كان ذلك في خريف عام 1980 عندما انفصلنا أنا والرفيقان أبو داود وأبو إيفان عن مفرزة لأنصارنا في حوض كاره (به رى كارا) متوجهين إلى قرية (كه ره كو) تمهيدا للانطلاق إلى سهل نينوى وتنفيذ مهمتنا الحزبية في اليوم التالي، إذ كنا نشكل امتدادا للمجموعة الثانية والثالثة التي كلفت بإعادة الاتصال بشيوعيي نينوى، وخصوصا ريفها وإعادة صلاتهم بالحزب بعد ان شتتهم الهجوم الشرس الذي شنته الاجهزة الامنية ضد حزبنا، إذ تعرضت المجموعتان التي كنا نحن الثلاثة من بين أعضاءها، إلى مصاعب ومخاطر (تطرقت لها في مقال سابق).

في (كه ره كو) التقينا مع مفرزة من البيشمه ركه يقودها المدعو أحمد ميركه تووى، وعدد أفرادها يتراوح بين 10 – 15 مسلحا، كانوا ضمن قوات (حدك). توزعنا على بيوت القرية، فذهب أبو دواد وأبو أيفان معا إلى أحد البيوت، وأنا ذهبت وحدي إلى بيت آخر، فوجدته وقد استضاف إثنين من بيشمه ركه المفرزة المذكورة. قدموا لنا العشاء كعادتهم، وبقينا نتحدث عن أمور الدنيا وعن سياسة حزبنا وتطلعات شعبنا في السعي لإسقاط النظام الدكتاتوري. حاول الرجلان معرفة وجهتنا حينما عرفا بأننا 3 أشخاص فقط، ولكني ورفاقي كما تعودنا لانفصح عن وجهتنا، تجنبا للمخاطر.

بعد الانتهاء من العشاء والنقاش، ذهبت إلى المكان المخصص لمبيت مفرزتنا، فاتفقنا أن نخرج من القرية قبل النهار حتى نصل إلى منطقة آمنة قريبة من الدشت. وفعلا نهضنا وخرجنا من القرية وفق الخطة، فتسلقنا جبل كارة نحو وادي آفوك، وعند نهاية الانحدار الشديد للجبل أشرقت الشمس ووصلنا إلى منتصف المسافة من الوادي. كنت أسير في المقدمة، وأبو داود وأبو إيفان يسيران خلفي، وبين كل واحد منا مسافة آمان، أعتدنا على اعتمادها في مفارز حركة الأنصار.

في لحظة معينة من ذلك الصباح الخريفي المشمس وهبوب نسمات هواء منعش، سمعنا رميا كثيفا يخترق صمت الوادي، كان الرصاص الكثيف يمر فوق رؤوسنا وبين اطرافنا واصواته تشق الهواء وتصم الاذان!، اما المتفجر من الرصاص فكان ينثر التراب وشظايا الحجر في وجوهنا. استمر الرمي الذي كان ياتينا من الخلف ومن جهة اليمين، من قمة قريبة ليست مرتفعة كثيرا تسيطر تماما على الارض الجرداء التي نسير عليها لمدة 5 دقائق تقريبا. استطعنا الاحتماء ببعض الاحراش والصخور المتناثرة. وجدت نفسي خلف صخرة، وكنت اعتقد ان رفيقي وجدا ايضا مكانا يحتميان به. حاولت ان اسحب أقسام بندقيتي استعدادا للقتال، فتحركت يدي اليمنى من جهة الكتف، ولكن ساعدي لم يستجب وتوقف عن الحركة، وبقي ملتصقا بالأرض، استغربت الأمر، ولما تفحصته رأيت خيطا من الدم يسيل من تحت كم قميصي العسكري نحو كف اليد من الداخل، دون ان اشعر بأي ألم، عندها عرفت أني مصاب، فماذا عن رفاقي ..؟.

توقف الرمي، وبدأ السكون يخيم على الوادي ماعدا تغريدات العصافير والأقباج والطيور المختلفة.  كنت أترقب ماذا سيحصل بعد هذا الهدوء، فاخترقت فضاء الوادي شهقة كبيرة، عالية الصوت، خرجت من صدر أحدهما. عرفت إنها حشرجة موت، احد رفيقي ودع الحياة، فصرخت بصوت عال ومرتجف، من منكما مات.. أجيبوني؟!، جاءني صوت أبو داود حزينا، يقول: أنه أبو إيفان، ربما استشهد. كان الأمر مفجعا بالنسبة لي، وأنا تربطني أفضل علاقة وأفضل رفقة مع أبو إيفان الإنسان والشيوعي الشجاع، انتابني قلق عظيم وحزن عميق، ولكن ما كان عليً إلا أن احاول البقاء رابط الجأش في هذه اللحظة الحرجة والخطيرة، فأخفيت عن أبو داود إصابتي. 

بعدما تأكد أبو داود من استشهاد أبو إيفان وفراقه، أتفقنا أن ننسحب نحو الجهة اليسرى إلى الأعلى، لكني مضطرا أخبرت أبو داود عن أصابتي، فقلت له، ينبغي أن تعلم بأنني الآخر مصاب في يدي اليمنى، الأمر الذي يمنعني من المقاومة، فكن حذرا. فقال لي إذن انسحب قليلا وتوقف لكي أنسحب أنا أيضا. كنت انسحب بسرعة وأرمي نفسي وراء صخرة، وأبو داود يفعل نفس الشيء، وهكذا سارت الأمور إلى أن بلغنا قمة تسيطر على الوادي من الجهة اليسرى. وهناك راقبنا الوضع دون أن نرى اعداءنا. للأسف الشديد لم نتمكن من سحب جثمان الشهيد أبو إيفان، لاننا لم نكن قادرين على فعل أي شيء. قبل حلول الظلام، توجهنا عبر سفح جبل كارة نحو قرية أطوشى، التي لم نكن نعرف كم تبعد عن موقعنا، لكننا كنا نعرف الاتجاه فقط، لأن الرفيق عادل مزوري أنتقل إليها مع عائلته قبل فترة قصيرة من هذه الجريمة، فأشار لنا ذات مرة إلى اتجاه القرية وأكد بأنها أمينة إلى حد ما ويسكنها مسيحيون ومسلمون. لم يكن الوصول إلى القرية سهلا، فأخذ منا وقتا طويلا حتى وصلنا إليها بعد منتصف الليل، وفي الطريق وقعنا في متاهات متعرجة وصعبة عانينا منها كثيرا.

