ظننّا، لسذاجتنا، ان مصطلح الداخل\الخارج قد انتهت مدة صلاحيته، أو على الأقل تراجع حضوره نتيجة احزان وكوارث متلاحقة ما انفكت تُلهي العراقييّن وتُنسيهم ما حدث بالأمس القريب، لحين سماع أصوات لمناضلين في حزبٍ مشهود له بالوطنيّة والأمميّة، تلهج بثنائية "شيوعيّو الداخل\شيوعيّو الخارج". المعروف عن مصطلح "الداخل\الخارج" الذي جرى ربطه على عجالة بأشخاصٍ قد غادروا العراق نتيجة الحروب والحصار، كانت جذوره قد نشأت زمن الديكتاتور كجزء من سياسة اجتثاث الأحزاب الوطنيّة وتعطيل الحياة السياسيّة في العراق، عمد يومها إلى ابتكار أساليب مخابراتيّة ودعائيّة لمتابعة وتشويه المعارضة السياسيّة بالشتات، ولكن دخول الاحتلال وتدمير الدولة العراقيّة، ولجوء المواطنين إلى قبائلهم وطوائفهم، هو الذي أطلق العنان للمغامرين وأمراء الحرب في ان يعيثوا بالبلد ويعيدوا إنتاج "الثنائيّة" ويشحنوها بأوهام وانفعالات ووسائل الغاء للآخر. كان التيار الصدريّ هو أول من ركب موجة "الداخل\الخارج" بعد عام على سقوط الصنم، فلقد كان الصدريون يرون أنفسهم أصلاء، ذاقوا اهوال القمع والحصار والحروب ولم يتركوا بلدهم العراق، في حين غادر الآخرون إلى إيران، عاشوا حياة جيدة هناك، أو على الأقل هي أفضل بكثير من حياتهم، وحين عادوا من الخارج صار لهم أسما كبيرا (المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة) وحضور سياسيّ وإعلاميّ مؤثر، بالإضافة إلى قوة تسليحيّة هائلة تكفلت بها إيران. تحت يافطة "الداخل\الخارج" شهد الشارع النجفيّ يومذاك صراعات واتهامات كان يطلقها أحدهم ضد الآخر عند كل مواجهة مسلّحة بينهما؛ الصدريون يلعنون المجلسييّن ويطلقون تهم الخيانة والعمالة بحقهم، في حين يرد الأخيرين عليهم بتهم الانحراف واللصوصيّة، ويعيروهم بأن جل مقاتليهم هم ضباط بعثيون ورجال أمن سابقون. كان التطاحن من أجل المكاسب والنفوذ بين الأحزاب الإسلاميّة قد لبس اثواب دينيّة وسياسيّة، كان فيه تعبير "الداخل\الخارج" رش للرماد في عيون البسطاء ودفعهم لقتال أبناء جلدتهم، وفي ذات الوقت تعطيل للسؤال؛ ما الذي يدفع أولاد مراجع دين كبار، جدهم رسول الله، لأذلال أحدهما الآخر، عبر مواجهات مسلّحة تسيل فيها دماء الأبرياء في الشوارع وداخل الاضرحة المقدسة؟

الإسلاميون ليسوا هم فقط من غادر العراق هربا من سيف الديكتاتور، فلقد غادر قبلهم وبعدهم الكثير من المثقّفين، نفيا او هجرة، إلى دول الجوار وبلدان الّلجوء البعيدة، استمر فيه أغلب منتوجهم الثقافيّ عن العراق والعراقييّن، حاملين وطنهم بين جناحيهم وهو يتنقلون من بلد إلى آخر. ولكن عندما تتناسل الأزمات في بلد، من دون تغيير حقيقيّ، فإن الخراب سيعم كل مناحي الحياة، منها الثقافية، وستجد ثنائيّة "الداخل\الخارج" مساحة للظهور وتصفية الحسابات، لتكون وسيلة أخرى من وسائل تقسيم المجتمع إلى طوائف وقوميّات وأعراق. لكن مناوشات المثقّفين، والحق يقال، كانت