من الذاكــرة.. أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 5 / فائز الحيدر         

الفصل الخامس

موسم الشتاء على الأبواب وبدأ موسم الأمطار مبكرا" وقد تم الأنتهاء من بناء القاعات الأساسية ولم يبقى لنا غير بناء المطبخ الذي تم اعادة بناءه مرتين لسقوطه بسبب هطول الأمطارولعدم خبرة الأنصار بالبناء، أما الحمام فقد كان الأستحمام في البداية يتم داخل هيكل من سيقان الأشجار غلفت ببعض البطانيات بجانب ساقية ماء جارية باردة من بقايا ذوبان الثلوج لا يتجاوز عرضها المتر المربع وكثيرا" ما تتم عملية غلي الماء والأستحمام أثناء تساقط الثلوج حتى تم الأنتهاء لاحقا" من بناءه على الطريقة القروية البدائية وغلف من الداخل بالبلاستك الملون لتغطية عيوب البناء من الداخل .

عملية بناء المطبخ

بعد استكمال عملية البناء أصبح لزاما" على الأنصار توفير مواد التموين بشرائها من ( الكرونجية ) أي المهربين القروين الذين يخاطرون بحياتهم ويدخلون الى المناطق المحررة ببضاعتهم لبيعها ومن ثم لغرض خزنها لفصل الشتاء حيث تنقطع الطرق، مثل الطحين، الحليب المجفف، الرز، الشاي، السكر، الحمص، العدس، البصل، المدافئ لفصل الشتاء، البطانيات، أدوات الطبخ .. الخ . لقد استغل النظام الدكتاتوري الاوضاع التنظيمية والتموينية الصعبة التي يمر بها الحزب الشيوعي بسبب الضربات التي وجهت لتنظيماته سابقا" فلجأ الى اسلوب الاختراق والاندساس لمحاربة فصائل الأنصار في تشكيلاتها الأولى من الداخل وقبل ان تتوسع وتتعزز فيها تقاليد العمل الأنصاري وتجعلها اكثر صلابة ومتانة من ان تخترق بأساليب باتت معروفة، وقد وقع بيد الأنصار العديد من المرتزقة الذين جائوا كملتحقين بصفوف الأنصار وبعد التحقيق معهم أعترفوا بتجنيدهم من قبل المخابرات العراقية حيث تغيرت اساليب السلطة ومخابراتها لتباشر من خلال عملائها ومرتزقتها القيام بالاغتيالات ان أمكن او بالاعمال التخريبية ضد مقراتنا، فطيلة فترة طويلة لم تتمكن السلطة من شن أي هجمات عسكرية على مناطق تلك المقرات وبنفس الوقت كان العشرات من القرويين وبغالهم المحملة ببضاعة مختلفة يحتاجها الأنصار في حياتهم المعيشية اليومية تدخل مقر القاطع أسبوعيا" والجميع يدرك وعلى يقين أن بعض هؤلاء القرويين هم عملاء للسلطة ومرسلين من قبلها ينقلون لها نشاطات الأنصار في المقرات والمنطقة بشكل عام ومقر القاطع بشكل خاص أثناء ترددهم على المقر بحجة أيصال المواد التموينية أو مراجعة طبيب القاطع لأسباب مرضية ويرفدون النظام بالمعلومات عن عدد الأنصار ونوع السلاح الذي يحملونه وطبيعة الحياة داخل المقر واوقات تجمع المقيمين فيه، وفترات تقديم وجبات الطعام التي تفترض تجمع اكبر عدد ممكن منهم في مثل هذا الوقت.

كما نوهت سابقا" لقد تم اختيار كلي زيوة مقرا" لأنصار قاطع بهدينان وبقية الأحزاب الكردية الحليفة بعد دراسة وافية لموقعه الحصين من كل الجوانب من قبل قادة الأنصار والحركة الكردية ذوي الخبرة العسكرية لسنوات طويلة بأعتباره محاط طبيعيا" بجبال عالية من كل الجوانب ومن الصعب استهدافه بالمدفعية التي عادة ما توجه من مطار قضاء العمادية او بالطيران ايضا" لأرتفاع الجبال المحيطة به وكثرة المضادات الجوية الموزعة على قمم الجبال.

