الزمن ليلة 16- 17 أيار 1987

المكان مدينة اربيل.

هكذا سمى أنصارنا عمليتنا العسكرية داخل مدينة اربيل "عرس انصاري" حيث فرضنا سيطرتنا الكاملة ولاكثر من اربع ساعات على ثلاثة من المحلات المهمة في اربيل، وهي "مهاباد، منتكاوة، ومحلة 92 ".

كان التحضير للعملية قد بدأنا به قبل اسابيع من ليلة التنفيذ، مستثمرين علاقاتنا الجماهيرية وكذلك ركائزنا ومعرفتنا الجيدة بالمحلات الثلاث. بالاضافة الى استطلاعاتنا لمناطق الدخول والخروج والكمائن. فقد سبق وان قامت السلطة هناك بحفر خندق لتطويق المدينة وعزلها عن ما يحيط بها من المناطق للحد من أختراقاتنا، لكننا تجاوزنا ذلك بابسط السبل.

كانت اهدافنا هي: تنظيف المحلات الثلاث من عملاء النظام اولا، والقيام بحملة دعائية واعلامية سياسية لدعم معنويات الناس ثانيا، ولتدمير واحدة من أقذر المفارز الخاصة وقوات التدخل السريع التي اهلكت الناس ثالثا. كانت المفرزة مكونة من خمسين نصيرا، من سرايا برانتي واربيل أضافة الى فصيل من مكتب الفوج بصحبة الرفيق منعم.

رسمت خطتنا كالتالي: اولا: التسلل تحت ستار الليل، واختراق حاميات مدينة اربيل من جهة مجمع "داره تو " من جهة منازل اساتذة الجامعة، بعد الاحتفاظ بكمائن على الخندق الذي يحزم المحلات. ثانيا: ان تقسم المفرزة الى ثلاث مجموعات لتباشر عملها في اقتحام منازل المجرمين وملاحقتهم، وجمع ما يمكن جمعه من الاسرى وسحبهم معنا. ثالثا: بعد الانتهاء من ثانيا تتوجه مجموعة لتدمير كراجات شرطة النجدة بالقاذفات، عندها ستاتي قوات الطوارئء القذرة ليتم صيدها من قبل الكمين المحكم الذي اقمناه على الطريق العام، والمكون من خمسة عشر نصيرا بقيادة البطل ابو رشا. كانت اسلحتنا منوعة وذات كثافة نارية عالية.

بدأنا التنفيذ الساعة الثامنة والنصف مساءا. وكانت البدايات انسيابية وكما خططنا حيث سيطرت مجموعة الرفيقين علي ومنعم على مسجد محلة 92، حيث كسر قفله وفتح بعد رفض امام الجامع فتحه، وهنا القى الرفيق ئاسو مام علي خطابا اعلاميا وحماسيا تبعه ئارام وهزار ورفاق آخرين، واتخذوه منبرا اعلاميا وخطابيا لدعم الثورة وضد النظام. كما كان المسجد نقطة تجمع للآسرى. وبدأت الاحياء كلها تسمع صوتنا. كما نفذت مجموعات التحري وملاحقة العملاء مهامها بدقة، وابدى جميع الانصار مثالا في الشجاعة والانضباط. وكما توقعنا فقد كان هناك تآزر من الآهالي خصوصا النسوة والصبايا الذين استقبلونا بالهلاهل والهتافات وصيحات الفرح والحلوى. وبدأوا وعلى عجل بتزويدنا بالمعلومات عن اتباع النظام ومرتزقته، ومنهم من صاحبنا الى البعض من ابواب المجرمين.