أكثر رحمة في صفحاتها، وانشغلت بالتشكيك والتخوين والسخرية، من دون اللجوء للتهديد والسلاح، كما هو حاصل عند الأحزاب الطائفيّة. الكثير من المثقّفين يدركون جيدا حقيقة ان المنتج الثقافيّ بحاجة إلى خبرات وأعوام قد لا يكون توصيف الجغرومكاني حاسما في جودته، ويدركون أيضا ان ثنائيّة "الداخل\الخارج" فقاعة لا تعطل المشترك الثقافيّ العميق الجذور، ولكن الذي لم يدركوه بعمق هو إن تفضيل أحدهما على الآخر، لأسباب شخصيّة او سياسيّة او طائفيّة، يُعد سقطة مؤلمة، إذا لم تسِئ للثقافة العراقيّة فهي قطعا لا تخدمها. وقد لا نأتي بجديد في قولنا ان الكثير من المثقّفين العراقييّن الذي عادوا إلى قبائلهم، والذين اكتشفوا متأخرين طوائفهم، وظّفوا التقاطع الجغرافيّ "الداخل\الخارج" لأغراضٍ لا علاقة حقيقية لها بمشاكل المجتمع وثقافته، وكان فيها الكثير من المصالح الشخصيّة وتصفيات الحسابات. أردنا القول ان الذين تشبثوا بالأرض وعانوا قمع الديكتاتور وحروبه، أو الذين بقوا في الداخل وعملوا في مؤسسات الدولة الرسميّة، هم الأعلى صوتا في الحديث عن ثنائيّة "الداخل\الخارج" وهذا ليس اتهاما او انتقاصا من أحد بقدر ما هو توصيف لحالة موجودة، إذ لم يكن شائعا تشكيك مَن هم في الخارج بزملائهم بالداخل، وكانت قلوب المنفييّن ورسائلهم الشخصيّة ونصوصهم الأدبيّة مليئة بالألم والتضامن حين يأتي الحديث عن معترك العراقييّن الداخليّ.

إنّ الهجمة الشرسة التي كانت تهدف استئصال الحزب الشيوعيّ العراقيّ (1979) كانت قد بعثرت قيادته وقواعده في دولٍ عدة، وقطعت خيوطه التنظيميّة مع مَن هم في الداخل. يومها كان الانشغال بإنقاذ ما تبقى من المناضلين خطوة أولى تسبق مواجهة سلطة البعث، ولم ينتبهوا لتقسيمات سياسيّة وأفضليّات حزبيّة وحقوق فرديّة أو جماعيّة أو مناطقيّة، لحين سقوط الصنم وتشكّل العمليّة السياسيّة المشؤومة وتمأسس الفساد. المتتبع لتاريخ الحزب الشيوعيّ العراقيّ يعرف جيدا حقيقة ان فصوله لا تخلو من الصراعات الداخليّة، تارة ينجح في أدارتها وتارة يفشل. فبسبب أممية الحزب واحتواء تنظيماته لكافة العراقييّن تظهر خلافات فكريّة إلى جانب علامات استفهام على أسماء بعض القادة، وأحيانا يطول الحديث عن "تكريد" الحزب في فصول من نضاله، وقد تظهر للعلن اعتراضات المناضلين القدامى على خطوة سياسية، كما حدث في تحالف سائرون، ولكن لم يجرِ الحديث عن ثنائيّة "الداخل\الخارج" في أدبيات الحزب ومؤتمراته. ولكننا تعودنا عند أبوب كل مؤتمر للحزب تظهر آراء، معقولة أو غير معقولة، تطالب بتغيير اسم الحزب أو بالتخلص من الحرس القديم او تطالب بانتقاد الحزب لسياساته الخاطئة، ولكن الجديد على أبواب المؤتمر الحادي عشر ظهور مقالات تطالب بإنصاف الشيوعييّن الذين بقوا في الداخل، مستلهمة ذات الثنائيّة "شيوعيّو الداخل\شيوعيّو الخارج". الشيوعيون بالـــ "الداخل" يرون انهم وقع عليهم العبء الأكبر والأخطر في الحفاظ على