كل شيء عند المتديّن ينطوي على سر، على قدرة ربانيّة تجعل الحجر مزارا والحيوان شفيعا، فمن يؤمن بالغيب لا حدود لمخيّلته في إنتاج طقوس ورموز وشعائر تعمّق إيمانه، وتعينه في تحمّل صعوبات الحياة اليوميّة. وهو، المتديّن، لن يعاني كثيرا في استحضار الشواهد والحوادث من المصادر التاريخيّة التي تؤكد طقوسه ورموزه، فمنذ القِدم كان لظواهر الطبيعة ومفرداتها قداسة بدائيّة، تُشفي وتُطهّر وتُخلّد الأرواح، استلهم منها الأوائل اساطيرهم وحكايّاتهم، ثم ارتبطت تلك الظواهر بالأديان، وبعدئذ ارتبطت بالطوائف، وهي في طريقها إلى ان تكون مهزلة يتنكر لها حتى اصحابها. فالطقوس والرموز والمزارات كغيرها من نشاطات الإنسان، تارة تتعقلن وتارة أخرى تتعفن وتغيب، لتحل محلها مزارات أخرى تداوي علل أخرى.

على العموم بالإمكان النظر إلى كل الموجودات على ان لها أصلا مقدسا، يتماشى مع طقوس وشعائر تختلف من بلد إلى آخر ومن دين إلى آخر، بل تختلف تفاصيلها أحيانا في الملة الواحدة، وهو ما أدى إلى تنوّع صور المقدس، فتارة يتجلى بالنبات وتارة أخرى بالحيوان وثالثة بعالم الأموات والقبور. وهناك الكثير من الأضرحة والمزارات الوهمية بالعراق انتجتها مبادرات فردية، بسبب حلم او نداء او مخيّلة ناشطة، حوّلتها الزيارات اليوميّة إلى ممارسة عباديّة جماعيّة؛ مزار لعلاج الأمراض وآخر للرزق وثالث للنجاح ورابع.. وخامس، فالمزار الوهمي تنتعش مكانته في تراجع اعمال العقل وفي تأزم حاجات الناس وانسداد أبواب الأمل. والمتتبع لظاهرة المزارات الوهميّة بالعراق سيجد ان عامة الفقراء والمحتاجين هم الذين اشادوها وعلقوا عليها نذورهم ورجائهم، وأحاطوها بالقصص والكرامات، وما يتفق عليه العامة يكون مقبولا حتى لو انتجته مخيّلة فرد معزول سمع صوتا مناديا في المنام. ولا ندلي بجديد في القول ان ظاهرة المزارات الوهميّة انتشرت في أماكن معيّنة، بين تجمعات مذهبيّة في وسط وجنوب العراق، تعاني أشد أنواع الفقر والاهمال. ومن ينتمون لبيئة واحدة، ويعانون ذات المعاناة، تنتشر الاوهام بينهم كالعدوى. اغلب هذه المزارات تناثرت على الطرق الخارجيّة والارياف البعيدة، اتخذت لها أسماء مذهبيّة وقبب شيدها أصحابها على عجل، تجاوزت فيها مزارات بنات "الحسن" فقط العشرات، مع انه لا توجد وثائق او مصادر تؤكد ان للــ"الحسن بن علي" كل هذه الذرية. الشائع عن هذه المزارات انها دكاكين للتكسب، من مهامها صنع الرجاء والوهم عند المساكين بعد ان نشفت في البيت والشارع؛ مزار متخصص بالعقم وآخر بمرض السرطان وثالث بجمع المال.. أما المواطن العراقي فهو بطبيعته طيب القلب وسريع التصديق، وما ان يتم الحديث بخشوع عن المزار، واستحضار بضعة أسماء واحداث من الماضي البعيد تثير الحزن في المخيّلة، حتى يُهدم جدار الشك عنده، وتتفتح اسارير وجهه. وبمرور الأيام ومع تزايد النذور والخيوط الخضر "العلگ" سيكتسب المزار غموضا وقوة، إلى جانب حكايات عن العاقر التي حملت وعن المريض الذي شُفيّ وعن الغائب الذي عاد. واللافت ان انتشار المزارات الوهمية هو في حالة تكاثر وتحوّل مرتبط بحاجات الناس اليوميّة، قد يتراجع فيه دور مزار لإفساح المجال  لمزار آخر يلبي حاجات أخرى، الأمر الذي أدى إلى غياب إحصائية نهائيّة لعدد هذه المزارات. ولو عاينا حجم المزارات الوهميّة بالعراق فسوف نصاب بالعجب، بعد ان تجاوزت اعدادها (3000) مزار، لم توافق فيها الأمانة العامة للمزارات الشيعيّة سوى على (170) مزار. ذلك يشير إلى ان وجود أضرحة أئمة آل البيت في كربلاء والنجف وبغداد وسامراء، وما تمارسه من دور مهيمن من الناحية التاريخيّة والعاطفيّة على الشارع العراقي، لم تمنع من تناسل المزارات الوهميّة في الوسط والجنوب. صحيح ان هذه المزارات محليّة، استلت اسماءها من مصادر تاريخيّة غير موثوقة، ارتبطت بالمذهب وليس بالدين، وان أصحابها لم يفكروا بمزاحمة أيّا من المراقد المقدسة لأهل البيت، ولم يأت ببالهم إنها استعلاء على الذوق العام بالمجتمع، فهم يتجمعون عند المزار لقراءة المجالس الحسينيّة وتقديم النذور والادعية، وهناك من يأتي ليصلي وينام قرب المزار، لمزيد من الهدوء وراحة البال. ولكن هذ لا يقلل من حقيقة ان هذه المزارات قد تثلم قداسة أضرحة أهل البيت وتؤثر على حضور الدين، وقد تزيد من الهيجان الطائفيّ وتبرر العنف المستشري بالبلد. فللوهلة الأولى تبدو للمزارات الوهميّة وظيفة اجتماعيّة أكثر منها دينيّة، تحاول فيها جمع الناس والتخفيف من معاناتهم، إلا ان المقدس والدنيوي يجاور أحدهما الآخر، يزحف احدهما على الآخر لأثبات الحضور. ومثلما نرى بالمسجد والحسينيّة وأضرحة الأئمة أماكن جذب للعبادة فإن المزارات الوهميّة هي الأخرى تسلّحت بتمثلات دينيّة وشعائر ورموز وقصص لأولياء ومشايخ، ثم تحوّلت بمرور الأيام إلى ساحة جذب في العراء، تأخذ من المسجد والحسينيّة وضريح الأمام، دون ان  تعطيهم شيئا. ولذلك من طبائع الأمور ان تهتم المرجعيّة الدينيّة بأوقاف وأعمال ونذور مدن الأضرحة بكربلاء والنجف وبغداد وسامراء، ولم تعطِ أية صفة أو تراتبية للقبور والمزارات الوهميّة. وهذا التفاوت المكانيّ والعباديّ والطبقيّ يخبئ صراعا مكتوما لا تستطيع فيه المرجعيّة الدينيّة الصدام المباشر مع إيمان البسطاء بالمزارات الوهميّة. لأن المرجعيّة معنية بالحفاظ على طاعة مريديها، وقد لا تستطيع الاستمرار في ذلك دون مستوى من غض الطرف عن أوهامهم. ناهيك عن ان للمرجعيّة الدينية تاريخ في الصمت على الخروقات، فلقد سبق لها ان صمتت على ممارسة شعائر تحتوى نسب معينة من العنف، كشج الرؤوس وجلد الظهور ولطم الصدور. وصمتت على ارتباط هذه الشعائر بوظائف سياسيّة واجتماعيّة ومذهبيّة، بدت في أحد فصولها اشبه باستعراض طائفيّ لعسكرة المجتمع، فيها الكلام واللباس والرايات تشير إلى هذا التيار او ذاك، وفيها الخشوع وإقامة الشعائر والحزن على مصائب آل البيت يسيرون جنب إلى جنب مع القتل ونهب المال العام وتهديد الامن المجتمعيّ.

