مسح الغبار عن شعار "الكفاح المسلّح" / نصير عواد

لكم تناهى إلى اسماعنا من حوارات الأنصار الشّيوعيين وهم يضعون في سلّةٍ واحدةٍ شعارات وجُمل خبرية تبدو للوهلة الأولى متشابهة كــ(انهاء النظام، اسقاط الديكتاتورية، الكفاح المسلّح) من دون الانتباه إلى ان هذا التشابه، والتجاور، قد يخفي بين ثناياه دلالات وتواريخ إنْ لم يجرِ تحديدها سيبقي تلك الجُمل مفتوحة الضفاف.

كان ممّا يُشبه البديهيّ الكلام عن أن تواجد القاعدة الحزبية بالجبل قد سبق قيادتها، أو بلغة الشهيد "أبو سحر" اللاذعة أن (الانصار صعدوا الجبل فلحق بهم قادتهم). فالحزب الشيوعيّ العراقيّ في نهاية السبعينيات، إبان تعرضه للهجمة الشرسة من قِبل حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، حليفه في الجبهة الوطنيّة التقدميّة، لم يتخذ مباشرةً قرار اللجوء إلى كردستان، ولا حتى تبني الكفاح المسلّح، إذ كانت قاعدته الحزبيّة تعاني بشدة وأن أغلب قياداته أمّا متخفية بالداخل أو مشتّتة بالمنفى ولم تجد الوقت لتوضح أفكارها وتعرب عن مواقفها الرسميّة؛ بمعنى  أن قسوة نظام البعث، واضطرار القاعدة الحزبيّة الشيوعيّة إلى صعود الجبل، إضافة إلى عودة رفاق كثر من الخارج، هو الذي صنع الظروف التي أدت لاحقا إلى تغيير في سياسات الحزب وفي شعاراته.