التنظيم الحزبيّ داخل البلد، بعد ان غادرت قيادات الحزب وكوادره خارج الحدود، وانهم بسبب اصالتهم وحقيقة معاناتهم جرى تغييبهم حتى لا تنكشف الحقائق التي تركها الحزب خلفه. الشيوعيون في "الخارج" تحدثوا بصوت خافت عن دورهم اللوجستي في دعم الحزب بالمقاتلين والأموال والنشاطات الإعلاميّة والتضامنيّة. أما "الأنصار الشيوعييّن" فهم خليط من الداخل والخارج، من كافة أقوام العراق وأعراقه، يرون ان بنادقهم وشهدائهم واعتصامهم بالجبل عشرة أعوام هو الذي حافظ على الحزب. ويرون ان تجربتهم الناصعة والدامية باتت تشكّل احراجا للحزب في سياساته الضعيفة بعد دخول الاحتلال، ولذلك جرى تهميشهم. في الحقيقة الحديث يطول عن توزّع الشيوعييّن العراقييّن على ساحات نضال مختلفة، فعلى الرغم من ان الجميع يسترشد بنظرية واحدة ونظام داخليّ واحد ولجنة مركزيّة واحدة، وان أساليب نضالهم تتماهى وتلتقي رغم التوزع الجغرافيّ، الاّ ان هناك الكثير من الخصوصيّة والتفاصيل والاسماء والغبن الذي تشعر به كل مجموعة منهم.    

إنّ أرث المظلوميّة الذي وظّفه الشيعة والكورد لأغراض باتت معروفة للجميع، انسحب بشكل مؤلم على خارطة العراق، المنفيون يشكون معاناة المنفى وشظف العيش في مجتمعات لا يعرفوها من قبل، وفي ذات الوقت الذين لم يهاجروا كذلك يشكون سلطة الديكتاتور ظلمه وحروبه وأعوام الحصار. في حين ان كلاهما، الداخل والخارج، كان منتهكا ومسلوبا، كل من موقعه وطبيعة ظروفه. زمن الديكتاتور ما كان المواطن، خصوصا السياسيّ المعارض، يُخيّر بين الرحيل والبقاء، وكان المنع من السفر هو السائد بالبلد، وقوانين الإعدام هي الكفيلة بحل المشاكل العالقة. من جهة أخرى فان العراقييّن لم يألفوا الهجرة البعيدة، وكان مَن يسافر إلى مدينة قريبة يُرش خلفه الماء وتُطش عند غروب الشمس حبات الشعير السبع حول حبة حنطة لمعرفة خط سير المسافر، بل حتى أغانيهم وقصائدهم تشكو مرّه ومراره، لحين الربع الأخير من القرن الفائت عندما جرى قتل ونفي الألاف لأسباب سياسيّة لم يستطيعوا فيها العودة لبلادهم، وقسم آخر جرى تهجيرهم بالقوة لأسباب طائفيّة وأمنيّة. ذاقوا فيها الأمريّن. وبعد أعوام هاجر قسم ثالث من العراقييّن لأسباب اقتصاديّة أو شخصيّة تاركين خلفهم مسافة للعودة. وهذا التوزع المكانيّ والزمانيّ ليس نسخٌ بعضه عن بعض، فلكل منهم ظروفه ومتغيراته، ولا يجوز وضع الكل في سلة واحدة أو حصره في مصطلح واحد "الخارج". ونختم بالقول إنّ ثنائيّة "الداخل\الخارج" لم تكن ذا جذور دينيّة حتى تنحت مصطلحها من فتاوى المشايخ وقصص التاريخ الإسلاميّ، ولم تكن سياسيّة مبنية على مصطلحات ومفاهيم السياسييّن عن الصراع، ولا حتى ثقافيّة مستندة إلى نصوص المثقّفين ونتاجهم، بقدر ما هي خليط مشوه من كل ذلك، انتجها الخراب المجتمعيّ طوال نصف قرن من الحروب والحصار وتردي القيم. وهو قادر على إعادة إنتاجها بما يتماشى مع مستجدات الخراب الحاصل بالعراق.