بعد تجمع الاسرى، ثم التأكد من جاهزية كمين الانصار الابطال، توجهت مجموعة من ثلاثة انصار لضرب وتدمير دائرة شرطة النجدة الواقعة على شارع اربيل- كركوك. أختير سطح أحد المنازل الذي مازال في طور البناء، كنقطة هجوم بالقاذفات على المراكز الحساسة في دائرة الشرطة وكراجها. وسرعان ما نشبت النيران في السيارات وبدأ الحريق وبدأت المعركة الفعلية. اضيئت سماء مدينة اربيل، حتى اننا ابصرنا قذائف التنوير في الطرف الثاني من المدينة. بعد انسحاب مجموعة التدمير وانضمامها الى اسناد كمين الشهيد ابو رشا، الذين بدءوا بصيد المدرعات والناقلات والسيارات بدقة وسهولة ويسر، وفقدت قوات السلطة القدرة على اي رد. بعد الدقيقة العاشرة من المعركة اقتحم بعض من ابطال الكمين السيارات والآليات الآخرى للحصول على الغنائم، ولكن عبثا. كان كل شيء يحترق. هنا أعطيت الآوامر للكمين بالانسحاب. وعند انسحاب احد افراد الكمين اصطدم باثنين من افراد قوات السلطة الجرحى، كانا خائفين ان ينقض عليهما. لكنه تركهم متمنيا لهم السلامة.

خلال انسحابنا المنظم ، كانت الجماهير تودعنا من ابواب المنازل والكثير منهم يطالبنا بعودة "الزيارة" ثانية. أخترقنا المساحة المضاءة بالانوار الكاشفة بين المنازل والخندق بهدوء ودون ضجة. والغريب ان حاميات المدينة من الربايا كانت هي الوحيدة التي لم تشترك في اطلاق النيران، حتى العشوائي منه. لكنهم حال ابتعادنا من الخندق والانسحاب تجاه سياراتنا البعيدة بدأوا بالرمي المذنب والعشوائي.

جاءتنا اثنتان من الصبايا الجميلات في احدى ازقة محلة ٩٢. قادتانا نحو منزل كبير ذو بوابة عالية، ((هذا مجرم وعنصر مخابرات ولديه بندقية)). طلبنا من الصبايا العودة للبيت، ثم قمنا باقتحام الدار. تركنا اثنين من الانصار عند البوابة، اما نحن الأربعة فدخلنا البيت نبحث عنه. كان (الأخ!) منشغلا بسقي الازهار في الحديقة الخلفية. رجل قوي البنية كريه الوجه تفوح منه رائحة الجريمة.

-  أخبرني ما هو عملك؟

- أنا عسكري مثلكم.

كان البعض منا يرتدي الزي العسكري الخاص بقوات المغاوير، ولهذا ظن هذا المجرم اننا قوات طوارئ خاصة.

- اين هويتك؟

سحب من جيب بنطاله المدني ورقة وبسطها امامنا، كان معي الرفاق م. هزار وشيخة وكاروان. ((يمنح مجيد.... اجازة طويلة لخدماته فوق الاعتيادية)). لكن لم يجب السيد مجيد على سؤالي ما المقصود بالفوق اعتيادية، هل انت جلاد مثلا.. وهنا بدأ بتلقي التهديدات اذا لم يفصح. تغير المشهد بالكامل. دخلت الغرفة زوجته خائفة تبكي وتصرخ بأعلى صوتها رجاء لا تضربوه، وارتمت ارضا محاولة تقبيل اقدامنا للإعفاء عنه، وانه سيترك عمله، و...و.. كانت زوجته حاملا وعلى ابواب الولادة. هكذا يوحي شكلها. فتاة فوق الثلاثين تشع من وجهها الطيبة والبراءة. "توقفي يا اخت فنحن لن نؤذيه، فقط دعيه يسلم سلاحه لنا ويخبرنا بطبيعة عمله، نحن بيشمركة الحزب الشيوعي، لا تخافي". تأكدنا انه لا سلاح معه تلك الليلة فقد تركه في الدائرة كما يدعي. "والله اعرف ان الجيران خبروني بأنكم انسانيين وتحترمون المرأة، وعد مني سوف يترك مجيد عمله".

"اسمع جيدا اكراما لهذا الوليد القادم واكراما لزوجتك الطيبة سوف نعفي عنك ولكن عليك بالمغادرة من هذه المنطقة صباحا وقد أعذر من أنذر". في مساء اليوم التالي جاءتنا الاخبار بأن مجيد قد غادر فجرا.

