في هيْمنة التجربة الذاتيّة على الرواية عند سلام إبراهيم / نصير عواد

ليس ثمّةَ نصْ روائيّ يخلو، قليلا او كثيرا، من ذات مؤلّفه، بِمَن فيها النصوص التي تستعين بجمع الصوّر وقصاصات ورق الجرائد والتقاط الاحْجية مِن عالم الحيوان وأرفف التاريخ وأرصفة الشوارع... هذا التشابك بين سيرة المؤلّف وروايته، الذي رافق الكثير من الأسماء والروايات العظيمة، لا يعني ان المؤلّف هو البطل الوحيد في روايته، ولا يعني بالضرورة تطابق احداث الرواية مع حقيقة وقوع الامر، كذلك لا يعني اهمالا للشأن العام، أو ضعفا فنيّا. ولكن وضوح التشابك بين سيرة المؤلّف وروايته، واستمرار ذلك عدة أعوام وروايات، قد يؤدي إلى انحسار للكتابة عند تجربة المؤلّف الذاتيّة، في حين ان الحياة، وعالم الرواية، أوسع من ذلك بكثير. ويقع المتتبّع لأعمال سلام إبراهيم الروائيّة على ظاهرة ان أغلبها، أو كلّها، استعانت بتجربتهِ الذاتيّة التي شكّل الصراع السياسيّ/الاجتماعيّ بالعراق محورها الاساس. ونجده في كلّ رواياته أما بطلا او ساردا، بضمير المتكلم، وباسمه الصريح أحيانا "سلام، سلومي، إبراهيم سلامي..." وحتى حين يكون الروي بضمير الغائب فإن الحضور الضمنيّ للسارد البطل، المؤلّف، يبقى هو مدار القصْ. من جهة أخرى نجد عناوين الروايات، المُختزلة والمتوافقة مع المحتوى العام لمضمون الروايات، هي الأخرى تَحفل بإشاراتٍ دالةٍ على شخصهِ، وتلقي بالضوء على علاقاتهِ وتجاربه الحياتيّة. فرواية الـ "الأرسي" أخذ عنوانها من المكان الذي عاش فيه عام اختفائه عن أعين البوليس السريّ، هربا من الموت في سجون السلطة أو على جبهات الحرب العراقيّة/الإيرانيّة. ورواية "الحياة لحظة" التي توقفَ فيها عند خيبة أمل رفاقه بعد خروجهم من تجربة الكفاح المسلّح ليشهدوا سقوط النظام الاشتراكيّ في موسكو، أستلف عنوانها من صديق له، مصور فوتوغرافيّ وشاعر شعبيّ اسمه "شاكر ميم" كان قد علّق على باب الاستوديو لافتة تقول "الحياة فقاعة صورها قبل ان تنفجر" والمؤلّف يذكر ان عنوان الرواية في البدء كان (الحياة فقاعة) قبل ان ينصحه الناشر بالـــ (الحياة لحظة). رواية "إعدام رسام" جسّد عنوانها عملية إعدام أخيه الشهيد "كفاح إبراهيم". ورواية "باطن الجحيم" سجّلها عن تعرضه للسلاح الكيمياويّ وعطب رئتيه في تجربة الكفاح المسلّح بجبالِ كردستان العراق نهاية الثمانينيات. أمّا رواية "حياة ثقيلة" فقد أخذ عنوانها عن المصائر التراجيديّة لأصدقائه ورفاقه...

 