مرعام 1983 هادئا" نسبيا" دون ان تسقط اي قذيفة في القاطع وتوقّع الأنصار ان موقهم الجديد حصين جدا" ولا يمكن للسلطة مهاجمته ولكن هذه التوقعات تبددت في صيف عام 1984عندما فوجئ الانصار بمرور قذيفتي مدفع من العيار الثقيل من فوق المقر وسـقوطها على الجبل المقابل لنهـر الزاب القريب والمواجه لمقر الحزب الديمقراطي الكردستاني والذي لا يبعد اكثر من كيلومتر واحد عن المقر، وبعد حوالي اسبوعين بدأت المدفعية تقصف المنطقة وبنفس الأحداثيات وبفترات متقطعة تصل أحيانا" مرتين الى ثلاث مرات اسبوعيا" وبمعدل عشرة الى خمسة عشر قذيفة من العيار الثقيل ليلا" ونهارا"، وأحيانا" أخرى يتوقف القصف لأكثر من اسبوعين بعد سحب او توجيه المدفع الى منطقة آخرى، كان الأنصـار يتحصنون صيفا" بسفوح التلال والجبل المجاور للمقر من الخلف او دخول الملاجئ التي حفرت بشكل غير صحيح رغم قلتهـا، أما أذا كان القصف شـتاء احـدى الليالي الباردة وخـلال تساقط الثلوج فيفضل الأنصار البقـاء في فراشهم غير مبالين بالقصف وأماكن سـقوط القذائف وهم مطمئنون الى ان القذائف تسـقط بعيـدا" عن مقر القاطع، ان المعلومات التي كانت تصل للسـلطة من عملائهـا في المنطقة قـد صححت احداثيات القصف تدريجيا" وبدأت القذائف تقترب من المقر حتى فوجئنا في ربيع عام 1985 بسقوط القذائف داخـل باحة المقـر وعلى بعـد امتار قليلـة من مقر مكتب القاطع وغرف نوم الانصـار وكانت احداها قد سقطت بمسافة لا تبعد سوى مترين عن غرفة فصيل الأدارة حيث كان يرقد فيها اكثـر من عشرين نصيرا" وبأعجوبة مر الحادث بسلام واعتبر هذا القصف نصرا" عسكريا" للسلطة وســقوط المقر عسكريا" كما عبر عنه الفقيد توما توماس (ابو جميل ) المسؤول العسكري للقاطع في حينها وهذا يعني توصل السلطة لأحداثيات المقر وممكن قصفه في اي لحظة وهنا تكمن الخطورة وعلى قيادة الأنصار منذ الأن ان تحسب حسابها للمستقبل وتتخذ الأحتياطات اللازمة .

 

 

