في أول أيام شهر أيلول 1983، خرجت مفرزتنا المكونة من عدد غير قليل من رفاق الفوج الثالث، لأسناد الرفاق في (بشت آشان). وحال وصولنا، أنقسمنا إلى مجموعات. تألفت مجموعتنا من الشهيد ابو ليلى، أبو عثمان، دارا، أبوعراق، أبوعليوي عفاروف، الفقيد ابو فهد أر بي جي وأنا. وهي اول مجموعة تصل الى (بشت آشان)، حتى قبل بيشمركة الديمقراطي والاشتراكي.

ما أن أكتملت اعدادهم، حتى سيطر بيشمركة الديمقراطي على الربايا التي تتمركز على قمة جبل قنديل، أما بيشمركة الاشتراكي، فقد أستولوا على الربيئة التي تقع على الهضبة الوسطى، بينما كانت الربيئة التي تشرف على الشارع من نصيبنا.

نصبت ورفيق آخر من سوران، كمينا متقدما، لا يبعد اكثر من 50 متراً تقريباً عن موقع الرفاق. كنا نرى بالعين المجردة جماعة (اوك) وهم يتحركون إلى رباياهم. في مساء تلك الليلة، وقبل ذهابي إلى الكمين المتقدم، أجتمع بنا الرفيق الشهيد أبو ليلى. تحدث وعيناه تشعان حباً وقلقاً. لم يكن كلامه معنا كمسؤول حزبي، إنما كأب يخاطب ابناءه، مشيدا بموقفنا وشجاعتنا. تكلم بعفوية وصدق عن ما يشغله ويؤرقه، خصوصا عائلته، ربما حدسه الغامض أنبأه بأنها ليلته الاخيرة.

زحف الظلام نحو المكان. الغيوم تغطي السماء، والأرض البور الرخوة تحت اقدامنا. نصبت سلاح (الدكتريوف) في مكان الكمين.، ومع أولى ساعات الفجر، حيث المدى مازال مظلمـاً، فاجأنا صوت الرصاص كما زخات المطر حين يضرب بسياطه كل شيء. النصير الذي معي فقد السيطرة، فأخذ يطلق الرصاص بشكل عشوائي. أثارني تصرفه الأحمق، لانه كشف موقعنا، لكني طلبت منه الذهاب إلى رفاقنا لأستيضاح الموقف!. عندما وضحت الرؤيا، شاهدت البيشمركة ينزلون من أعلى الجبل، ولم أعرف من يكونوا؟. تساءلت مع نفسي، هل هم رفاق ام اعداء؟، فمكثت في مكاني ولم اتركه. بعد حين أكتشفت انهم من (اليكيتي)، بقيت أرمي بإتجاههم!. لم يمضِ وقت طويل، حتى تبين أن ربيئة الديمقراطي العليا قد انهارت!، ما يعني أن المنطقة كلها سقطت. لم أغادر مكاني، فقد وردني أمر بالثبات لتغطية انسحاب جميع الرفاق، وعلي ان انتظر الرفيق الاخير الذي يبلغني بالانسحاب. توقف أطـلاق النار، كفت أغصان الأشجار عن الاهتزاز، هدوء قلق وحذر أجتاح المكان. مرّ الوقت  ببطء، ولم أعرف ماذا يحدث؟. شيء ما في داخلي يقلقني. راودتني أفكار متضاربة كثيرة. ربما جرح أو استشهد الرفيق الأخير الذي انتظره، أو أنهم غفلوا عني!. بعد أن استبدت بي الظنون، عدت إلى موقع الرفاق كي أعرف ماذا حــدث لهم، ولمَ تركوني وحدي!؟.

المكان هادئ، مقفر، لا أحد هناك. وقفت في حيرة من أمري، ﻻ أدري إي الطرق أسلك وفي إي اتجاه أسير. يقع خلف ربيئتنا وادي، ومنه طريق يصعد إلى الجبل، سلكته وصعدت. من بعيد رأيت أبو عراق، ناديت عليه بأعلى صوتي حتى استطيع اللحاق بهم.

الطريق دهليز متعرج ﻻ يفضي الى شيء، لكن علي أن امشيه. فجأة رأيت مجموعة من (اليكيتي) تنزل من الجبل، أقتربوا مني، وقناصهم صوب بندقيته باتجاهي. أختبأت بين الجذوع الهرمة،  والرصاص يئز. أهتزت أوراق الأشجار وتساقطت من شدة كثافة النيران!: بأعجوبة نجوت من الموت!، ساعدني في ذلك أن الدرب الذي سلكته ممهدا للاختباء زاخرا بالاجمات.

حام حولي شبح الموت في كل خطوة أخطوها، لم استسلم، قاومتهم برشقات من الدكتريوف، أرميهم وأحتمي بأحد جذوع الصفصاف، فينهال عليّ الرصاص من كل صوب!، ساندني الرفاق بتكثيف الرمي عليهم، حتى وصلت. أستمر تبادل إطلاق النار متقطعاً، بعيداً، لفترة غير قصيرة!.

أنسحبنا جميعاً تحت نيران لم نستطع تحديد مصدرها، ثم اننا ولكي ننجو بأنفسنا لم نعتمد الطريق السالك، إنما سلكنا طرقا وعرة جداً وغير معروفة ولا مطروقة من قبل!. في ذلك الممر الضيق، التقينا بالشهيد حسان والشهيد الدكتور عادل وأبو تغريد الأداري. وقفوا أمام البغل الذي سقط عن ظهره الحمل، محاولين اعادته. أثر الشهيد أبو ليلى البقاء معهم لسحب البغل وما عليه من حمل، وطلب منا الاستمرار في الصعود لنكون بمثابة إسناد لهم، بالإضافة إلى تجنب التجمع في مكان واحد.

في مسارنا الذي تفوح منه رائحة الدم والبارود، لن انسَ ذلك المشهد المؤلم والبشع ما حييت، رايت في طريقنا أثنين من بيشمركة الديمقراطي، أحدهما أندلقت أحشاءه من جسمه، ومازال البخار يتصاعد منها، لقد اصابته قذيفة (ال أر بي جي) قبل وصولنا بدقائق قليلة. أما الثاني فقد أحتضن جثة الشهيد، وقد تجسد الهلع والألم في نظراته. كان شاحب الوجه مثل ميت، عيناه مغرورقتان بالدموع، يصرخ ويندب أخاه بحرقة تمزق نياط القلب. حدقـت في ملامحه المتغضنة، لكني لم أتمكن من الابتعاد عن الطريق، ومكرهـاً مشيت على الدم الحار.

بعد عناء ومشقة، وصلنا إلى مكان آمن. بسرعة نصبت سلاح الدكتريوف وشرعت بضرب مواقع (اليكيتي). لاحقاً أدركنا أبو تغريد الذي أصيب بطلق ناري في رجلـــه. وصل إلينا وهو يلهث من التعب، كتفاه متهدﻻن، يختنق بكلماته، وهو يروي كيف أستشهد (أبو ليلى وملازم حسان ودكتور عادل)، حينما كانوا يشدون الحمل على ظهر البغل، أطلقت عليهم صليات نارية من مختلف الاسلحة. حاول كل منهم النجاة بنفسه، إلا انهم سقطوا مضرجين بدمائهم.

صمت ثقيل وحزن والم كليل يخيم علينا، ونحن ننسحب إلى جبل قنديل، بعد أن فقدنا رفاقنا برصاص من كانوا حلفاء لنا، لينقلبوا لأعداء مشحونين بالغدر والخيانة.

النصير الشيوعي العدد 40 السنة الرابعة تشرين الثاني 2025