وحتى نقترب أكثر من الموضوع فإن شعاريّ (انهاء النظام، الكفاح المسلّح) لم يجرِ نحتهما في وقت واحد ومكان واحد واجتماع واحد، فقد تطلب ذلك أزيد من ثلاثة أعوام وأكثر من اجتماع للجنة الحزب المركزية. المناضلون القدامى رووا عن آخرين، شفاهية، أنه في تموز عام (1979) اجتمعت في مدينة براغ الكوادر الحزبيّة لتدارس الوضع بالعراق وتبنوا على عجالة شعار "اسقاط الديكتاتوريّة" قيل يومها أنه اجتماع للجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ العراقيّ، وهو قول تنقصه الدقة، ثم اضافوا للاجتماع انه جرى فيه تبني شعار "الكفاح المسلّح" وهو الآخر تنقصه الدقة. الراحل باقر إبراهيم في كتابه (مذكرات باقر إبراهيم) تناول اجتماعات اللجنة المركزية الثلاثة في بلاد المهجر (صــ173) ولم يأتِ على ذكر اجتماع براغ. وكذلك السيد جاسم الحلوائي في رده المطول، الذي نشر على حلقات في موقع الحوار المتمدن، على كتاب عزيز سباهي، يقول عند الرقم 132 (عقد أول اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بعد القمع الوحشي الذي تعرض له الحزب في تموز 1979 في المانيا الديمقراطية ـ برلين، وصدر عن الاجتماع بيان يدعو إلى انهاء الدكتاتورية، وبذلك أنهت اللجنة المركزية رسميا تحالف الحزب الشيوعي مع حزب البعث). وللتأكيد أكثر فأن مقابلة مع الراحل عزيز محمد، السكرتير السابق للحزب، اجراها الدكتور سيف أرحيم القيسي في تموز عام 2014 يقول (وبعد اجتماع الكوادر الحزبية في الخارج لتدارس مستجدات الوضع في العراق، عُقد اجتماع في تموز 1979 في مدينة براغ. وتبنى الاجتماع شعار "إسقاط الدكتاتورية"، لاسيما بعد وصول صدام حسين الى السلطة بتنازل البكر له عن الحكم). هذا يعني ان اجتماع الكوادر الحزبيّة ببراغ في تموز عام 1979 هو غير اجتماع الّلجنة المركزيّة ببرلين تموز عام 1979، وأن شعار الأول "إسقاط الديكتاتورية" يختلف عن شعار الثاني "في سبيل جبهة وطنية ديمقراطية لإنهاء الحكم الديكتاتوري وإقامة نظام ديمقراطي في العراق". فمفردة "اسقاط" فيها إيحاء بالقوة والمباشرة، في حين أن مفردة "إنهاء" أقل حدة وتشير إلى التدرج في العمل. ومع ذلك ففي الاجتماعين المذكورين لم يجرٍ تبني شعار "الكفاح المسلّح" كأسلوب للنضال، كما ردّد ذلك الكثير من الانصار. فعلى سبيل المثال لا الحصر نقرأ فيصل الفؤادي في كتابه الممتع (مسيرة الجمال والنضال) يقول في صــ57 (في اليوم التالي راودتنا " أنا وأبو هاشم وأبو الوجد" فكرة أن نضع جريدة طريق الشعب العدد الذي يتبنى الكفاح المسلح لأنهاء النظام الديكتاتوري الذي اقر في اجتماع اللجنة المركزية في تموز 1979 مع بعض الادبيات في حجر الأساس للبناء). من الواضح أن عدد جريدة طريق الشعب الذي يتحدث عنه الفؤادي "أبو رضية" طبع ببيروت أوائل شهر آب 1979 وتصدرها مانشيت عريض (في سبيل جبهة وطنية ديموقراطية لإنهاء الحكم الديكتاتوري وإقامة نظام ديموقراطي بالعراق). وهو شعار اتخذه الحزب في اجتماعه ببرلين تموز عام 1979 ولا يوجد ما يؤكد ان بيان الاجتماع اتى على ذكر "الكفاح المسلّح". فالحزب تحدث بوضوح في وثيقته التقيمية لحركة الأنصار الشّيوعيين انه تم بشكل رسمي تبني الكفاح المسلّح أسلوبا للنضال، وذلك في اجتماع اللجنة المركزيّة للحزب أوائل تشرين الأول من عام 1981.

في كتابه "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" يقول الراحل عزيز سباهي (لم يحسم الحزب الشيوعي العراقي أمر التحوّل إلى العنف الثوري واعتماد الكفاح المسلح كأسلوب رئيسي في النضال إلى جانب أساليب الكفاح الجماهيري الأخرى حتى الاجتماع الكامل للجنة المركزية في برلين في حزيران 1980) صــ314. في حين يختلف معه السيد "جاسم الحلوائي" على زمان ومكان الاجتماع، ويرى فيه خلطا بالمحتوى، فهو كان من الحاضرين في الاجتماع. ويرى الحلوائي أن شعار "الكفاح المسلّح" صيغ في اجتماع اللجنة المركزيّة للحزب عام 1981.

إنّ الالتباس الذي حصل في التوثيق وفي تحديد المفردة بدقة لم يقتصر على القواعد الحزبية فقط بل حصل كذلك عند مناضلين ومؤرخين وقادة سياسيين من الخط الأول. فالراحل باقر إبراهيم في مذكراته يقول انه لم يحضر اجتماع اللجنة المركزية الأول في تموز 1979 الذي عقد ببرلين، اطلعه على مسودة البيان الراحل ثابت حبيب العاني عندما كان يعيش في براغ، فينقل (وقلت له هل يتعلق الامر بالاطلاع فقط أم لنا الحق في تعديله او ارجائه. قال لا يوجد مثل ذلك الحق. فأخبرته بأني متحفظ على شعار اسقاط النظام او الصيغة التي تعني ذلك صــ 173). في هذا الفصل يذكر الراحل باقر إبراهيم انه لم يحضر الاجتماع المذكور، وانه لم يكن موافقا على الاتجاه المتزايد لليسار في سياسة الحزب يومذاك، وانه كان على الدوام هدفا للقواعد الحزبية التي صار العنف الثوري مطلبها، وأظن هذه من بين الأسباب التي أوصلت الراحل إلى حالة التحفظ على بيان الحزب ووضع الشعارين معا "اسقاط النظام \ انهاء النظام" في سلّةٍ واحدةٍ. مع انهما صيغا في مكانين مختلفين، براغ وبرلين، وفي اجتماعين مختلفين، اجتماع الكوادر واجتماع اللجنة المركزية.  

