اعتدنا في كل تموز من كل عام، هنا في كوبنهاكن، ان نخصص يوما لزيارة احبتنا الذين سبقونا الى طريق الأبدية، وجلهم يرقدون قريبا من بعضهم في مقبرة (شيلور) الكائنة جنوبا من قلب المدينة. نقدم لهم باقات ورد، ونهتف عرفانا بوفائهم، فيما يتوزع اخرون على مقابر أخرى في ثنايا المدينة، نزورهم في يوم لاحق او سابق، وعادة ما نبتدئ بزيارة الفقيد عادل ميزر عمارة ـ عدنان ـ الذي غادرنا بشكل مفاجئ في أواخر شباط 2020.

في ملتقى مالمو الانصاري الاخير، وسط حشد الحضور الحي، البهي، وحرارة المشاعر، وجيشانها، كان الشهداء، ومن غيبهم الموت في محطات الاغتراب، يطلون علينا بمهابة مع كل حادث وحديث. ومنذ تلك اللحظات الساخنة من تداعي الذكريات، ظل الفقيد عدنان ضيفا يحاور مخيلتي، مضيئا مكانه الاثير في الوجدان.

لقد عملنا جنبا الى جنب على امتداد سنتين تقريبا من رحلة تواجده في كردستان التي امتدت حتى أواخر عام 1988 بعد حملة الانفال سيئة الصيت، وفي ظروف بالغة الصعوبة، ضمن سرية (بشتاشان) التي تشكلت صيف 1983.

خضنا معارك (بشتاشان) الثانية في خريف العام نفسه، ثم انتقل عمل السرية بأكملها الى قاطع أربيل، وبعد سلسلة من المفارز والمعارك، ــ معركة هنارة في 18/ 11 / 1983 التي شاركت فيها مدرعات السلطة وطائراتها والتي استشهد فيها الرفيق جاسم عطية (أبو شهدي) وجرح فيها 14 نصيرا، ثم الانسحاب والانتشار والتخفي في تضاريس القرى القريبة على حواف الاقضية والنواحي، حيث تتواجد ربايا ومعسكرات السلطة الدكتاتورية، والمتعاونة مع مفارز الاتحاد الوطني الكردستاني في المنطقة حتى ذلك الحين، في محاولة إعاقة وتحجيم عملنا الميداني عسكريا وسياسيا وجماهيريا. لقد تمكنا من خلال تلاحمنا والتفاهم المشترك بين رفاق السرية والعمل بروح الفريق الواحد من تجاوز شتى الصعوبات والمخاطر والتغلب عليها، وكان مسؤولنا العسكري الرفيق نظام شاكر (أبو دنيا) متميزا في الأداء والمبادرة ودقة تقدير الموقف.

عرفت الرفيق النصير عدنان شخصا هادئا، جادا ومتماسكا، صبورا، متحليا بمعنويات عالية ونكران ذات، صريحا في ممارسة النقد. وكان يجيد اجتراح تعليقات ساخرة في اشد حالات الإرهاق والغضب، ملطفا الأجواء بعفوية، مستعيدا الالفة، وابتسامة تسامح لا تغيب عن محياه.  كما كان مبدعا في تنفيذ جميع المهام، بما في ذلك أداء الخدمات الرفاقية، طاهيا من طراز رفيع، وعلى شحة ما يتوفر لدينا من المواد الغذائية، تخرج الطبخة من بين يديه، منكهة بانفاسه الطيبة، لذيذة الطعم والرائحة بشهادة الجميع.

  ولدعام 1953 في مدينة بغداد، لعائلة تعود أصولها الى مدينة الناصرية، كان والده خياطا ماهرا، يمتلك مشغله الخاص، وقد انتقل في السبعينات للعمل في الكويت، وبسبب مهارته المهنية والتجارية تمكن من توفير حياة معيشية لائقة للعائلة الكبيرة نسبيا، حيث انجب تسعا من الشقيقات والاشقاء، وكان عدنان سادس حبات العقد. درس الابتدائية في مدرسة النبوغ، وانتقل الى متوسطة الكرخ، واكمل الثانوية في اعدادية الأمين. وخلال دراسته الثانوية والجامعية، اشتغل عاملا لتصفية الذهب في محلات الصاغة، وكذلك في محل القرطاسية العائد لاخيه الأكبر.

التحق بمعهد التكنلوجيا عام 1973، وتخصص في قسم تشغيل المشاريع لتنقية المياه، وبعد التخرج  عام 1975 عُيّن في امانة العاصمة في احد مشاريعها لتنقية المياه. اكتسب وعيه مبكرا، ونشط في اطار العمل المهني والديمقراطي الطلابي في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية، ووجد طريقه الى الحزب، واصبح احد الوجوه الطلابية المعنية بتوزيع جريدة طريق الشعب على طلبة المعهد من الرفاق والاصدقاء.

