حكاية ونَص:

في الأول من تشرين...

يا "هادي" (*).. يَتعقبُهُم جُرحِكَ.. في ساحات المنتفضين!!



في مطلع انتفاضة 2011، تلقيت بحزن صادم نبأ اغتيال المخرج المسرحيّ والإعلاميّ العراقيّ (هادي المهدي) من قبل (جهة مجهولة معلومة!)، الفنان الذي كان في مقدمة دعاة التغيير الذين أصروا على استمرار التظاهر في كل يوم جمعة بساحة التحرير...احتجاجاً على الخراب الذي فرضته (حكومات المحاصصة) وعلى سياسة النهب، والخطف، والقتل، والترهيب!

منذ عودته من المغترب الدنماركي عام 2004، وهو الذي هرب من العراق بعدما شارك في انتفاضة الشعب عام 1991 ليتنقل بعدها بين دمشق وبيروت وكوردستان العراق، حتى وصوله الى الدنمارك!

في يوم تشييعه الرمزي من بيته في الكرادة حتى (نصب الحرية) في ساحة التحرير، منعت عناصر الأمن المشيّعين من حمل نعش رمزيّ له ملفوف بعلم العراق، لكن الشباب واصلوا تشييعهم هاتفين مرددين:

(كاتم الصوت بوطني يغتال كلمن وطني)!

وتعقيباً على ما نشره الصديق (حسام مهنا) غداة الاغتيال بعنوان (كاتم الصوت...ظاهرة غريبة!) ...

كَتبتُ اليه رسالة...جاء فيها:

منذ انبثاق وميض المعرفة في كينونة ذلك الوحش الهائم في البراري والغابات والكهوف لتجعل منه (نوعاً) جديدا من الكائنات أسْموهُ (الإنسان)..

نشأ معه (كاتم الصوت) وباءً في مداركه، على هيئة أنظمةٍ، وعقائدَ، وقَتَلَةٍ، ووسائل إرهاب في محيطه الاجتماعي...متلازماً مع صيرورة ذلك الألق المعرفي في عقله!

فتفجر الصراع الأزلي/ الأبدي...عبر فضاء الزمن بين (الإنسان. منتج الثقافة!) وبين (التخلف مُنتج كاتم الصوت!) ... وصارت مصائر الأمم والأفراد تتنازع وتتدافع بين التحضر (الثقافة)، والتخلف (كاتم الصوت)!
فـ(المثقف) مُنتِجْ معرفة متنامية لإطفاء التخلف...مُنتِجُ (ثقافة) تُفصح عن نفسها بـ(صوتها)... فوجد نفسه منذ طور (التَعَقُلِ) الأول بمواجهة (كاتم الصوت) بصفته (نتيجة وأداة) لسلطة التخلف، لخنق صوت (الثقافة) بكتم صوت مُنتِجِها!
تتنوع أصوات (منتجي الثقافة) ...مثلما تتنوع وسائل وأساليب وشرائع وتنظيمات ومواقع وأزمنة (كواتم الصوت)!
فهناك:

مدن كاتمة للصوت!
شوارع كاتمة للصوت!
أحزاب كاتمة للصوت!
حكومات كاتمة للصوت!
أزمنة كاتمة للصوت!

كتب كاتمة للصوت!

محاكم كاتمة للصوت!
مشاهد كاتمة للصوت!
أنظمة كاتمة للصوت!

شرائع كاتمة للصوت!
أصنام سياسية ودينية كاتمة للصوت!

قوانين كاتمة للصوت!
جيوش كاتمة للصوت!

عقائد كاتمة للصوت!

ذكريات كاتمة للصوت!
شعارات كاتمة للصوت!
أفكار كاتمة للصوت!
خلال أطوار الصراع التاريخي بين (مُنتِجي الثقافة) و(منتجي كاتم الصوت) ...حاولت (كواتم الصوت) إخماد ملايين الأصوات الساعية لاجتثاث التخلف من العقول ومن نمط الحياة!

ورغم اكتظاظ صفحات التاريخ بقبور (منتجي الثقافة) الذين اغتالتهم (كواتم الصوت) ...لكن الحياة أكدت امتداد واتساع صدى أصوات الثقافة المُبَدِدة للتخلف عبر عقول الأجيال في التاريخ ...فيما طوى النسيان أخبار (كاتمي الصوت) الذين أخمدوا حناجر صادحي أصوات الثقافة الشجاعة!
فـ (الثقافة):

انقراض للتوحش وبزوغ لفجر التمدن!
ومصادر (كاتم الصوت) ومُنتجيه وأسبابه وأدواته هي:
التخلف الذي ينتج التطرف...
والتطرف الذي ينتج القَتَلة...