ان جعل الخروف مزارا ووسيطا بين الله وعباده، وتعليق النذور على جذع النخلة يشير إلى ان العبادات التي سبقت ظهور الأديان بقيت راكدة في زاوية من الذاكرة الجمعيّة، لم تستطعْ الكتب السماويّة وسير الأنبياء محوها. صحيح ان أغلب هذه المزارات الوهميّة هو حديث العهد، جاء اشبه بردة فعل على ممارسات الديكتاتور القمعية، إلا ان الظاهرة أعمق وأقدم من ذلك بكثير، وهناك شعائر وممارسات تمتد جذورها إلى ما قبل الأديان، فيها شبه كبير بالعبادات "الطوطميّة" البدائيّة التي تقدس الشجرة والحيوان والماء والحجر. هذا يجرنا للقول انه لا يمكننا فهم ظاهرة المزارات الوهميّة  كنشاط معزول من دون الرجوع للتاريخ ولثقافة الأضرحة والقبور والشعائر عند المذهب الاثنا عشري، لأنه في هذه الحالة سيبدو هذا النشاط خارج السياق، يبدو نزوة او بدعة. ولذلك نجد ربط ظاهرة المزارات الوهميّة بالجهل ليس شرحا مقنعا لها، بل حتى ازدراء الظاهرة او التعامل معها بالــ"العقل" فيه اجحاف أحيانا بحق الفقراء وحياتهم البسيطة. لأنه لا يمكننا على الدوام وضع ظاهرة المزارات الوهميّة بين ثنائيّة الصح والخطأ، فهناك الكثير من الأسباب التي أسهمت في انتشار الظاهرة، منها ترييف المدن وانتشار عشوائيات الفقر وضعف الثقافة الاجتماعيّة وهيمنة التديّن الطائفيّ وغيرها من العوامل التي تجمع بين الدينيّ والعاطفيّ والنفسيّ، يتراجع فيه كثيرا دور العقل ودور الحقائق التاريخيّة التي تؤكد صحة، او عدم صحة، مزاراتهم وطقوسهم.

في الحقيقة نحن لا نشكك في ايمان البسطاء وفي بحثهم عن الأمان وتحقيق الرجاء، لكننا نشكك بطبيعته وبمعالجته لمشاكل المجتمع. فالبحث عن الرجاء قرب النخلة "العلوية" قد يجد له مصدقين ومؤمنين كثر. وإذا توسعت رقعة زيارات النخلة فقد تتحوّل بمرور الأيام إلى سلوكٍ جمعيّ، احتفالي، يؤثر على الافراد المحايدين والمتشككين بجدوى المزار الوهمي. ولا نستبعد تأثير ذلك على العقول المتعلمة نسبيا، التي كانت بالأمس القريب لا تؤمن بالمزارات الوهميّة في حل مشاكل المجتمع، لتجد نفسها منخرطة في طقوس الزيارة والنذور والدعاء قرب نخلة أو عند عمود كهرباء بأطراف المدينة، فالــ(الطبيعة لا تحب الفراغ).