حضرت الأمسية الاحتفالية بمنجز (بنادق الحرية) في كوبنهاكن، وهو اسم كتاب للنصير كاردو كامو يوثق شهداء الحركة الانصارية الشيوعية في كردستان العراق. وأثناء حديث الرفيق كاردو عن الكتاب وظروف اعداده وطباعته لفت انتباه الحاضرين الرقم الذي قاله عن عدد الشهداء الذين جمعهم الكتاب  بأجزائه الخمسة بما يزيد على الألف شهيد من النصيرات والأنصار الشيوعيين البواسل.

عندها تناهى الى مسامع الحاضرين صوت عاتب ومتهدج لإحدى السيدات الحاضرات يقول بحرقة: 

-  أليس من المجحف أن تقدموا كل هذه التضحيات ليأتي بعدها الفاسدون ويستحوذوا على البلد وخيراته، ومن أجل مَنْ ضحيتم بشبابكم ومستقبلكم!؟، ثم سألت السيدة:  هل ستختارون نفس الطريق لو تكررت الظروف؟.

بقيت واقفة في مكانها متأهبة، وكأنها بانتظار جواب لسؤالها:

كنت ارى مع سؤالها دموعا محتبسة في عينيها، ولقربي منها حاولت أن اخفف عنها بكلمات لا تتناسب مع  توقها لإجابة مرضية، حتى علا صوت بكلمات حاسمة وواثقة: نعم سأختار نفس الطريق بالرغم من تقدمي في العمر!.

سكتُ، وسكتت السيدة، لينزوي كل منا مع نفسه في عالمه.

لا اعرف ما راود السيدة التي غرقت بأسى شديد، ولكن ما أسرني في تلك اللحظة، شريط ذكريات لعشرات بل مئات ربما ممن رافقتهم فأختفوا من صفحة حياتي ليكملوا رقما الفيا في صفحات كتاب كاردو. وما كنت اود قوله للسيدة على سبيل التوضيح، تحجر في حنجرتي، وتضمخت صورته بدموعي، وسؤال محير حاصرني:

- كيف لنا اطلاع الآخرين على هذا السفر النضالي العجيب، كيف للآخرين أن يفهموا سر ذلك التحدي لحد التضحية بالنفس، كيف لنا ان ننقل آلاف الأحداث كما وقعت كأغرب من الواقع بتفاصيلها البطولية وبسالتها النادرة، بحيث تشكل كل منها رواية إنسانية فريدة ومشاهد تستعصي على مخيلة كاتب سيناريو ومخرج افلام كبير!؟.

عجزت حقيقة عن اية اجابة حتى لنفسي، غير ان المشهد رافقني طوال رحلتي الى البيت، فوقفت متأملا مكتبتي لتمتد يدي بعفوية الى بضعة اعداد من جريدة النصير الشيوعي، التي أطفأت شمعتها الثالثة قبل ايام. قلبت الأعداد وكأنني أراها للمرة الأولى، فرحت اتصفح محتواها، وهنا عثرت على الإجابة على أسئلتي وسؤال السيدة.

فها هم مقاتلوا الأمس الذين فتك بقوتهم الزمن، أبوا الا يستسلموا، فوجهوا اقلامهم واحلامهم واودعوها مقالات تجد فيها ذات البطولة التي انطوت عليها حياتهم في الجبل!، مواصلة واصرارا، وكأن الأمس بدأ توا، وبدأ معه كفاحهم وبأسهم الذي لن يخبو ولا يلين.

النصيرالشيوعي جريدة مميزة بخصوصية لامثيل لها، فعلى صفحاتها ومنذ العدد1 كانت تشرين حاضرة ببدلة عرس تؤبن شهداء التحرير، بمقال " من سفوح الجبال إلى ساحات التحرير"، ثم تحسست الاصرار في آخر اسمه " مازلنا انصار ومازالت اصواتنا مدوية"، وصفحات آخرى خصصت للنصيرات الباسلات، مقالات عن معاناة الأنصار في مفارزهم القتالية، واخرى عن الطبابة والاذاعة والاعلام، ثم ذكريات مع الشهداء الغائبين  الحاضرين. كتب الأنصار عن حياتهم، عن مصائرهم مقابل سعادة وطن، قصصا واشعارا رائعة، لانها كتبت بصدق لحظتها بجمرها ولهيبها.. واخرى عن رفاق اطلقنا عليهم "مفرزة الطريق" لينتهي العدد بما بدأت الأمسية عن الشهداء بصفحة أخيرة لعدد منهم يرافقون بعضهم بعضا وكأنهم ينهضون ليكملوا مسيرتهم.

- اليست هذه اجابة كافية سيدتي؟ اظن هناك الكثير!

تحية لهذا المنشور في ولادته الثالثة ولهيئة تحرريها، وانا اجزم انه لن ينتهي حتى آخر قطرة حبر ينزفها رفيق اخير!.