والقَتَلة الذين يُنتجون أدوات (كواتم الصوت) على اختلاف أنواعها!

فـ (كواتم الصوت) تتغير وتتبدل مع مدى عمق الصراع مع (الثقافة)!

وتأخذ أشكالا مختلفة في كل طور من أطوار الصراع...

لكن (كاتم الصوت) على امتداد تاريخ الصراع...عَجَزَ عن كتم صوت العقل الداعي للتغيير الارتقائي!

فـ (السم الزعاف) عَجَزَ عن كتم صوت (سقراط) !
و(مسامير الصليب) عَجَزَت عن كتم صوت (الرسول عيسى بن مريم)!
و(التهجير من مكة) عَجَزَ عن كتم صوت (الرسول محمد بن عبد الله)!

و(خنجر أبو لؤلؤة فيروز الفارسي) عجز عن كتم صوت (عمر بن الخطاب)!
و(سيف بن ملجم المسموم) عَجَزَ عن كتم صوت (علي بن أبي طالب) "!
و(المحنة العباسية) عَجَزَت عن كتم صوت (ابن حنبل)!
و(نخلة المقتدر) عَجَزَت عن كتم صوت (الحسين بن منصور الحلاّج!)
و(المشنقة الملكية اللقيطة) عَجَزَت عن كتم صوت (يوسف سلمان فهد)!
و(الرصاص المستورد) عَجَزَ عن كتم صوت (الزعيم عبد الكريم قاسم)!
و(بيان رقم 13) عَجَزَ عن كتم صوت (سلام عادل)!
و(الغازات السامة) عَجَزَت عن كتم صوت (حلبجه)!
و(المفخخات المتوالية) عَجَزَت عن كتم صوت (الشارع العراقي)!
و(القبور الجماعية) عَجَزَت عن كتم صوت (الانتفاضات)!
و(الغزو الهمجي) عَجَزَ عن كتم صوت (العراق المقاوم)!
و(التهميش الطائفي والعرقي الممنهج) عَجَزَ عن كتم صوت (الوطن والمواطن)!
و(كاتم الصوت) سَيعجَزُ عن إخماد (ثقافة) كامل شياع وهادي المهدي والمئات من شهداء انتفاضة الوطن غيرهم. وسَيزيدنا اعتزازاً بإخوتهم وأصدقائهم داخل الوطن، الذين يواجهون التخلف الأسود بضياء الثقافة...

وسَيعجز (كاتم الصوت) عن منع المثقفين في الغربة من العودة للمشاركة في بناء الوطن!
واليوم إذ يستمر تلبد ظلام التخلف على وميض العقل في العراق...ويفرز التوحش أشكالاً مُفزعة لـ(كواتم الصوت)، وأهدافا مُفجعة للتخلف البدائي المدجج بالكراهية وبـ (كواتم الصوت)!
ينشأ السؤال الأكثر إلحاحا:

من المسؤول عن طغيان (كاتم الصوت) في العراق؟!
باختصار:
إنه (التخلف!)

ومن أين ينطلق (كاتم الصوت) لقتل عقول العراقيين؟
باختصار:
ينطلق (كاتم الصوت) من المتطرفين المنتمين للحركات، والأحزاب، والتيارات، والمنظمات (الدينية والطائفية والقومية والعقائدية) داخل السلطة وخارجها، ومن أولئك المتطرفين العاملين في الأجهزة الحكومية وغير الحكومية، ومن قوات الاحتلال وشركاتها الأمنية العلنية والسرية!

ومن هم أهداف (كاتم الصوت) في العراق؟
باختصار:

جميع العقلاء الوطنيين البُناة، ومنتجي الثقافة الإبداعية التنموية، ومبددي عوامل التخلف، وفاضحي اسرار الفاسدين، ومناهضي الفتنة الطائفية والعرقية!

وأولهم استهدافاً...أصدقهم فعلا وأفصحهم قولا!

كما قلنا منذ سنين طويلة سوف لن يكون الفتى الباسم (منتظر الحلفي) ولا المثقف الصادق (كامل شياع) ...ولن يكون (هادي المهدي) آخر من يتلقى رصاصة في رأسه لإيقاف عقله المتمدن عن التفكير بالخلاص من توحش وتخلف (كاتم صوت)!
سيغدر المتطرفون بكل خصوم التخلف...خصوم التطرف العاجزين عن حماية أنفسهم بالمدرعات والفرق المدججة بالسلاح...إن لم تفصح الحكومة لوسائل الإعلام عن:

(أسماء عصابات القتلة!) التي (يعرفها!) الشعب، عبر السنوات التي أعقبت الاحتلال وسقوط الدكتاتورية!

وإن لم تُفضح عن أسماء وعناوين الجهات الواقفة، وراءها محليا، وإقليميا، ودوليا!