كانت الأخبار تصل مكتب القاطع من ركائز الحزب في قضاء العمادية بوصول المدفع الى مطار المدينة وعندها نتوقع أن يبدأ القصف في اية ساعة على المقر حيث كنا نسمع أنطلاق القذائف لحظة انطلاقها وهو يبعد اكثر من 15 كيلومترا" من المقر وتصل الى الهدف خلال عدة ثوان تقريبا" نكون حينها قد اخذنا الأحتياطات اللازمة بسرعة. اضافة الى ذلك فقد فوجئ الأنصار في ساعة مبكرة من صباح يوم 13 تموز من عام 1985 بتحليق تسع طائرات من نوع سوخوي وهي تحوم فوق الوادي وسط نيران المضادات الجوية ( الدوشكا ) وقامت بألقاء صواريخها وقنابلها بشكل عشوائي على المقرات والقرى المحيطة بهـا ولم تستغرق الغارة أكثر من نصف سـاعة اسـتشهد فيها العديـد من القرويين ولم تتمكن الطائرات من اصابة اي هدف عسكري بسبب المضادات الجوية وتحليقها على ارتفاعات شاهقة ولربما تكون هذه الغارة هي البداية لغارات قادمة بعد دراسة نتائجها عسكريا" وتصحيح الأخطـاء،  بعد هذه الغارة أصبح يراود الأنصار اسئلة عديدة تقلق حياتهم يوميا" ويحسبون لها الحساب وهي ان مدفع واحد متنقل يشغلنا ويقلقنا بين فترة واخرى فكيف اذا كان هناك هجوم كاسح يقوم به الجيش والجحـوش على المنطقة؟ وما هي قدراتنا؟ وما هي خطة الطوارئ في مثل هذه الحالات ؟ وماذا اذا توقفت الحرب مع ايران وتفرغت السـلطة وحوّلت قدراتهـا العسكريـة الهائلـة بأتجاهنـا للقضاء على الأنصار والحركـة المسلحة الكردية ككل ؟ وماذا نفعل اذا استخدم في الهجوم الطيران والأسلحة الكمياوية ونحن لا نملك الأقنعه الواقية من هذه الأسلحة ولا كيفية تجنبها أو معرفة أنواعها وطرق العلاج منها ؟ اسـئلة كثيرة كانت تثار في كل مناسـبة عبر التنظيم العسكري والحزبي ولم يحصـل الأنصار على جـواب مقنع لها حتى يوم 5 / حزيران / 1987 حيث حصل ما توقعـه الأنصار مسبقا" وضربت المقرات بالسلاح الكيمياوي بعد ان اسـتفاد العـدو من اخطائه في الغارات الأولى وهذا ما سنتطرق له لاحقا" .

امثلة عديدة أخرى، ففي فترة ما قبل ظهر أحد الأيام بقليل دخل احد المهربين مع بغلين محملة بالمـواد الغذائية والخضروات موقع القاطع وعلى بعد امتـار من مكتب القاطع وألتف حولـه الأنصار مسرعين لشراء حاجاتهم منه بدون مبالاة أو حـذر واذا بمجموعة من طائـرات السوخوي تفاجئ الجميـع بغـارة سريعة وهي تلقي قنابلهـا وصواريخهـا بشكل عشوائي ولحسن الحـظ لم يصب احد بهذا الهجوم وبعـد دقائق عاد الأنصار ثانية لشـراء حاجاتهـم من الخضروات وممارسة اعمالهم العاديـة ولكن بعـد نصف ساعة تقريبا" عادت الطائرات من جديد لتلقي قنابلها اقرب الى موقع القاطع من الغارة الأولى وهذا يدل ان هناك من يوجه هذه الطائرات في المنطقة ويعطيها المعلومات عن اماكن تجمع الأنصـار، والجميع يعرف ان الهدف من هذه الغارات هو قتل اكبر عدد من الأنصار في اوقات تجمعهم، أما الحادث الثاني هو ما حدث في أثناء تشييع الرفيق خيري القاضي ( ابو زكي ) عضو مكتب القاطع الذي توفي في نوبة قلبية في صباح احد الأيام وتم تشييعه مع قيادة الفرع الأول للحزب الديمقراطي الكردستاني لغرض دفنه في مقبرة قرية زيوة الواقعة على تلة قريبة مشرفة على موقع القاطع واثناء مراسيم الدفن قامت مدفعية الجيش العراقي بقصف محيط المقبرة ولأول مرة بعدة قذائف وهذا يدل على وصول اخبار للسلطة بوجودنا في المقبرة، ولحسن الحظ لم يصب احد بهذا القصف ايضا" واختصرت مراسيم الدفن وعـاد الأنصار الى مواقعهم وتوقف القصف. ان هاتيـن الحادثتين تثبت لنا أن هناك الكثير من المندسين والجواسيس للسلطة في المنطقـة وخاصـة في الأحزاب الحليفـة من قبل الملتحقين الجـدد بالحركـة الكرديـة من القرويين عموما" وقد يكـون بيننا أيضـا" ورغم ذلك لوحـظ مع الأسف ان المسؤولين في سـرية حماية القاطع يعطون اهمية للملتحقين الجدد اكثر من اللازم دون التمحيص والتحقيق معهم بشكل جيد ووضعهم تحت الأختبار لفترة ووصل الأمر الى ان بعض الرفاق في السرية يثقون بالقروي الملتحق ويفضلونه على رفاقهم الأنصار أضافة لذلك عـدم التدقيق الجـدي في المعلومات التي تصلهم من رفاقهم حول الكثير من الملتحقين وتصرفاتهم اليومية المشبوهة ولدى قواطع الأنصار وافواجها العديد من الأمثلة على هذه الخروقات والتي اكتشفت بعد حين مسببة خسائر كبيرة رغم المعلومات التي وصلت عنهم وتم رفعها الى المسؤولين ولم يتخذ اي اجراء فعال تجاهها وهذا يبين مدى الخلل في احد جوانب الحركة الأنصارية.

