أدلاّء بريمر، أم أدلاّء خامنئي؟ / نصير عواد

في العراق لسنا بحاجة إلى آلة أو دواء يكشف درجة العمالة، فمِنَ السهل إيراد حقائق عن عملاء في هرم السلطة، عاشوا فترة من حياتهم في خدمة دول جاره ومخابرات دوليّة، هم أنفسهم يتباهون ويفتخرون به، بات سماع وتبادل التهم فيما بينهم لا يخدش أذن سامعه. فعندما ترتخي القيم وتنتشر الفوضى السياسيّة والانقسامات العرقيّة والطائفيّة ستكون مصطلحات العمالة\الخيانة خالية الدسم، تُستخدم كوسيلة لتصفية الحسابات مع شخص او مجموعة، وأحيانا كاستعارة لوصف الحقائق الغامضة. وقد تُطلق على من ينتقل من حزب إلى آخر، لا على من يخون وطنه ومواطنيه.

يومذاك، عندما دخل "بريمر" العاصمة بغداد، صحبة قادة العراق الجديد، لم نسمع عن العمالة انها تخالف القانون والأخلاق، ولم نسمع عن القضاء العراقيّ قد حكم على أحدهم بتهمة العمالة. الأحزاب السياسيّة الجديدة لجأت بدورها، من خلف ظهر بعضها البعض، إلى الاستعانة بالمحتل وبدول الجوار للاستقواء على بعضها البعض، صار فيه النواب الجدد ينصحون بعضهم بضرورة البحث عن دولة مجاورة او بعيدة تسندهم، قبل البحث عن جمهورٍ عراقيّ ينتخبهم. أما المؤسسة الدينيّة فهي كعادتها جلست في المنطقة الرمادية، تعد الأرباح والخسائر، عينٌ على بيضة الإسلام وعينٌ على مراقد الأئمة الاتقياء، وما تبقى من تراب فهو تراب الله، لا خوف عليه. اما المواطن، الذي عضه الجوع والفقر، فهو الذي دفع الفاتورة كاملة من صحته وكرامته ومستقبل ابنائه. كان من المؤلم رؤية الكثير من المواطنين يشتغلون بمهنٍ تُيسّر مهمة الامريكيين على ارض العراق، أدلاء ومترجمين وطباخين وسواقين، والأكثر إيلاما رؤية أحزاب ومشايخ وقبائل حدودية على جهتيّ العراق تساعد على دخول البضائع المهربة والمخدرات والسلاح، فعندما تُهدم الدولة وتنشأ الازمات سوف لن يجد الذين ترعرعوا في قاع المجتمع، وأطرافه، ما يمنعهم من الانحراف والعمل بمهن قد تؤذي المجتمع.

مع ان مفردتيّ العمالة\الخيانة لا يعودان إلى جذرٍ لغوي واحد، إلاّ ان ترادفهما الدائم في الكلام وفي الكتابة هو الذي يشير إلى أصلهما النتن، الخالي من قيم الشرف والأخلاق. نجدهما أحيانا يتداخلان ويتماهيان، وأحيانا لا يعنيان الكثير، فبسبب هشاشة الوضع السياسيّ بالعراق وتكالب الاقطاعيّات السياسيّة على بعضها البعض، صارت مصطلحات العمالة\الخيانة هي الأخرى هشة، تُستعمل في غير محلها، وقد تُطلق ضد الوطنيين والمتظاهرين أحيانا، الامر الذي يستدعي عدم حصرها فقط في ميدان السياسة، وينبغي اخراجها إلى مجال اللغة والقانون والتاريخ لإزالة ما علق بها من مساحيق. وكذلك عدم حصرها في مجاليّ الحرب والسلم، فالعمالة والخيانة تحوّلتا، في أكثر من مفصل، إلى مهنة وانتماء طائفي وبطولات سرياليّة، اشارت بوضوح إلى ان مشكلتنا داخلية قبل ان تكون إيرانية او أمريكية. واستدراكا على ما مر سوف لن نخوض في مقالنا بموضوع مَنْ هو الأخطر على أمن العراق وقراره المستقل، إيران أم أمريكا؟ فذلك سيؤدي إلى اختلاف بالآراء يجعل من فعل العمالة موضع نقاش ووجهة نظر، في حين ان العمالة هي العمالة، لا يمكن تبريرها ولو ألبسوها أثوابا دينيّة وسياسيّة. أي نبقى بالعراق في عودته المتعوسة إلى مجتمعات ما قبل الدولة، وكيف استشكل عنده مفهوم العمالة، وصار يستجيب إلى أراء حزبيّة وأهواء طائفيّة لا ترى في التعامل مع دول جاره، وأخذ المرتبات والسلاح والتوجيهات منها، مشكلة وطنيّة أو أخلاقيّة. فهناك الكثير من السياسيّين العراقيّين الذين تورطوا بعلاقات شخصية ومشاريع اقتصاديّة وحزبيّة بدول الجوار، يرون فيها تجارة وشطارة، ولا يرون فيها انتهاك لسيادة الدولة، فضعف الحس الوطني غالبا ما يزوّد أصحابه بمنطق مقلوب تماما. أردنا القول ان علاقات الأحزاب السياسيّة مع دول الجوار، من خلف ظهر الدولة والمجتمع، غالبا ما يصحبه تبادل المعلومات والاموال والخبرات. أوقع ذلك جيل من السياسيّين، بدرجات متفاوتة، في فخ التعاون الاقتصاديّ والسياسيّ والاخباريّ مع دول اجنبية. غاب فيه الحديث عن العمالة، وأمست المفردة خالية من سلطتها الاخلاقيّة.