وأن تبين أسماء ضحاياهم...ولماذا؟!

وأن تكشف عن هوية (كواتم الصوت) المستخدمة في كل عملية من عمليات الغدر التي نفذوها!
فمن المريب والمخزي أن تعلن السلطات الأمنية:

(إلقاء القبض على مئات العصابات الإرهابية والخارجة على القانون)!

وبعدها يسدل ستار الصمت الذي يؤكد الشكوك بتورط السلطة ومن يقف معها ووراءها في صناعة واستمرار التستر على جرائم الغدر بعقول العراقيين في وضح الصبح بـ(كواتم الصوت)!!
ولهذا نقول:
حذار من التستر على أسماء قتلة العراقيين بتواطئ بين القتلة المتسلطين!

رغم إدراكنا بهشاشة الدولة...وتبعثر السلطة بين المتحاصصين... والتباس العديد من القضايا الوطنية الشائكة بين المتوافقين في العلن والمتناحرين في السر!
فـ (دولة الوطن والمواطن) ...التي يسعى العراقيون لبنائها...لا تستقيم مع:

إخفاء أسماء المجرمين المتطرفين (المنفذين والمُشَغلين!) الذين كشفت التحقيقات عن جرائمهم في جميع المدن العراقية!
وعدم فضح انتماءاتهم وارتباطاتهم!
وتركهم ينهشون في خلايا الدولة والمجتمع!
ويغدرون بخيرة عقولنا وأخيار أهلنا الأبرياء!
ويختارون ضحاياهم في وضح النهار!

وهذا لن يبرئ السلطة من مسؤوليتها عن استمرار (كاتم الصوت) في قتلنا وتمزيق شعبنا ووطننا!
ولن تحمي المدرعات والعساكر الجرارة حياة الساكتين عن جرائم المتطرفين والقتلة من أن تمتد إليهم يد (الغدر!) من تحت جلودهم...

لأن (كاتم الصوت) يستوطن في جميع مكونات الدولة والمجتمع بما فيها القريبة من رؤوس السلطة وأذرعها وقواعدها!
وتتعارض دولة (الوطن والمواطن) مع نهج:
الانصياع لابتزاز الإرهابيين والخارجين على القانون...القائل:

(إن لم تسكتوا عن جرائمنا ونحصل على حصتنا من غنائم السلطة...سنفجر الفوضى الدموية من جديد!)

ذلك النهج الذي عكس مدى:

التستر (التنافقي!) على الجرائم التي ارتكبتها عصابات تنتمي للحركات السياسية المشاركة بـ(العملية السياسية التي صنعها المحتل تحت ظلال الدبابات)!
وفضح مدى المساومة على دماء العراقيين مع الدول الإقليمية والمجاورة المتورطة بالمذابح في العراق!

لإرضاء المحتل أو لقبول نظام المحاصصة العراقي في الحظيرة العربية أو الإقليمية!
والمساومة على كيان الدولة ومصير الشعب والوطن وثرواته ومصالحه لصالح المكتسبات الفئوية الآنية الضيقة في هذه المرحلة القلقة من تاريخ بلادنا!

دون إدراك منهم:

إن ما يمكن الاتفاق عليه بين المتحاصصين وقبوله في ظل الاحتلال (اليوم) قد لا يجد من يبرر قبوله والانصياع له بعد زوال الاحتلال...الذي يفضي بالضرورة إلى تفتت (شُلَّةِ) المحتمين به!
إن منجاتنا جميعا في إقامة (دولة الوطن والمواطن).. الدولة المستقلة الديمقراطية الاتحادية العادلة. الدولة التي تقوى بحماية واحترام ورضا مواطنيها، لا بتزكية ورضا الأجنبي أيا كان... دولة الوطن ذو السيادة الكاملة والمواطن ذو الحقوق الناجزة!
ولكن...كيف يمكن تحجيم سلطة (كاتم الصوت)؟
باختصار:
من خلال التنمية الشاملة لاستئصال التخلف من جميع ميادين حياة العراقيين!
وإبعاد الطائفيين والمتطرفين والفاسدين عن مراكز القرار والسلطة والإدارة والسلاح والثروة...
والكشف عن أسماء وانتماءات القتلة والواقفين وراءهم...وإحالتهم علنا إلى قضاء عادل...مستقل!
فليس من المنطقي تجنيد كتيبة للدبابات لحماية كل قلم شريف أو عقل نظيف أو كف عفيف...وهم كُثْرٌ في عراقنا...رغم أوبئة التخلف الخانق والفساد المتفشي التي اجتاحت مجتمعنا!

وبعد أن بعثت رسالتي من على سرير المرض في المستشفى...جلست في خلوتي وأمامي صورة (هادي المهدي) مخاطباً إياه:

يا "هادي".. يَتعقبُهُم جُرحِكَ.. في ساحات المنتفضين!!