كان كل ذلك يجري وفي سجن القاطع ضابطين كبيرين في الجيش العراقي وقعوا في الأسر بيد أحدى مفارزنا القتالية في منطقة العمادية أحدهما برتبة عميد ركن ويعمل مدرسا" في جامعة البكر للعلوم العسكرية والآخر عقيد ركن في نفس الجامعـة ووضعوا في سـجن القاطع بشكل رمزي، وللروح الأنسانية التي يتمتع بهـا الشيوعيون العراقيون تجـاه الأسرى تمت معاملتهم بكل احترام حيث كانوا يقضون معظـم اوقات النهار بين الأنصار ويأكلون معهم ولا يدخلوا قاعة السجن ألا عند المساء، لقد بقي الأثنان عدة أشـهر في القاطع وتعرفوا على كل شئ فيه وعرفوا مواقع سقوط القذائف وغارات الطيران وأسـلحتنا المضادة القريبة من السجن، لقد كانت هناك محاولات من قبل قيادة القاطع بمبادلتهم مع بعض الأسرى من عوائل الشيوعيين من اهل العمادية المعتقلين لدى السلطة الا ان هذه المحاولات فشلت كما يبدو، وقد تحدث هؤلاء الضباط بشكل صريح للأنصار وقيادة القاطع بأن السلطة تعرف كل شئ عن وادي زيوة وهناك خرائط عسكرية كاملة للمنطقة حيث يوجد المقر ومثبت فيها الأحداثيات وتدّرس هذه المعلومات في الجامعة لطلبة الأركان وبعد فترة من الزمن اطلق سراحهم بصفقة مجهولة رغم أعتراض الأنصـار كون ان السلطة تقتل وتعذب وتعدم الأسرى والجرحى من الشيوعيين وعوائلهم وتهاجم مقرات الأنصار بكل انواع الأسلحة ونحن نرحب بالاسرى ونطعمهم ونعالجهم ونطلق سراحهم بعد حين خاصة لضباط بهذه الرتب وهذه نقطة ضعف أصبح يدركها العدو لدى الشيوعيين وكانت من نتائج أطلاق سراح هؤلاء الضبـاط قصف المنطقة ومقر قاطع بهدينان بالاسلحة الكيماوية بعـد عـدة اسابيع وهـذا يبين ان هـؤلاء الضباط قـد رفـدوا السلطة عنـد عودتهم وإلتحاقهم بوحداتهم بمعلومات اضافيـة دقيقـة عن موقع المقر وامكانياته العسكرية أضافة الى اعطائهم الأحداثيات الدقيقة.

الهوامش ــــــــــــ

ـ  الصورة العليا لمطبخ فصيل الحماية أثناء البناء
- الصورة السفلى للرفيق ابو جميل