غادر العراق عام 1979 متوجها الى بلغاريا اثر الحملة القمعية الغادرة التي اقترفها نظام البعث الحاكم، الذي كرس دكتاتورية صدام حسين على رقاب العراقيين، ومن بلغاريا توجه الى الجزائر. عمل مدرسا للفيزياء والرياضيات في مدينة سيدي بلعباس، ثم غادر الجزائر عام 1981 الى سوريا. ونظرا لصعوبات اجتياز الحدود للعبور نحو الوطن والالتحاق بفصائل الانصار المسلحة التي نظمها الحزب الشيوعي العراقي في كردستان العراق بهدف مواجهة عنف السلطة، وعدوانيتها وللدفاع عن وجوده، تواجد في مدينة القامشلي السورية لغاية بداية عام 1982.

ربيع 1982، وصل مع مجموعة من الرفاق الى قاعدة بشتاشان، وخلال فترة وجيزة رُشح للدراسة في المدرسة الحزبية التي تاسست آنذاك لتاهيل الكوادر الشابة فكريا وسياسيا، وكان ترتيبه الأول على مجموعة الدارسين، الامر الذي يؤهله للحصول على زمالة دراسية، لكن عدم تحقق ذلك سبب له ازمة نفسية مؤقتة، سرعان ما تجاوزها مستعيدا اريحيته وحماسته في تنفيذ المهام الحزبية والعسكرية. تم تنسيبه الى فصيل (بيانة) الذي يشغل موقعا قريبا من القمتين المعروفتين انصاريا بـ(المخروطية والصخرية).

كانت القاعدة في بداية التأسيس، ويتم تحويل اغلب القادمين الجدد من الخارج اليها، وتضم المقر القيادي للحزب إضافة الى مقر الاعلام المركزي وإذاعة صوت الشعب العراقي الناطقة بلسان الحزب. وللأهمية العسكرية لموقع (بيانة)، بلغ تعداد الأنصار فيه عشية هجوم (اوك) اكثر من 35 نصيرة ونصير، ومن الجدير بالذكر ان النصيرين عدنان وهوبي كانا برفقة النصير الفنان شهيد عبد الرضا (ابو يحيى) لحظة استشهاده في الأول من أيار عام 1983 في معركة بشتاشان الأولى.

قاوم بعناد الاثار المؤلمة لخسائرنا البشرية الكبيرة بإستشهاد كوكبة رائعة من خيرة المناضلين، عدا عن الخسارات المعنوية والمادية. وعاد ببسالة مع رفاقه للتصدي لهجمات مسلحي (اوك) الذين اداروا بنادقهم صوب مفارزنا ومقاتلي الأحزاب الكردستانية والديمقراطية العراقية، التي قاومت بشجاعة عنف الدكتاتورية على امتداد مواقع تواجدها في ساحات كردستان العراق.

تنقل الرفيق الراحل بين عدد من المهام العسكرية والإدارية في مواقع الحزب في (خواكورك). وفي نوفمبر 1986، عاد الى قاطع أربيل مرة أخرى، وإلتحق بتشكيلات الفوج الخامس في (كافية)، وكان ضمن القوة التي تشكلت في (سماقولي)، المنطقة التابعة لعشائر السورجية المسلحة.

تنسب أخيرا لسرية (قره جوغ)، والتي ميدان عملها دشت (شرغة) والقرى القريبة من (كويسنجق) المحاذية لمدخل أربيل ومجمع (دارة تو) في بداية تكوينه. استمر هناك لغاية عام 1988، بعدها ترشح للدراسة في بولونيا، لكنه قطع دراسته متوجها الى الدنمارك، حيث عمل وتزوج، واستقر فيها لغاية وفاته يوم الجمعة 28 / 02 / 2020. وقد اثمر اقترانه بالرفيقة ساجدة شلتاغ، عن العزيزين (سارة وسلام). بقي وفيا لرفاقه وأصدقائه، متواصلا معهم، فاتحا قلبه وبيته برحابة لاستقبال محبيه الكثر.

* امتناني لاصدقاء ورفاق الفقيد، الذين زودوني بالمعلومات: (هوبي) خليل عبدالرزاق ، نزار عبد الرزاق كلاص، (موفق) عبداللة حطاب، ساجدة شلتاغ.

النصير الشيوعي العدد 39 السنة الرابعة تشرين الأول 2025