توزع الاسرى الضيوف على السيارات تحت حراسة مشددة من قبلنا. كان كرمانج ّذئب الليل. يقود السيارة في الظلام كما لو انه يقودها في الظهيرة. يعرف حتى حجارة الطريق، ولذا طلبت منه التوقف حتى وصول البقية. ترجلت من السيارة البيك اب، حتى سمعت ضحك وقهقهات الأنصار العالية التي يصعب ايقافها، (ما المشكل، يا جماعة دعونا نضحك معكم). ومن دون ان اسمع جوابا من احد، سمعت بنفسي واحدا من الشباب (الاسرى- الضيوف) وهو يدردم ويولول بلغته القروية، ويندب حضه العاثر وحض اهله وحظ زوجته المسكينة " لماذا يمسكوني اليوم، لماذا اليوم وليس بعد اسبوع و..." و  وكان المشهد كوميديا، فالشاب منسجم مع نفسه بالهذيان والملامة وندب حظه العاثر، وغير مبالي حتى بالحديث معنا او الانتباه الى ضحك الانصار الذي هو مصدره. كان شابا وسيما على اعتاب العشرين من العمر. تنم ملامحه الفلاحية عن بساطة وطيبة. تم اصطياده بالصدفة.

- (توقف، قل لي ما بك، ما المشكلة، ألست جحشا ولديك بندقية). سألته بعد سحب يده لإخراجه من حالة الهذيان.

- نعم انا جحش، مع جماعة سيد قهار. لكن المشكلة ليست هنا

- اذن ما المشكلة

- المشكلة انا عريس جديد والبارحة في المساء كان عرسي، والليلة دخلتي. ولم اتذوق (العسل) ولا مرة واحدة. انا لم أشبع بعد. يا ما انتظرت هذا اليوم. وأنتم مسكتموني الان بليلة الدخلة. شنو ذنب زوجتي.

- يا لحظك العاثر.

لم اتمالك نفسي من الضحك، واخذت بالمزاح معه كبقية الأنصار. ولكن وبنفس الوقت حدث شيء بداخلي، شيء ما، شيء لم يكن شعورا بذنب ما. أحسست بشيء من الوجع والأسف. تذكرت جرائم النظام الكثيرة المشابهة لتلك الحالة. كيف لنا ان نخطف عريس من عروسته بليلة الدخلة، هل يصح ان تتساوى اخلاق الضحية مع اخلاق الجلاد، اية قسوة تلك. لا. لا يمكن. كنت قد اتخذت قراري سريعا.

- اسمع ما اسمك

- اسمي بكر

- بكر إذا نزلت هنا هل تستطيع العودة للبيت، لعروستك، هل تعرف الطريق

- نعم نعم أعرف المنطقة كلها. كنت راعي هنا.

- أذهب الان وارجع لعروستك، وسلم على الاهل وقل لهم مبروك. والاهم ان تكف عمل( الجحشايتي). ولا تنسى تلك الوصية. سنكون عندك قريبا.

- نعم والله اوعدكم.

انطلق بكر فرحا غير مصدق ماذا جرى. ثواني وتوارى عن الأنظار كأن جنية قد خطفته.

في مساء اليوم التالي، جاءتنا الاخبار بالهستيريا التي اصابت النظام. كنسوا هيكل البيت الذي اتخذناه مكانا للتنفيذ بالبلدوزر، وصادروا مكبرات الصوت من الكثير من الجوامع في المحلات الثلاثة وغيرها، واحاطوا الكثير من البنايات الحكومية بالمتاريس واكياس الرمل. لكن الأهم من ذلك كله ان بكر أخذ يثقف الناس في المحلة بموقفنا منه، وانه قد ترك سلك الجحوش. وهذا ما نجحنا به.

من الأنصار الذين أشتركوا بهذه العملية أبو رشا، كاروان مودكة، شاخوان، شيخا، دشتي، هلمت، سردار، ئاكو، كاوة جاوشين، سركار، سردار شيرة، شورش، كرمانج، ملازم هزار، هزار، علي الصجي، منعم، شيرزاد، فرهاد، ره نجبر، سورة، سنكر، سالار، شمال، ارام، ابو احرار، خاله خله، ئاسو مام علي، حاكم بوتان وآخرين. مع الاعتذار لعدم تذكر البقية.

النصير الشيوعي العدد 16 السنة الثالثة تشرين الثاني 2023