إنّ المادة الخام التي اشتغلَ عليها سلام إبراهيم في رواياته ارتبطت بحوادثٍ واقعيّةٍ سبق أن ضمّتها ذاكرات وصقلتها ألسن ووثقتها مؤسسات دوليّة، فيها تواريخ معلومة وأمكنة معروفة وأسماء صريحة احيانا، الامر الذي زوّدها بخاصية التوثيق الروائيّ للأحداث. يقول المؤلّف (هدفي من كتابة هذه النصوص كلها هو التأريخ لمرحلة مهمة من مراحل تاريخ العراق الحديث، يمكن لأي باحث في المستقبل أن يتعامل معها كتاريخ حقيقي لهذه الأحداث) من المعروف ان الرواية عملية سرديّة تخص المؤلّف، تأخذ من الحادثة رمزيتها وجماليتها وكلّ ما مِن شأنه جذب القارئ للتفاعل مع موضوعها وعالمها، وليس لها علاقة مباشرة بطبيعة وقوعها على الأرض، وعلى ما يبدو هي دعوة لقراءة مختلفة تأخذ بالصدقِ الفنيّ كشكلٍ من إشكال التوثيق التاريخيّ، تدمج سيرة المؤلّف برواياتهِ. فبسبب حياته المريرة، واكتظاظ ذاكرته بوجوهٍ ومواقف وحوادث مأساوية، يرى سلام إبراهيم ان تجربته الذاتيّة جديرة بأن تُروى؛ ويقول (سوف أبقى أنهل من سيرتي الذاتية والتجارب التي مررت بها المزيد من القصص والروايات التي قد لا يكفي ما تبقى لي من الحياة لروايتها) ففي ظروف ثقافيّة واجتماعيّة معينة يلجأ الكاتب إلى رواية السيرة الذاتيّة للحديث عن تجربته الحياتيّة باعتبارها حلا وسطا بين الرواية وبين السيرة الذاتيّة، يمزج فيها الواقع بالخيال، الأدب بالتاريخ، الشخصيّ بالاجتماعيّ، ولكن هيمنة السيرة الذاتيّة على الرواية، أو على سلسلة روايات، قد تترك خلفها استفهامات أدبيّة واجتماعيّة. على مستوى الكتابة، تؤدي هيمنة السيرة على الرواية إلى التكرار وإعادة إنتاج الوقائع المهمة في حياة صاحبها، ونجد في مقالات وقصص وروايات سلام إبراهيم مثال على ذلك. فحادثة استشهاد أخيه الصغير أو معاناته في السجن وجبهات الحرب أو تجربته في الكفاح المسلّح تحضر أكثر من مرة في رواياته، بمناخات متنوعة. وهذا التكرار قد يوصل القارئ إلى الملل، ويؤثر سلبا على الكتابات السابقة للمؤلّف. من جهة أخرى محدودية الكتابة على ما عاشه المؤلّف تؤدي بدورها إلى محدودية القراءة. فالقراءة، مثل الكتابة، لها أغراضها وأولوياتها ومرجعياتها الثقافيّة، وإن الأحداث الواقعيّة قد تغري القارئ بدفع النص بالاتجاه الذي يرغب، مرة باتجاه الرواية وعوالمها الممتعة وأخرى باتجاه التاريخ وأثقاله، بغريزة لا ينفع معها كثيرا ميثاق القراءة المثبت على الغلاف. من تبعات هيمنة السيرة على الرواية انها تترك خيطا نرجسيا على سجادة القص، قد لا يأتي على الدوام في مصلحة النص. صحيح أن الذات لا تتمركز كليّا حول "الأنا" في روايات سلام إبراهيم، وأنه رسم عوالم وشخصيات أخرى، لها سيّر مختصرة أحيانا، كشفت عن علاقات متشعبة بين البطل وبين محيطه الاجتماعيّ الطافح بالغرابة والتناقض والصراع، إلاّ أن الرغبة الدائمة في التعبير عن الذات، والنظر إلى الشخوص من خلال الذات الراوية، تركت مسحة من النرجسية والانتقائيّة على شخوصه واحداثه. فعلى سبيل المثال لا الحصر في رواية "الحياة لحظة" انتقى المؤلف احداث واقعيّة، أسقط عليها وعيه المتأخر، لم يعرِ ذاته لتغتسل من ذنوبها، ولجأ بدلا عن ذلك إلى تعرية شخوصه وتمزيق عباءة الاكتمال التي تلفعوا بها طويلا. بدت فيها فكرة الأسماء المستعارة التي لجأ إليها المؤلف لم تُرضِ شخوصه الاحياء، بسبب واقعية الاحداث وكثرة شهودها.

 

