لا استطيع أن أشرح مدى إندهاشي واعجابي الأول بالجبال، حيث كانت تضاريسها عبارة عن صورٍ ولوحات تبدو وكانها من نسج الخيال لأشخاص او احداث بلا نهاية تشاهدها من بعيد، لكنها كانت أيضاً صوراً للحياة نفسها وهشاشتها وكيف تكافح الكائنات الحية من أجل البقاء على قيد الحياة في مواجهة المصير وعدم اليقين.

شاهدت جبالاً وجبالاً، منها شديدة الانحدار بشكل غير عادي، ومنها بارتفاعات غير عادية، ولامست يدي واصابعي المناطق الصخرية العالية جداً تلك التي تتراكم السحب دائمًا فوقها وعلى جميع جوانبها، حيث تبدو من بعيد وكأنها قلاع ذات جدران فارعة، ولكن إذا ما اقتربت منها وقد سقط ضوء الشمس على صخورها، فستكشف عن هياكلها والوانها، ويمكنك رؤيتها كستائر مطوية ملتوية تعكس العديد من الألوان منها الأرجواني والاخضر والاصفر والأسود وخطوط من البني الخمري، وغيرها الكثير.

ومنذ ذلك الوقت، تنازعتني دائماً صورتان عن الأشياء، الاولى تلك التي اتخيلها والاخرى التي اراها، وعلى الرغم من وجود بعض السمات المشتركة بينهما، إلا أن هناك صور كثيرة ليس لها نقاط اتصال أو تماثل، فعندما ارسم فانا اتخيل، وعندما لا ارسم فانا أرى، وما اراه بالغيب او بالخيال ليس هو نفسه ما اراه بالعين، ولكن يبقى هو نفسه جزءأً من صفات المرئي.

كل هذه المخلوقات الهشة والصلبة التي نحتتها الرياح والأمطار والثلوج وأحيانًا تكاد ان تبتلعها وتمحيها، وهي تقطع اتساع الأفق وتحجبه بارتفاعاتها العالية، كانت تصدمني بروعتها، والبعض منها كان مايزال يكتوي بنار ودخان القصف الوحشي للطائرات الحربية بمساراتها المدمرة وهي تحاول شق إرادة الناس الفقراء وفتح طريق عبر عاصفة ومقاومة الفلاحين العُزل.

عندما كنا في مقاطعة أربيل، كنا نصعد باستمرار نحو المناطق العالية التي يلتقي بها اشهر جبلين في تلك المنطقة، هما جبل هندرين مع جبل الكاروخ، والتي كانت على الجانب الخلفي لقرية درگلة، وبالكاد يوجد جبل آخر خشن، شديد الانحدار، صخري، مرتفع، متعرج، قاحل، مقفر وغير مريح مثل الكاروخ، حيث كان يمكن لنا رؤيته من مسافات جداً بعيدة مثل لافتة هائلة منتصبة فوق الأرض، وعندما نقترب منه كنا نرى السطوح شبه البيضاء للقرى المحشورة في الاودية شديدة الانحدار، والماعز الجبلي يسير في قطيع يبلغ طوله عشرات الأمتار، وبمختلف الاحجام بعضها كبير بحجم صغار الحمير، مع لبدة ولحية تتدلى تقريباً الى الأرض، وهم يتسلقون الصخور والمنحدرات الشديدة، لدرجة أننا كنا نعتقد أنه من المستحيل أن يذهب أي كائن حي إلى هناك.

حوافي الجبال عموماً عبارة عن سلسلة من التلال شبه الدائرية، وقد أدى تآكل الصخور بسبب تيارات الأمطار والمياه العذبة إلى قطع وديان عميقة في جوانبها، وتم إعطاء أشكال الجبال المميزة أسماء اشخاص، مثل كلاو حسن بيك، او حاج ابراهيم وماشابه.

وبين مسافات قصيرة وأخرى وعلى طول سلاسل الجبال أينما ذهبت، ثبتت جذور الأشجار في أعمق الوديان، ابتداءً من المناطق البارزة فوق الأنهر، وحتى ألاعالي، وكانت أكثر الأشجار روعةً من بين جميع الأشجار التي كنت اراها في تلك الوديان من أعالي القمم هي أشجار الأسپندار او القوغ التي تنتج الاخشاب فقط، ذات الاطوال الباسقة والتي يستغرق نموها سنوات عديدة حيث تنمو ببطء مثل أشجار النخيل بالجنوب، وتستعمل جذوعها غالباً في بناء المنازل، وتمتد أغصانها الصلبة القوية بالفضاء مثل الشمعدانات البيضاء المضيئة الضخمة.

في خلال الحرب التي شنها المجرمون البعثيون في السبعينات ضد الاكراد ألقى الجيش العراقي وضباطه كتلاً هائلة من القنابل والمتفجرات ودمروا اكثر من خمسة آلاف قرية والاف المزارع والبساتين المثمرة والغابات البرية، وزُرعت الألغام في المناظر الطبيعية في القمم والوديان وحول ينابيع المياه، ولا يزال من الممكن رؤية فقاعات وانفجارات الصخور الهائلة على السفوح الجبلية العارية حتى يومنا هذا.

هناك أشجار البلوط والكمثرى والتفاح والتين وانواعاً عديدة من الكروم والجوز واللوز بجانب البيوت المحروقة والمدمرة وشجيرات المراعي البرية الصغيرة مع تغريد البلابل بين أغصانها، والعناكب حولها، والنعيق المستمر للضفادع الخضراء الصغيرة أينما كان هناك مصدر للمياه.

كان ذلك أكثر وحشية من أي شيء رأيناه حتى ذلك الوقت، ولم تكن مشاهد الدمار تلك بالنسبة لنا أشياء فاتنة، لكننا تحملناها لان الاحياء من يهمنا لا الموتى.

كنا نرى في تلك الاثار البربرية، العقيد الشاذ والضابط المصاب بالارتجاج العقلي مرتدياً ملابس الخاكي بالنجوم الذهبية والمشبعة برائحة الدم والجريمة والقوة والسلطة النفاذة مثل رائحة الكلب السائب.

توقف هؤلاء الضباط المجرمون خلال سنوات ما بعد الحرب الأخيرة، بلا حول ولا قوة وقد تقطعت بهم السبل على مساحة صغيرة في وسط وجنوب البلاد او هاجروا الى دول الجوار، او اصبحوا جزءاً من النظام الفاسد الذي اسسه الامريكان والبريطانيين.

يمكن أن تعيش صورة الجبل ووديانه وانهاره في اعماق الأشخاص الذين عرفوه عن قرب ولفترة طويلة، أولئك الذين حدقوا في حجارته تحت أقدامهم، او باوراق الشجر، او في المسافات والآفاق الشاسعة التي أحاطت بهم، حيث يبدو الأمر كما لو أن العيش بالجبال الوعرة تخلق إحساساً بالقرابة يمتد إلى كل من وقف عليها وجعلها كالمنصة الصغيرة التي ينظر من خلالها الى حافة العالم.