اغلب المعلومات المار ذكرها جرى تداولها بين الشّيوعيين الذين سنحت لهم الفرصة بمغادرة الوطن وديكتاتوره وسجونه وقوانينه المدمرة، في نهاية السبعينات من القرن الفائت، أما الشّيوعيون الذين بقوا في الداخل من دون حزب أو تنظيم فعاشوا في كابوس لا ينتهي، وكانوا لا يستطيعون حماية أنفسهم أو إيجاد مكان يختبئون به فكيف يهضمون حكاية إنهاء النظام! ناهيك عن اسقاطه بالكفاح المسلّح، ثم كيف يحدث ذلك وبأية وسائل؟

في نهاية السبعينات عندما استفحلت الهجمة ضدّ قواعد الحزب الشيوعيّ العراقيّ كان المناخ السائد في الشارع العراقي هو عدم الرد، وكان التوجه العام هو الحفاظ على حياة أعضاء الحزب وانصاره عن طريق الاختفاء والتنقّل الدائم وتغيير أساليب العمل، ولم يحدث ان نظمت دعوة للمقاومة ورفع السلاح ضدّ سلطة الدّولة، خصوصا وانه لم يتبقَ من قيادة الحزب في الداخل من يتمتع بالقدرة على توفير الأجوبة والحلول لما يحدث بالشارع العراقي. ولا نذيع سرا ان بعض قادة الحزب بقي حتى وقت متأخر من عام (1978 ــــ1979) يأمل في رأب الصدع والعودة إلى حضيرة التحالف مع حزب البعث، وكان سكرتير الحزب الراحل "عزيز محمد" في المقابلة المار ذكرها يقول (كانت هناك محاولات لإعادة الجبهة الوطنية إلى حيز الوجود من جديد، وكان هدفنا هو الإبقاء على الجبهة وإصدار صحيفتنا طريق الشعب بالقدر الممكن من اجل الحفاظ على الكوادر الحزبية خوفاً من الاعتقالات التي بدأت تطالهم).

إنّ اجتماع الكوادر ببراغ تموز عام 1979، واجتماعات اللجنة المركزيّة في المهجر ببرلين تموز عام 1979 وموسكو تموز عام 1980 وموسكو كانون الأول عام 1981 بيّنت مواقف الحزب الشيوعيّ من طبيعة النظام الديكتاتوري، وكيفية العمل على مواجهته، تجلى في التهيئة وشحذ الهمم وتفعيل الاعلام والتدرب على السلاح والدعوة إلى التوجه للوطن. وحتى نكون أكثر واقعية فان المناخ الحزبي يومذاك كان يميل إلى اليسار، وانه من الجائز في تلك الاجتماعات أن تكون قد جرت مناقشة كل الأساليب المتاحة لمواجهة عنف سلطة الدولة، بما فيها العنف الثوري والكفاح المسلّح والانقلاب العسكري، إلاّ انه من الناحية التوثيقية فأن شعار "الكفاح المسلّح" كأسلوب رئيس بالنضال، إلى جانب الأساليب الأخرى، تم اقراره رسميا في اجتماع اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ العراقيّ في تشرين الثاني من عام 1981. بعد أكثر من عامين على صعود المقاتلين الجبل.