هناك في القرية أستقبلنا الرفيق عادل مزوري مستغربا عندما وجدنا في هذه الحال، وسرعان ما قاما أبو داود وعادل مزوري بفحص خصري من الجهة اليمنى، بسسب الألم الحاد الذي كنت أشعر به، فوجدا إن مخزني العتاد المعلقين بالنطاق المربوط حول خصري مضروبين بطلقتين من تلك الجهة، ما شكل ضغط الضربة ألما حادا فيه، دون جروح في هذه المنطقة، ولكن المخزنين تهشما بشكل كامل، وكانت أحدى الرصاصات قد اخترقت ساعدي الأيمن، وأدت إلى كسر عظمه فتم ضماده بقطعة قماش دون دواء.

كان الرفيق عادل (أبو سربست)، قد سمع باستشهاد أحدنا، دون أن يعرف من هي المجموعة التي وقعت في الكمين، لكن الاخبار التي وصلته من القرويين بأن أحمد ميركوتووى ومفرزته هي التي أرتكبت الجريمة وسلمت نفسها بكامل عدتها وعددها إلى السلطة، وكان دم الشهيد أبو إيفان هو ثمن صفقة الاستسلام. وهذا ما أصبح حديث جميع أهالي القرى في اليوم التالي بعد وصولنا إلى حوض كاره، لأننا لم نمكث في أطوش تلك الليلة أكثر من عدة ساعات خشية من طيران النظام أو تقدم قواته نحو القرية.

بقينا في حوض كاره ننتقل من قرية إلى أخرى دون أي علاج، سوى ربط جرحي بأقمشة وأحيانا بالشاش الذي نحصل عليه من اهالي تلك القرى وتعليق يدي في رقبتي بقطعة أخرى. ومن الجدير قوله أنني تعرفت خلال هذه الأيام على الكثير من عوائل هذه القرى، التي قدمت لنا كل ما كان بمقدورها، وكان من بينها عائلة والد عكيد وعلى ما أظن كان أسمه مام خورشيد في قرية شيرانه التي كان يسكنها البيشمه ركه الشهير سلو خدر مع عائلته. مام خورشيد ذهب لأكثر من مرة إلى العمادية خلسة لأحضار بعض الأدوية المسكنة، التي كانت تساعدني على تحمل الألم، وكان أبو داود يتحمل لوحده وزر الحراسة ليلا، لأن الوضع الأمني حتى في حوض كاره كان خطيرا، إذ كان بإمكان السلطة الهجوم على هذه القرى إذا أرادت ذلك، والاهالي يتذكرون جيدا المعركة التي استشهد فيها محمود ايزيدي والتي حشدت اليها السلطات قوات كبيرة جوا وبرا في نفس المنطقة.

في أحدى زياراتنا إلى القرية (شيران)، وقبل وصول أحدى مفارزنا إلى تلك المنطقة والتحاق الدكتور الشهيد عادل بنا لغرض معالجتي، طلب الفقيد سلو خدر اللقاء بأبي داود، وعندما ذهب إليه، عاد ومعه شاب، هذا الشاب قال: جئت لألتحق بأنصار الحزب. إذن كان يعرف الحزب، ولكننا لم نكن نعرفه، تبادرت إلى أذهاننا الكثير من الاسئلة، يا ترى كيف سيكون الأمر ليلا ومعنا ملتحق لانعرف عنه شيئا سوى إنه من مناطقنا..؟، الأ يكون الرجل مندسا ومرسلا من السلطة، فيقتلنا نحن الأثنين ويهرب..؟. أتفقنا أن نسأله كي نتوصل إلى حقيقته، قلنا له من أنت ومن أين أتيت..؟ فأجاب بأنه من عائلة القوالين وهو شقيق حسن قوال إسماعيل من قرية باعذرة، في الحال انتفض أبو داود، قائلا وابتسامة ارتياح بانت على وجهه، أذن أنت شقيق حسن قوال، وأنا كنت أنظر إليه مستغربا، فقلت وماذا يعني هذا، قال أبو داود، إنه من عائلية شيوعية معروفة، وحسن قبل الحملة كان عضوا في ل.قضاء الشيخان للحزب، ولايمكن أن تكون هذه العائلة سيئة، فقلت لسلام أذن هذه بندقيتي وأنت من الآن ستؤدي دورك في الحراسة، ومن ذلك اليوم أصبح سلام نصيرا، وختم أيامه المليئة بالمآثر والمخاطر في حركة الأنصار أثناء حملة الأنفال في 1988 وهو لايزال يمارس شيوعيته بطريقته الخاصة ويعيش في كوبنهاكن- الدانمارك.                            

_ الشهيد أبو ايفان هو هرمز اسطيفان ( الاخ الاصغر للرفيق الراحل يوسف اسطيفان ( ابو عامل ).

جريدة النصير الشيوعي العدد 14 أيلول 2023