روايات سلام إبراهيم سيّريّة؛ بمعنى ان اغلبها، أو كلّها، ذات بُعد عراقيّ. وقعت احداثها في النصف الثاني من القرن الفائت، الفترة التي عاشها المؤلّف وحوّلها بالمنفى إلى روايات وقصص، تناول فيها خراب القيم وأفول الأحزاب ومخلفات الحروب التي خاضها العراق وأدت إلى موت وتهجير الملايين، الأمر الذي صنعَ مناخا سياسيّا لروايات لا نهايات سعيدة فيها. أبْطاله حقيقيون، زحفوا من السجون والمتاريس والجبال إلى الورق، بَعْضهم حضر باسمه الصريح والبَعْض الآخر باسم مستعار. فهو يقول (أنني قدمت من خلال رواياتي نمطا من سرد سيرة ذاتية وعائلية ومجتمعية وبالأسماء الحقيقية التي لم أغيرها إلا في مواضع فيها فضائح). لا نأتي بجديد في قولنا إن هذا النوع من الكتابة يُشبع فضول القارئ ويمسك بخناقه، خصوصا وان المؤلّف استعان في رسمِ شخوصهِ بذاكرةٍ تفصيليّة وبثقافةٍ شعبيّة وبلغةٍ طيّعة اشبه بالّلهجةِ المفصحةِ، إلاّ ان تسمية الأشياء بأسمائها مزْعَ ثوب الّلباقة في أكثرِ من مكان. فشطح المخيلة، في بيئة اجتماعيّة محافظة، له اضراره المحتملة. وذكر الأسماء الصريحة للراحلين يمكن رفضه بسهولة، لأنه سيجعل من تناول سلوك الاموات مقبول أخلاقيّا واجتماعيّا. وإن التوقفَ فقط عند الجانب السلبي لشخوصهِ الأحياء، الذين لا يخلون من أدوار تاريخيّة في الدفاعِ عن قضايا وطنهم، يثير أكثر من سؤال. فعلى الرغم من تصدّع القيم وانحدار العراق على كافة الصعد، بسبب الحروب والاحتلال الأمريكي، إلا انه ليس الجميع تدهورت قيّمه وثقافته، وما زالت هناك شرائح محليّة تسعى للنهوض من جديد. أردنا القول إنّ الحكي المتأخر عن قضايا خاسرة ومؤلمة، مزدحمة بالأسماء والأخطاء، غالبا ما يكون فيه عنصر "الكشف" حاضرا بقوة، مستفزا، يترك خلفه جفوة بعدد الشخوص الذين يحضرون بين السطور. ومن الواضح ان شخوص سلام إبراهيم، خصوصا الأحياء منهم، لا يرضيهم ورود اسمهم الحقيقيّ أو المستعار بين السطور، ولا يريدون قراءة قصص حياتهم على الورق، بعدما جرت مياه كثيرة في نهر العمر، عمد بَعْضهم إلى دفع النص بالاتجاه الذي يرغب، الأمر الذي حرمهم من قراءة ممتعة وبعيدة عن الصراعات الحزبيّة الضيّقة. عنصر "الكشف" في روايات سلام إبراهيم حمل بين ثناياه عامليّ التدمير والبناء لإعادة إنتاج القيّم والمفاهيم التي عانت الركود طويلا، أخذه ذلك إلى الكتابة بشكل مباشر، كتابة في النور، مشرعة على الشخصيّ والحميم. لم يتخلَ فيها عن أصدقائه ورفاقه بالسلاح، لكنه تخلى عن زيفهم (كتب عنهم ولم يكتب من أجلهم) تَقَاطعَ ذلك وظيفيّا مع تاريخ المؤلّف، ومع تاريخ رفاقه الذين نجوا من حواف الموت، انتهى بَعْضهم إلى التعامل معها على انها كتابات تحمل بين طبقاتها نزعات مناوئة للحركة الثورية بالعراق، فيما ذهب آخرون إلى انها كتابات مشاكسة، مُشبّعة بالخمرِ والجنس وكشف الاسرار، تستهوي موضوعاتها القرّاء الميالين إلى التلصّص والباحثين عن تصفية الحسابات.

 

في سرده للحوادث تخلّص سلام إبراهيم كثيرا من الضغوط الاجتماعيّة والسياسيّة، ليس فقط لأنه عاش المنفى وتمتع بحرية نسبية، بل ذلك جزء من طبيعته الاجتماعيّة، واستمرار لمغامراته السابقة في السجون وخلف المتاريس. ويمكن رؤية ذلك في مقالاته الأدبيّة والسياسيّة، وفي تغريداته الفيسبوكية التي يستلَ عناصرها من الحياة اليومية وما يحيطها من محرمات واسرار. المتتبع لتجربة سلام إبراهيم يجده مشاكسا على الأرض وعلى الورق، ولغته "اليسارية" المتكدسة خلف القص

 

مشحونة بالتمرد وفضح الأشياء الحميمة لأبطاله. ففي القسم الأول من رواية "الارسي" شهدنا خروجه المبكر على قوانين الديكتاتور، وفي قسمها الآخر شهدنا بدايات الكشف الموارب. أما في رواية "الحياة لحظة" فقد كان الخروج صائحا على الأيدولوجيّات والأحزاب السياسيّة، ثمّ تصاعد خط رواياته صوب انتهاك الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة السائدة، كما في رواية "حياة ثقيلة". انتهاك اشبه بردةِ فعل على تلك التي عانى منها المؤلّف في شوارع طفولته، في السجون وخلف المتاريس وفي الجبال وفي المنافي الباردة.

 

عن الناقد العراقي