نحو موقع الحدث.. لكن إطلاق النيران التحذيرية نحوها من قبل مجموعات الأنصار المتواجدة في نقاط الحماية،  والتصدي لها لاحقاً أوقف تقدمها و جعلها  تتجمع عند قرية الشرفية.. حاولت هذه القوة مراراً تجاوز نقاط الحماية لكن مقاتلينا الأنصار كانوا لهم بالمرصاد، رغم ذلك استطاعت أحدى السيارات الإفلات وتوجهت بسرعة فائقة نحو نقطة سيطرة الحماية.. هناك تصدى لها الأنصار فحدث اشتباك على جانبي الشارع بالأسلحة الرشاشة وجها لوجه، كانت نتيجته مقتل أبو رسالة وأحد أفراد حمايته وإصابة أحد أنصارنا "الشهيد البطل سنحاريب – فاضل اسطيفو" بجروح بليغة بعد حسم المعركة جرى فسح المجال لركاب السيارات المارة بمواصلة طريقهم وانسحبت المفرزة بعد ذلك إلى عمق كند دوغات دون خسائر إضافية.

في القرية كانت أخبار العملية حديث المواطنين.. يشيدون بجرأة القوة المنفذة وأفرادها ويعدونهم أبطال من طراز خاص.. فرحتهم لا توصف بمقتل أبو رسالة الذي أذاقهم المر بملاحقته للمواطنين وإجبارهم للانخراط في صفوف الجيش اللاشعبي.. منذ الصباح أنشغل أفراد العائلة التي ضيفتنا بإعداد أشهى المأكولات وقدمت لنا ما لذ وطاب من مأكل ومشرب دون انقطاع بالرغم من اعتراضنا الذي تكرر كثيراً.. إذ لم نحتمل المزيد من الأكل وخصوصاً كانت حرارة آب تتسلل إلى الغرفة العلوية التي نختفي فيها والملحقة بزريبة حيوانات العائلة وفيها فتحة صغيرة تؤدي لملجأ الطوارئ ..

الحرارة تزداد مع تقدم  وتجاوز النهار لمنتصفه.. العائلة تصر على التهامنا للمزيد من الأطعمة والسوائل، حتى أصبحنا لا نطيق النظر للطعام .. كانت الحرارة لا تحتمل.. العرق يتصبب من أجسادنا.. حتى تبللت كل ملابسنا.. لم يكن لنا خيار  آخر أو بديل  للحالة التي ينطبق عليها المثل الكردي القائل " ته باخى ئاكر به ربو ئاخى" أي " في أب احترق التراب " .

الأسوأ  من كل ذلك تعرضنا بسبب الحر الشديد للإسهال ..  المغص والألم انهكنا .. وضعنا لم يسمح لنا مشاركة العائلة والاستماع إلى معاناتها في زمن ملاحقة البعث لأفرادها أثناء الحملة ضد منظمات حزبنا وبعد لجوءنا إلى الجبل.. بحثنا عن حل فأكثرنا من الشاي الثقيل "السنكين" لكن الحر الشديد لم يكن يدعنا لنتناول المزيد منه .. اتخذنا من الفتحة التي تفصلنا عن زريبة الدواب طريقنا المؤدي للحمام.. لم يتوقف النزول عبرها إلا بعد أن تهيأنا للخروج من المنزل قبل حلول الظلام بشكل كامل.. عندها كانت درجة الحرارة قد تراجعت ، وبدأت تهب نسائم هواء منعش .. يتبع