إن مصطلح (الأمة الإسلاميّة) ارتبط بجمال الدين الافغاني، ومفاده ان المسلمين حول العالم يشكلون مجتمعا سياسيّا واحدا بغض النظر عن اجناسهم وبلدانهم ولغاتهم، وكان يرى في فكرة الوطنيّة مؤامرة غربيّة على شعوبنا. اما أبو علي المودودي فذهب ابعد من ذلك في قوله (لو ثمة عدو لدعوة الإسلام بعد الكفر والشرك فهو شيطان القوم والوطن). ثم تبعه الكثير من علماء المسلمين الذين يعتقدون ان جنسية المسلم هي دينه، وبأن الإسلام أوسع من وطن وحدود واقتصاد ونشيد وطني، كان أوضحهم حسن البنا في قوله (اما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو اننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية. كل بقعة فيها مسلم يقول لا الله إلا الله محمد رسول الله وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره) صحيح ان بعض علماء المسلمين أقروا بمسؤوليّات الفرد اتجاه وطنه، في زمن النضال ضد الاستعمار، ولكن بقي الهدف منبعه دينيّ لا وطنيّ. وكانوا يرون ان الخطورة ليست في ان يدير المسلم ظهره لوطنه ولكن في ان يدير ظهره لدينه، الأمر الذي أدخلنا في مفهوم آخر للخيانة، قديم ومقدس، يحدّده السيف وكتاب الله، كما هو شعار الاخوان المسلمين.

علماء الشيعة لا يختلفون كثيرا عن أقرانهم من المذاهب الأخرى، فهم لا يؤمنون عميقا بفكرة الدولة الوطنيّة، ولهم تصوراتهم الفكريّة والدينيّة العابرة للحدود والتخوم والمسميات. فجملة (كل البلدان الإسلامية وطن للمسلم) تضعنا أمام معادلة دينيّة خالية من الحدود الجغرافيّة، وخالية من مفاهيم الوطن والوطنيّة. ولو سحبنا هذه الجملة على الحالة الطائفيّة لأمكننا القول ان كل البلدان الوهابيّة وطن للوهابي وكل البلدان الشيعيّة وطن للشيعيّ، نلمسه في تضامن شيعة العراق مع شيعة البحرين لا مع المواطن العراقي، وفي تضامن شيعة لبنان مع شيعة إيران لا مع المواطن اللبناني. وهذا جزء من حقيقة ان جمهور الشيعة يمكنهم تقليد مراجع دينيّة خارج حدود الدولة الوطنيّة، العراق ولبنان وإيران. وان انتهاك الولاء للمرجع والطائفة هو الخيانة، وليس انتهاك الوطن. خفف ذلك على مئات الألوف من العراقييّن الذين عاشوا ظروفا صعبة وتعليما متواضعا العمل في مليشيّات محليّة مسلّحة، تتعامل مع دول وأحزاب، من دون علم الدولة. عمل ذلك على صنع تركيبة نفسيّة ودينيّة تبرر الفعل، وصنع ظاهرة جديدة لا يكتفي فيها الطائفيّ بتبرير العمالة بل ذهب إلى وضعها في مجال المقدس، والذود عنها تحت عناوين معظمة (الدفاع عن المراقد المقدسة، حماية المذهب، مواجهة الاستكبار العالمي...) إن عدم وعي المواطن اللبنانيّ أو العراقيّ بعمالته، وذهابه للقتال في دول أخرى لقاء أجر يتلقاه، هو عمل لا يخلو من المسؤولية، فهو قد يدفع حياته ثمنا لذلك، لكنها مسؤوليّة اتجاه طائفته وليس وطنه. عدم وعي المواطن بعمالته افسح المجال للأحزاب الطائفيّة في تحديد مفهوم العمالة الذي يرى في العمل لصالح الامريكان خيانة، والعمل لصالح إيران جهاد، مع ان العمالة هي العمالة.