مثل ذئاب العصرالـ ـ ما قبل الإنسان ـ يخوضون سكونَ البيتِ الآمن بحثا عن "هادي"!

وبأيديهم أمر السلطان (القاجاري) المفقوء العينين..

وكاتمُ صوتٍ إفرنجي!

قالوا للصمت المفزوع بجدران البيت:

أفصح عن أحلامِ الصوتِ الناشغِ خلفَ بُزوغ الفجرِ..

أو..

 تلك رصاصاتٌ.... موتٌ..

من حقل البترول الآسن..

للرأسٍ اليَجْهَرُ بالعدل..

لتوزيع البترول على المرتجفين من البؤس القارس!

للصوتِ المخنوقِ..

اليَكشفُ سِتراً عن كومِ فطائس..

أسموها في عرفِ عقائدهم كَنزَ نفائس!

***

صالوا في حجرات البيت بلا أفواه..

والكاتم يسبقهم باسم الله..

قالوا:

يا “هادي"..

إنّا (جُندٌ!!) مأجورين بكتم الأصوات التنبس شراً بالمحتلين..

وبجوقة أسلاف الجلاّدين!!

نَثروا أوراقَ (الجمعةِ) (1) في وجه (خميس) الموت!

بحثوا في (الجمعةِ) ذُعْراً عن (جمعة) صبيان التحرير!

وجدوا حَرفاً مجروح الخَدين. وبِكَفَّيهِ غُبارٌ من طَلْعِ النَخل!

قالوا للحرف المَزْمومِ الشَفَتَينْ:

ادخل بيتَ الطاعةِ للسلطان القادمِ في حافلةِ المحتلين..

اصعد رَقصاً بمديح (السفّاحين)..

اكتم أنفَك مِن عَفَنِ السَلاّبين..

أو..

اخرس. لِتكونَ نَسِيّاً بين حشود المنسيين!!

***

هربوا من تحت حذائك مذعورين..

يتعقبهم جُرحَكَ في ساحات المنتفضين!!

***

صرخت أُمٌ في (الديوانية (2)) عصراً:

قَلبي ينبئني..

"هادي" مُنفرداً بين نيابِ وحوشٍ مُنفلتين!!

****

يا “هادي":

هل سألَتْ أُمُّكَ في ليل (الديوانية)...عن زمن يُقتَلُ فيه الفَجرَ على قارعة الأفّاكين؟!

هل حَمَلَتْ (رفضا!) ضوءاً...تسعة أشهر...لتُبَدِّدَ حَلَكَ المحرومين؟!   

هل فَضَحَت أسرارَ الطفلِ العابِثِ جهراً بِنقيِّ الطين..

كي يتلو بسبابته الحنطة...آيا من ذكر الله...مُطَهَّرةٌ من أفعال الدجّالين..

ويَنْفِذُ حراً من (إسلام السيّافين)؟!!

****

يا “هادي"..

ما زال الفتيانُ يَخطّونَ الرفض على لافتة الخوصِ...بأفياء (جَواد)(3)..

وبأيديهم وَعدٌ مِنكَ بتأكيد العودةِ للساحة دون حِداد!

****

يا “هادي"..

لا تترك (رَبْعَكْ) في الدرب وجوماً...دون حِداءٍ يَهديهُم للألفة..

فالليلة يلتئِمُ الأحبابُ على شطآن الوطن الملغومِ..

والنِسوَّةُ يَلْبَّسْنَ الظُلمَةَ حُزناً..

كالظُلمَةِ في رأسِ الحكامِ القَتَلةْ!

****

يا “هادي" لا تَحزنْ.. فـ (الصبح قريب!)..

وشموسٌ قَبلَكَ قاتِلُها (الأصنامُ. القشُّ).. بأدران المحتلِ..

لكنَّ رسيسَ النارِ المَوْجورَةِ في أذيالِ السلطةِ. بات أجيجاً عِندَ اليافوخ!!!

  1. الجمعة: يوم الجمعة حيث اعتاد الشباب المنتفض الخروج في ساحة التحرير للتعبير عن رفضهم لنظام المحاصصة الفاسد الذي جاء به الاحتلال.

  2. الديوانية: المدينة التي ولد فيها المغدور (هادي المهدي)!

  3. جواد: هو "الفنان جواد سليم" مبدع "نصب الحرية" في ساحة التحرير ببغداد، حيث يحتشد دعاة الحرية تحت ظلاله كلما تفجرت طاقات المعارضة فيهم.

(*) تم اغتيال هادي المهدي في 8 أيلول/سبتمبر 2011 في بغداد في حي الكرادة (وسط العاصمة بغداد).