قد لا نبالغ بالقول ان ضعف الحس الوطني حالة ملازمة للمتطرفين الإسلاميين، وإن صادف كلام أحدهم عن الوطن فعلينا التوقف والبحث عن مصيبة ستصيب البلد. حدث ذلك بالعراق عندما جلس الجميع عند أبواب الحرب الاهليّة ينادون بالحفاظ على الوطن، في حين ان خطابهم يبحث في وطنية خاصة بهم، على مقاس الطائفة ونفوذ امراء الحرب، لا على مقاس الشعب والوطن. عرفنا يومها إن الطائفيّة لا تقل خطرا عن أنواع التطرف الديني الاخرى، وانه حين يتداخل الولاء الطائفيّ بالولاء السياسيّ سيكون من أول ضحاياه الوطن، تمُحى فيه الحدود وتُبهت مفردات الشعب والوطنيّة، وتصبح (جنسية الفرد طائفته). المعروف عن السياسيين الذين قَدِموا مع "بريمر" انهم لم يصنعوا وطن، وان خرابه لا يهمهم كثيرا. ففي المنفى كانت قد تغيّرت سبل عيشهم وضعفت ذاكرتهم وحسهم الوطني، في حين قوي حسهم الديني والطائفي والمناطقي، وهذا واقع حال وليست تهمة، فهناك الألاف من العوائل التي تشردت وهاجرت. قسم من هؤلاء السياسيين عمل مع مخابرات دوليّة، وقسم آخر عمل مع دول مجاورة، وما زال الكثير من قادة العراق يفخرون بعلاقات تاريخيّة مع إيران وقاسم سليماني ترجع إلى مشاركتهم بالحرب ضد بلدهم العراق. وبدل ان يوصم هؤلاء بالعمالة والخيانة صاروا يحملون اوسمة شجاعة ويمتلكون قنوات تلفزة وأرصدة مالية ومليشيات مسلّحة تعمل كأذرع لإيران بالعراق، يسهلون لهم أعمالهم ويسوّقون مفاهيمهم الطائفيّة في صراعهم الإقليميّ، غير عابئين بالخطر الذي يتعرض له أمن العراق والعراقيين.

العمالة، بعد رواجها بين القوى السياسيّة العراقيّة المتناحرة عرقيّا وطائفيّا وقوميّا، لم تعد عمالة. فبعد ثلاث دورات انتخابيّة توصل القوم إلى حالة من التفاهم على اقتسام الغنيمة، خفّت فيها لغة التخوين، وصاروا ينعتون بعضهم البعض بالتواطؤ والعداء، يتعايرون اثناء تدافعهم على الحصص، يلقون بالّلوم على مَنْ يقف خلف هذا السياسيّ او ذاك، مستعينين فيها بحوادث التاريخ وأحاديث الاوائل، انتهى الأمر إلى ان يكون تنافسا بين "وكلاء" لن يصل القضاء، ولن يطالب أيا منهم بحقوقه القانونيّة. ولكن كل ذلك لا يبرر العمالة ولا يبرئ العميل. فثمة أجيال جديدة متحررة من أدران الشيوخ والساسة، وان مآل الشيع المتطرفة إلى ضعف وتراجع، وستتغير لا محالة العلاقات بين الدول المتجاورة، في حين سيبقى وجه العميل ماثلا في الذاكرة الاجتماعيّة. وسيورث ذلك، مع الأسف، لأبنائه.